الأحد، 27 مايو 2018

دراما مُهمشة لفيلم يحمل تاريخ إسمه - مراجعة فيلم Solo: A Star Wars Story 2018


" دراما مُهمشة لفيلم يحمل تاريخ إسمه "
..

Solo: A Star Wars Story 2018 - سولو : قصة حرب النجوم

•  إخراج : " رون هاورد "
•  التصنيف :  أكشن - فانتازيا - مغامرات
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي½★★ 



فِكرة أن يقوم ممثل بإنتزاع محلّ « هاريسون فورد » من أجل تأدية دور « هان سولو » هي في حد ذاتها مدعاة إلى القلق . الأمر يختلف في تناوله من حيث المقارنة مع شخصية « فيتو كورليوني » في « العراب » مثلاً ، التي أداها  « براندو » و « دينيرو » خلال مراحل عُمرية متباعدة .  فعلى الرغم من تأديتهما للدور ذاته  ، إلا أن الأخير قام بتجسّيد مرحلة مُبكرة جداً في حياة « فيتو » بعيدة كلّ البُعد عن تلك التي أّدّاها الأول في كهولته . الأمر لا ينطبق مع « هان سولو » ، حتى وإن تشابه من بعيد ، كون أن « هاريسون فورد » قام بتجسيد المرحلتين بواسطة حضوره الشخصي دون فواصل إستراحة كادت أن تخلق حالة من الفتور جراء تبديل الممثل . كذلك أن الشخصية ، بعد أن ضحّى بها صُناع السلسلة في فيلم « نهوض القُوة » ، أضحت الآن بحاجة إلى عودة أسطورية تُعوّض ما فقدناه بتلك المجازفة الرعناء وتليق بإرث الشخصية وتحترم عالمها السينمائي الذي بناه الأب الروحي « جورج لوكاس » وأسس لمرافقه على قدمٍ وساق طوال تاريخه .

القلق ذاته تبدد وتسرب مؤخراً إلى شكوك طويلة مسّت بصورة العمل النهائية بعد أن تم الوقوع على إختيار « رون هاورد » مُخرجاً للفيلم ،  ليس لأنه مُخرج فقدَ لمساته الفنية في أفلامه الأخيرة ( «إندفاع 2013 » ، إستثناء؟) ، وإنما من منوال أن الفيلم أيضاً عبارة عن نسخة مرمّمة قام بإستلامها وأعاد تصوير أغلب مشاهدها بعد أن قامت شركة « ديزني » بطرد مُخرجيه السابقين : « فيل لورد » و « كريس ميلّر » ، على خلفية خلافات إبداعية وفنية ومشاكل في جدولة زمن التصوير . جميع تلك المخاوف تُصاحبك وأنت مُقبل على مُشاهدة عمل حساس ويتحدث عن شخصية حساسة مثل « هان سولو » .فما الجديد الذي يُمكن تقديمه هنا عن الذي شاهدناه في السابق ؟.

أحداث الفيلم تعود بالزمن إلى الوراء مُطلّة على حياة « هان سولو » ، عندما كان يعيش شبابه على كوكب نائي ومستعبَد من قِبل المحتلّين يدعى « كوريليا » . « سولو » يحلم بالفرار من ظروفه المعيشية الكئيبة المليئة بسياسة الإفقار من أجل أن يصبح أفضل طيار في المجرة ، إلى جانب حب حياته « كيرا » ( إيميليا كلارك ) ، اللذان يحاولا بشتى الطرق من أن يهربا من ذلك الكوكب المظلم ، لينجح « سولو » بعد حينٍ بالفرار على غرار « كيرا » التي تقع في قيد الأسر ، فتقود الأحداث بعدها إلى تحالف يقوم به « سولو » مع عصابة من اللصوص والمرتزقة والخارجين عن القانون بقيادة « باكيت » ( وودي هاريلسون ) وحبيبته « فال » ( تاندي نيوتن) ، من أجل إنقاذ حبيبته ، ليدخلوا دوامة من الصراعات المليئة بالأكشن والمطاردة ، تقود  « سولو » إلى تعرّفه على أصدقاء جُدد ، كان من بينهم صديقه الأزلي « تشيوباكا » .


" الحِكاية .. لباس ليس على القِياس "

« سولو : قصة حرب النجوم » - سُخرية العُنوان بحذف كلمة « هان » وإختصاره بـ « سولو » التي تعني « وحيد » ، وحدها  رسالة ربانية تفضي بأنه فيلم لا يمت إلى باقي أفلام السلسلة بصِلة - يعاني من مُشكلتان لا ثالث لهما ، والحديث هُنا ليس على سبيل الحصر بقدر ماهو وصف لضخامة تلك المشاكل . فالأولى تتعلق بعجز داخل الدراما الذي كان كالشعرة التي قسمت ظهر البعير، بين إستعداداتنا لتلقي حِكاية تليق بالشخصية المذكورة أعلاه من جِهة وبين ما شهدناه على الشاشة من جهة أخرى ،  وتحديداً عندما نكون أمام عمل لا يُحدد أولوياته بجدية كبرى ولا شغف يهوى صُناعه ، بل ينطلق نحو مداعبة رخيصة مع مشاهد أكشن كثيرة ( مزعج غالبها ) قامت بنزع حق الرواية في الكشف عن مناطق مخفية في حياة « سولو » فلا تخرج عن تلك التي عهدنها مع الأفلام السابقة ( في أبسط الأحول إستطعنا تأويلها دون الحاجة إلى فيلم ! ) ، هذا من جهة . أما من جهة أخرى ، فإن مُحاولاته في فرض دراميات مؤثرة ، صوب النهاية بالتحديد ، قد بائت بالفشل . ذلك أنها قدِمت على شكل فواصل درامية فقيرة طوال عرضه ، منعت من تشكيل رأي جدي حولها أو حتى النظر إليها بعينين مفتوحتين ، وخصوصاً بأنها كانت عبارة عن دقائق زهيدة بالنسبة لفيلم يمتد بزمنه نحو الساعتين وربع ! ، وكأنها نقاط صغيرة تقع داخل حلقة من العبث الكبير . وإذا ما رجعنا للأساس فنجدها وسيلة شاذة في إستقبال دراما الفيلم وحيلة رخيصة في إحالته ، تجعله منزوع الواقعية وفاتر التأثير ( كالذي يأكل على عجلة ليلحق موعده  ) . أمثلة كثيرة كانت حاضرة مع فيلم « سولو » هذا ، كان بدايتها التسرّع الملحوظ في تقديم الحِكاية دون تطورها إلى مستوى واضح المعالم أو ثابت الأساسات أو يجعلنا نفهم الطبيعة التي قادت « هان سولو » إلى ماهو عليه الآن ، وإستعاض عنها بعامل القفزة الدرامية التيي لا تنشغل بالتفصيل بل تُقدم النتيجة كما هي جاهزة ( تحصيل حاصل ) ، وكلّ ذلك من أجل أن يُحصّل القدر الأكبر من الأكشن والمؤثرات البصرية . لكن حتى هُنا ، تحديداً ،  لا نتعامل مع لمسة شيطانية أو شر محوري ، كما الأفلام السابقة ،  يُغذي الحبكة الرئيسية بالإثارة والترقب أو يعود على الاكشن السابق بوارد إهتمام من قبل المُتفرج - الفيلم وكأنه ينتظر منك تأويل الحدث وسد ثغراته ! . كذلك وضع شخصيات عديدة تحت المِجهر دون إطار يسعها ، يكثر حضورها ويكثر هراءها ، يودي بنتيجة طبيعية إلى إكثار تقلّبها وعبثها ، وثلثه الأخير خير مثال ، عندما حاول المزاودة على ركاكة شخصياته بإضفاء عُنصر الصدمة في تبدلّ القرارات والمواقف ، كان من بينهم الموالين لـ « سولو » : أصدقاءه وأحباءه . الأمر أيضاً لا يتوقف هنا فحسب بل عندما حاول الكُتاب أيضاً من أن يضيفوا توابل ظلامية لشخصية محورية ( لن نحرق المشهد ) ، الأمر الذي زاد من تخمته - رُبما من أجل عمل فيلم قادم يشرح الدوافع والأسباب ( سُخرية ! ) . كلّ ذلك أتى نتيجة تسارع لحظي للأحداث ، مما أودى بالفيلم إلى ضجره جراء نسف قاعدة التلقي والتمهيد نحو إستقبال المتفرج لتلك الصدمات المنهالة على رأسه .

المُشكلة الثانية تأتي من خارج الدراما ، لكن تعكس تأثيرها عليها ، ألا وهي فريق التمثيل . «  آلدين إيرنريش »  يُجسّد « هان سولو» كما هو على الورق (لا شك ! ) ، يسعى بإستماته نحو تحقيق ماهو مكتوب إلى ماهو مرئي ومحسوس ، فينجح في البعض لا في الكلّ . « هاريسون فورد » كان يحمل تقاطيع وجه تحمل تعابير الإجرام مع التهكم والإزدراء ، لكن دون غياب تلك النظرة البريئة المستشرية لما بقي له من أخلاق بطولية صنعت جاذبيته المعهودة ، على عكس « آلدين » الذي يفتقد لكل ما ذكره لساننا وكان صاحب حضور ذو بعد واحد ( شكلي ) . أما مابقي من ممثلين ، فيأتي على الجانب المُضيء شخصية « لا ندو كليرسان » الذي أداه برفاهية ( دونالد غلوفر ) ليُبقي موازين والاهتمام راجحة وقيد الاشتغال مع علاقته بـ « سولو » التي يتخللها أيضاً كيميائية جميلة أضافت روح الفُكاهة والمرح إلى أجواء الفيلم , على عكس باقي المُمثلين والذي أدّوا أدوارهم بكمالية لا يفتقدها التكلّف في بعض الأحيان ، أمثال « وودي هاريلسون » الذي لا أعلم سبب وُجوده هُنا أصلاً ، مع « إيميليا كلارك » التي وكأنها قادمة من تصوير مسلسل « صراع العروش » وقرأت السيناريو على عجلة .



 لا أعتبر نفسي من المتيمين ( المهاويس ) في هذه السلسة ، لكنني على الجهة المُقابلة أجدها أفلام ممتعة وجديرة بالإهتمام والمتابعة ، وبالتحديد عند النظر إلى تاريخها الحافل بالنجاحات وإرثها المسحوب من بهرجة الشخصيات والأحداث والمضامين التي تتخللها وتصنع رونقها الخاص والمستقل عن أي سلسلة أفلام أخرى . لكن هذا الفيلم ، رغم إشتغاله على شكليات السلسة من موسيقى وأزياء ومواقع تصوير ، إلا أنه يفتقد إلى الكثير من تلك المضامين الجمالية التي تميّزت بها من حيث القصّ والتروّي في تصاعد الأحداث وتأجيج صراعاتها ، وينصرف نحو الإنشغال بالزخرفات الخاوي داخلها ، والتي لا يُحجّمها سقف شخصيات ممتعة ولا حتى مظلّية أحداث مُسليّة - كأقل تقدير .

فيلم « سولو : قصة حرب النجوم » ليس بالفيلم السيء ، لأن مُخرجه يعلم مايريد تنفيذه وكيفما يخرج على الشاشة ويُحاول قدر الإمكان من جعله مُتماسك (إلى حدٍ ما) . ولا يقرب إلى مُستوى الإجادة ، لأن أهدافه تجارية بحتة لا يتخللها رؤية فنية تُذكر . لكنه يبقى مابين بين إذا علمت ما تُريده منه وقمت بتخفيض مُستوى توقعاتك ، فهو كفيل في تحقيق غايته ; من أكشن وحركة ودمار ومطاردات مُكثّفة على طول زمن عرضه . لكن يبقى هُنالك سقف دائم لكل شيء ، إذا ما تجاوزه يُصبح الأمر خارج عن السيطرة  ، وفي حال فيلمنا هذا التجاوز جعل منه ينحدر من الإثارة إلى الملل ، كما هي أول عشرين دقيقة منه عندما كان الموضوع جذاباً ، لكن مع إنقضاء الوقت أصبح الحال أقرب إلى العبثية المنفّرة .


تحياتي

الأربعاء، 23 مايو 2018

إمرأة بحثت عن الحب .. وفي بحثها عنه أضاعت نفسها - مراجعة فيلم Let The Sunshine In 2017


" إمرأة بحثت عن الحب .. وفي بحثها عنه أضاعت نفسها "
..


Let The Sunshine In 2017 - إبقى منفتحاً
(Un beau soleil intérieur)
•  إخراج : " كلير دينيس "
•  التصنيف : دراما - رومانس - كوميدي
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي½★★★★


لايمكن إنكار أن هذا الفيلم ينتمي إلى مجموعة الأفلام التي تتناول أزمة منتصف العمر عند بعض النساء وتناقش تداعياتها وسيرها المحفوف دائماً بالمخاطر والمخاضّات العاطفية ، بالرغم من تصريحات مُخرجته الصارمة ، موضّحةً بأنه مُجرّد رحلة بحث مضنية عن الحب ، الذي تُعاني من نقصه الحاد بطلته المُطلّقة . لكن ما لمسناه هو تجسيد كامل لتلك المرحلة العمرية والتي تفرضه على هوامش عريضة أثناء عرضه . والفيلم رغم وقوعه كمنفذ لدراسة مرحلة عمرية عند إمرأة تبحث عن حاجات قد ولّى عليها الزمن وتبدو مُخيفة ومقلقة لمن هم في سنها ، بالإضافة لإحتضانه لمعات فكرية يُحاول تضمينها بإستمرار من أجل معالجة تشريحية للشخصية ( الكاراكتر ستادي ) ، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يكون فيلماً منعشاً ولذيذ الإستساغة ، تُغطيه حكاية رومانسية بلمسة شعرية رقيقة . وتحديداً عندما نتحدث عن عمل تكون بطلته الرئيسية هي الفرنسية الجميلة « جولييت بينوش » ، ذات الرابعة والخمسين من عمرها ، والتي لازالت قادرة على تأدية أدوار لا تتقنها فتيات عشرينية بالقدر الذي تُتقنه وتُضفي عليه إحساسها الرفيع صوب التجسيد .

عُرض « إبقى منفتحاً » في مهرجان « كان » السينمائي العام الماضي ، وتسلمت مؤلفته ومخرجته « كلير دينيس » جائزة نقابة كتّاب السيناريو للأفلام الفرنسية الـ SACD . يستند نصها إلى مرجع أدبي يحمل نفس العُنوان للكاتب « رولانذ بارثز » ، بمُشاركة كاتبة السيناريو والمسرح « كريستين آنغوت » . تلعب من خلاله « جولييت بينوش » دور« إيزابيل » ، وهي فنانة تشكيلية ، مطلّقة ولديها إبنة بعمر العاشرة تتشارك حضانتها مع طليقها ، وتبحث بشكل مستمر عن الحب بين أوساط الرجال المتنوعة .

معظم الرجال الذين تقابلهم « إيزابيل » يتم إدراكهم بالكامل ، رغم تنوعهم ، دون ممهدات كثيرة تهوى مُخرجة العمل نحو تأسيسسه داخل موضوعية جافة ، بل تنقل حياة كلَ منهم على رأسها بسلاسة ، وتضعها ضمن مساحة كافية أمام « إيزابيل » من أجل الإنعكاس والانجلاء من خلالها . وهذا يتضح من خلال عبورها ذلك المزيج المُختلط من أنماط الرجال ، المختلفين في الأشكال والأطباع والأعمار ، ولا شيء مشترك بينهم باستثناء حقيقة أنه ليس لديهم شيء مشترك معها .



تُعاني شخصيات « كلير دينيس » من الشعور المتأصل بالنقص والفقدان الذاتي للعاطفة ، اللذان يقودا في مُعظم الأحيان ، ويقودا « إيزابيل » دون وعي أيضاً ، إلى تقاطع مع مفهوم الجنس البدائي ، الذي يلتقط من عنده الفيلم أنفاسه بمشهد حميميّ طويل وذو تصريحات ثقيلة ، برسالة واضحة من مخرجته على أن الجنس كان ولازال الأب الروحي ، الذي يمتلك موازين السيادة على المفهوم الأولي للعاطفة وبداية تعريف الحب ، الذي من خلاله يخضع لإمتحانه ; إذا ما إستمر فقد حقق غايته التشاركية ، وإذا لم يستمر، بعد تلفظه آخر أنفاس نشوته ، فهو لم يكن من البداية . نتعرف من خلال ذلك المشهد على «فينسنت » وهو مصرفي متزوج ويُمارس الجنس بإستمرار ، يرفض أي مستقبل رومانسي طويل الأمد مع « إيزابيل » ويصر على مبدأ التعويض الجنسي معها كفعل رومانسي وعاطفة ملحة تقوده بإستمرار إلى أحضانها في الفراش ، وهو في الحقيقة لا يرى فيها سوى جسد وماكينة تفريغ ضغوطاته الاجتماعية سواء تلك التي يشهدها في العمل كانت أم المنزل . على غرار الممثل المسرحي « نيكولا » ، المتزوج أيضاً ، والحذر عندما يتعلق الأمر بممارسة علاقة جسدية مع « إيزابيل » ويرى بأن التفريغ يجب أن يأتي في قلب الأحاديث العاطفية الفضفاضة والرومانسية البريئة ، لكن « إيزابيل » في المقابل لا تتهاون في تعبيرها عن حاجتها له جسدياً عن طريق إشباعها غريزياً بجسده المنحوت وعضلاته المفتولة ، بشكل يناهض ما تعيشه مع الآخر من جفاف في العاطفة ورطوبة في الجنس وتطالبه في التعويض عن ذلك الجفاف بإستمرار ولا تجد لمطلبها أية أصداء ( منطق ملتوي صحيح؟ ) .

مع تقدم الأحداث وتوالي الإحتقانات في قلب « إيزابيل » يجعل من تبرير أفعالها وتحديد مآلات علاقاتها في النهاية أمر صعب ، بإعتبار أن المُعضلة الراهنة أصبحت تتخطى مسألة الخلط بين مفهومي العاطفة والجنس وحده ، بل تنتقل إلى مستوى تُصبح فيه قاصرة بالحكم على الأشياء من حولها ويُدخلها بموجبه داخل دوامة من الإلتواءات المنطقية مع شخصيات جديدة لا تفهمها ولا هم يفهموها ، فتصبح ركيكة المشاعر وبلاستيكية الشغف وتضع نفسها ضمن مواقف محرجة مع من هم حولها ، فتُمسي لا تفقه من الحُب إلا هجائيته . رُبما هو القدر ، بصورة أو بأخرى ، يضع «إيزابيل » مع رجال مُتزوجين يرون في العلاقات مُجرد مراحل عابرة لأزمة مُنتصف العُمر ومحطات تشحن ما فقدوه أثناء التعثر بها ، إلا هي من ترى الأمور من منطلق مُغاير ، فهي من تركت عائلتها وراء ظهرها من أجل أن تتفرغ لطموحات بالية وتحقيق مكاسب في الحب تتناثر مع مهب الريح . يُعيدنا هذا الحديث إلى سُخرية العنوان عند البحث عن الحب الذي يسعاه الانسان دون وعي منه لخسارة قيمته في نهاية المطاف . ربما « إيزابيل » لم تفهم بعد كيف يسير هذا العالم ، الذي لا يأمن مداخل ولا مخارج العلاقات بين أفراده - بالرغم من أنها فنانة ، إلا أن هذا الوسط مليء بالتناقضات التي يُحاول الفيلم تضمينها - حتى خاطبها دكتورها النفسي بعبارة يشجعها على عدم التخلي عن البحث بأن تبقى مُنفتحة على الدوام ، لكن في المقابل دون أن تتخلى عن نفسها فتخسرها : " أنتِ لستِ مجرد شخص يمكن استخدامه كعكاز أو عصا لمساعدة الناس على الانتقال من هذه الضفة إلى الأخرى .. هذا غير ممكن .. لأنه، وعذراً على التعبير ...ليس عليكِ أن تكوني في مهب الريح " .


يتخذ أسلوب « كلير دينيس » عناصر التجريب والاستعارة في تصوير مشاهدها ، بحيث يأخذها نحو إحترافية في إلتقاط عدساتها إطارات الشاشة المُتغيَرة دون إعتماد منهج واحد في التعبير ، بمساعدة مديرة التصوير « آنيس غودار » ، التي إتخذت من التنوع أسلوباً في السرد وأحقية في فرش الحكاية ، من حيث اللقطات الطويلة والتي لا يسلب منها « المونتاج » تأثيرها ، بواسطة حركة كاميرا ترددية بين أطراف المُمثلين تتأرجح بأريحية دون إستعجال في قطعها بغية تدوين الأفعال وردودها عند الشخصيات بشفافية عالية ودون إلتباس يبتر من رؤية صانعته في إخراجها لتلك اللقطات ، مما يخلق بدوره عمقاً لميدان الصورة ويخدم إيقاع المشهد ويثبّت ميزانه . بالإضافة إلى عنصار جمالية عند مَشاهد أخرى ، على الجهة المقابلة ، يكثر فيها القطع بهدف خلق إيحاءات تصوّرية لماهية الحدث في الخلفية مع إستمرار شريط الصوت شاغلاً والتركيز على وجه « إيزابيل »  لإلتقاط ردود أفعالها في كل إيماءة أو فعل أو حديث يقابلها .

في الوقت الذي تقطتعه الأفلام من زمن عرضها من أجل نزول تترات النهاية تعبيراً عن نهاية الفيلم أحداثه ، تجد فيه « كلير دينيس » الوقت المُناسب لتبدأ سيمفونيتها المعقدة بهدوء ، وتكمن من خلاله المُعالجة المركزية لحالة « إيزابيل » . نهاية « دينيس » تلك ترفض أن يكون فيلمها عُنواناً للتشاؤم ولا مُنعدم الرقة والحميمية ، بل تسخر من اليأس اللاحق من وصول المرأة إلى عمر معين دون العثور على شريك في الحياة . لذلك فهمنا السبب في إختيار « جولييت بينوش » من أجل أن تؤدي هذا النوع من الأدوار ، كون أنه لاتوجد مُمثلة تفهم مدى الإضطراب الذي يسكن قلب إمرأة حالمة تسحرها ملذات الحياة وتسعى جاهدة في الحصول على موطىء قدم في قطار الحياة قبل أن يفوتها سوى من تعي حجمه ، و« جولييت بينوش » ، بتاريخها الحافل ، خير من برع في فهم كيان المرأة المتذبذبة وخصوصيتها كأنثى ، قبل أن تكون مجرد أداة درامية تُحرَك عجلة الحِكاية .

في النهاية ، يمكن إعتبار فيلم «إبقى منفتحاً » ليس عن الصعوبات وحدها ، سواء فُرضت خارجيا أو تأججت من الداخل ، التي تواجه النساء بمنتصف العمر اللواتي يبحثن عن «الحب الحقيقي » أو يُردن إسترداده أو يتنصلن منه بالكامل - الموضوع في حد ذاته غني ويحمل تداعيات كثيرة لاحقة لمفعوله الدرامي الآني - بل عن دراسة خيارات المرأة وتحليل قراراتها المُتبدلة أمام مُغريات تواججها ولا يسعها مُجاراة تسارعها بإستمرار ، مما يؤدي في معظم الأحيان إلى وقوعها فريسة الإحتضارات اللاحقة لليأس .


تحياتي

الجمعة، 18 مايو 2018

مراجعة فيلم Deadpool 2 2018


" الأخرق الخارق ذو اللسان السليط - الجزء الثاني ! "
..

Deadpool 2 2018 - ديدبول 2

•  إخراج : " ديفيد ليتش "
•  التصنيف :  أكشن - إثارة - مغامرات
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي★★★★


« ديدبول 2 » ، وكما هو عُنوانه ، عبارة عن جزء ثانٍ يعود من جديد برفقة الأحمق اللعين " ديدبول " ، والمحسوبِ ، تجاوزاً ، على قائمة «الأبطال الخارقين» ، لكنه أنه في الحقيقة لا يخرج عن كونه من « المعاتيه الخارقين » - في إعتراف سابق له صرَح قائلاً : " حسناً، قد أكون خارقاً ..لكنني لست بطلاً " . يعود من جديد واعداً ما حققه الجزء الماضي من نجاحات عريضة ، على المُستويات النقدية والتجارية ، ومحققاً بآخر ، ينتمي إلى وجهة النظر نفسها ، بمساعدة مُخرجه الحديث " ديفيد ليتش " ، إنجازات موازية وطموحات عالية تنتهي إلى تحقيق سلسلة قادمة على الطريق . ليفي الفيلم بوعده ويلَبي النداء لجماهيره الطويلة ويقدم  عملاً آخر يمتاز بجاذبية وقوة حضور في الكوميديا والدموية ، ويلتزم بجماليات الصورة عند " تيم ميلر " في إخراجه للفيلم السابق .

الكثير من " ديدبول " والقليل من " وايد ويلسون " يستثمر الفيلم عناوين حِكايته ، منذ إنقطاعها أيام الجزء السابق ، ويُكمل أحداثه في الفترة اللاحقة . لنرى " ديدبول " ، وبعد رضوخ تام لمآلاته الصحية وحياته العاطفية الراهنة ، يحقق الهدف والغاية النبيلة من تحويله إلى هذا النوع من البشر ، فنراه كل ليلة يُحقق القصاص من المجرمين بين أوساط العصابات
«جون ويك ستايل» ، ومن ثم يعود إلى أحضان حبيبته " فانيسا " عاقداً النصر على عالم الجريمة الذي وُلد به قاتلاً مأجوراً وإنتهى به مُشوهاً بغيضاً . لتقوده الأحداث فيما بعد إلى تشكيله فريق مُحايد جنسياً يحمل إسم « القوة إكس » - رداً على عُنصرية العنوان في «الرجال إكس» !، الذي يقوم بجمعه من كل صوبٍ وحدب من أجل حماية طفلٍ « مُتحوَل » يُدعى " راسل " من أيدي رجل « متجوَل زمنياً » يُدعى " كايبل " . فيذهب هو وأترابه ، بعد إفتتاحية رهيبة كما هي إفتتاحيات أفلام «جيمس بوند » مع أغنية «رماد » للمغنية " سيلين ديون " ، داخل مغامرات شديدة الخطورة والدموية مع الكثير من الكوميديا الهزلية في سبيل إنقاذ الطفل وتوفير الحماية اللازمة له .


" مغريات جديدة تهوى اللعب على مستويات أجدد "

يقتسم الفيلم مراحل نموه بين عدة مناطق يشحن من خلالها أحداثه المركبة ، كلَ واحدة تنطوي على حبكة فرعية تُغذي الرئيسية بتحولات وقرارات مُتجددة تزيد من زمن الحِكاية وتوسع من دائرة الصراع ، ما إذا أخذنا بعين الاعتبار أننا أمام فيلم أضخم إنتاجياً عن ما سبقه ، بسيناريو شارك في كتابته خمسة كُتاب مجتمعين ، كان من بينهم " رايان رينولدز " نفسه ، من حيث إستثماره لخطوط درامية متشعبة أكثر وتبديد زمنه بالانشغال «البوبكورني » في الأكشن والحركة ، بالاضافة إلى إستخدام تلك الخيوط من أجل تحقيق أجزاء مُستقبلية في حال إستمرار النجاح المطلوب من السلسلة . يضع العمل نفسه أمام مُغريات كثيرة في تكثيف أدواته السردية والبصرية ، من شخصيات جديدة ومنعطفات درامية عديدة وتوظيف الكوميديا مع الدموية المعهودة على صعيدٍ أكبر (غالبها ينجح) ويحمل تأويلات لوجهات نظر مستقبلية للحِكاية ، لكن مع إبقاء الرهانات شخصية بالنسبة لـ " ديدبول " ومحصورة داخل نطاق صراعاته المحدودة وخصومه المتواضعين ، والذين يحيدون عن أي خطر يُهدد العالم كماهي العادة عند أفلام نظيرة في أجزاءها اللاحقة عندما تُحاول تضخيم الخصم أمام البطل وتُمسي رقعة الخطر التي يطؤها تناط العالم بأسره . كلَ ذلك ساعد بدوره من إرتفاع منسوب القيمة الترفيهية للعمل ، بشكل لا يطغى عليه الملل أو النفور من إستغلال الفوضى المصقولة على الشاشة . لكن المشكلة في الفيلم تكمن بأنه مهما كان التكثيف والتغيير المُستمر لقرارات الرواية وحبكاتها الفرعية مفيداً ، وبإستخدام عوامل الصدمة في كلَ تحول ينتج عنه سيرورة في الأحداث وتطورها ، إلا أنه يجعل من تلقيه صعب الإقناع او صعب الهضم لسرعة وقوعه وتدافعه الجاف دون ممهدات كثيرة تضعنا أمام عمل يؤسس بقوة لقواعده الدرامية لذلك وجدناه ضعيفاً من هذه الناحية . لكن على المدى البعيد ، وبالنظر إليه كرزمة واحدة ، ينجح الفيلم من إقناعك ، ومع ثلثه الأخير الذي يحمل وتيرة تصاعدية في الكوميديا والدراما والأكشن ، يربح رهاناً كان قد وضعه على الطاولة منذ أيامه الأولى في حملاته التسويقيه .

ولأن الفيلم من إخراج " ديفيد ليتش " الذي عهدناه مع فيلم الأكشن الشهير «جون ويك » بجزءه الأول وفيلم آخر يُدعى «الشقراء الذرية» ، فإنه لا يوفر «أونصة» واحدة من مهاراته التي إكتسبها طوال مسيرته في الإخراج وإدارته لفريق المخاطرة في أفلام عديدة ، ويوظف كامل قدراته المحمومة الجوانب في خلق تتابعات حركية ودموية مليئة بالإثارة وحرارة التفاعل يُغلفها جدار من الفكاهة والضحك ، ناهيك عن إستثماره للبيئة التصويرية التي شهدها مع فيلم  «الشقراء الذرية » من حيث تصدي الأخيرة لأفعال القتل والهجوم بصورة توَسع الصراع على إطار الشاشة وبعدسة شاملة تعتمد الحضور العضوي لأفعال القتل والذبح وتراقص الجثث ومن ثم تطايرها ، بالاضافة إلى تكتيكات القطع والوصل في «المونتاج» ، التي زادت من وقعة التلقي وحدة التأثير ورفعت من مستوى التشويق إلى قمة الهرم . جميعها أدت إلى دموية تجعل من الفيلم الأول يبدو وكأنه «نكاشة أسنان» أمام الفيلم الثاني ، ليستكمل " ديفيد ليتش " بدوره أسلوب " تيم الميلر " السابق ويُضيف عليه لمسات سحرية ، تضعه في مرتبة مُتقدمة أمام مُخرجي سينما الأكشن والحركة الواعدين .


" لسانٌ لا ينضب في حلق رجلٍ لا يهدىء "

يستمتع «ديدبول 2» بإستقطاب وجوه جديدة تُشاركه رقصة العته والسخافة التي زاولها منذ عامين على ولادة طفرته ، كان آخرها توظيف ممثل بحجم " جوش برولين " في دور " كايبل " ليشاركه مهرجان الضحك ذاته ، والذي أضاف بدوره كيميائية وطيدة مع " ديدبول " ورفع من مستوى الحِكاية إلى جدية أكبر . ولأن " ديدبول " ، بطبيعة الحال ، من نوعية الأشخاص الذين لا نأخذهم بعين الإعتبار أو حتى بجدية أكثر من اللازم وأقل من المتوقع ، فإن مشوار الرحلة معه لا يكتمل دونما إستمرار في عمل نِكاته الساخرة على مُقدَرات وأسماء وعنواين برَاقة من أفلام إلى ممثلين وأسماء شعبوية مرموقة - هنالك مشهد لم استطع من تمالك نفسي حتى خرَت مفاصلي من الضحك  يُخاطب من خلاله " ديدبول " " جوش برولين " على أساس شخصيته الأخيرة " ثانوس " في فيلم " المنتقمون "  - فلا يلجم لسانه إلى حلقه من أن يشارك أحاديثه أيضاً مع الجمهور بتكسيره «الجدار الرابع» أمامهم وتناوله الأخطار والأفكار معهم دون أيَ وسيط درامي .



 كثير ما أعتقد أن هذا الفيلم فوق النقد وفوق أي إنتقاد ، ذلك أنه من نوعية الأفلام التي تنتقد نفسها ومن هم حولها في الوقت ذاته ، دون الحاجة لأبواق خارجية تعسَيه ، وبسخرية لاذعة حد الألم ، ينطلق باستمرار نحو تسخيف وتتفيه المسميات العريضة والأخلاقيات الكامنة داخلها . فما الذي تنتظره من فيلم ينتقد نفسه بأنه " كسول في الكتابة " و " إنتاجه محدود الميزانية " و" مخرجه قتل كلب جون ويك " و بطله " داعب المخرج من أجل الحصول على الدور " وأن ما نلقاه أمامنا ماهو إلا " خدع بصرية " ؟!! . أجد أن  " ديدبول " لم يُتح لنا الكثير من أجل الحُكم على شخصه ، لأنه في نهاية المطاف لاينتمي إلى هذا العالم الأخلاقي الذي يقطنه الأبطال الآخرين - في مشهد صوب النهاية يقوم " ديدبول " بتكسير مجاديف «الكليشيه» المُعتادة . فحاجاته مُلحة وغرائزه بدائية ، لا تخرج عن تعاطيه المستمر للكحول وممارسته الحب مع عشيقته وقضاءه الأوقات في التهريج وترصد أهدافه من أجل الحصول على بضعة دولارات ، دون إكتراث إلى أن يُحرق هذا العالم أو ينعم بالسلام . وعلى مبدأ « الفخار يكسَر بعضه » الذي يسخر من خلاله بفيلم «المنتقمون» الأخير ، على طول زمن عرضه ، ومن أبطاله الذين يتغنون بهم جمورهم ، كان آخره فيديو دعائي يعمل على تذكيرنا بأن لا ننشغل في الفيلم الأخير وننسى فيلم «ديدبول 2» الجديد . ولأن الحِكمة في مثل هذه المواقف تُسحب أحياناً من أفواه الحمير ، فإن " ديدبول " ، بوعي أو بدونه ، وكأنه يُذكَرنا على أنه البطل الذي نستحقه فعلاً ، لا الذي  نتمناه .

الأربعاء، 16 مايو 2018

مراجعة فيلم Black Panther 2018


" سلمية عالمية ينشدها رجل أسود "
..

Black Panther 2018 - النمر الأسود

•  إخراج : " رايان كوغلر "
•  التصنيف :  أكشن - إثارة - مغامرات
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي★★★★


بعد وصوله الأسبوع الثالث عشر في سباق البوكس أوفيس ، يُحافظ فيلم « النمر الأسود » على مكانته التقديرية بين باقي الأفلام المنافسة ومُتربصاً بحِكايته التي لا تنفك حتى تصل إلى شريحة واسعة من العالم ، كان آخرها عرضه ضمن فعاليات مهرجان « كان » السينمائي والمنعقد حالياً في فرنسا . لا يخفى على كثير منا أن ما سبب شهرة هذا الفيلم يعود بفضله إلى حضور ذوي البشرة السوداء على الساحة ، داعمينه بأصواتهم المُهللة ومن خلفهم أبوقة الساسة والإعلام المساهمين بدورهم في فرض هالة تُغطيه . وبإكتساحه أرقاماً خيالية على عداد الإيرادات المحلية والعالمية ، يتخطى « النمر الأسود » اليوم حاجز المليار دولار وبضعة فئات من مئات الملايين ، لم تشهدها أفلام تنتمي إلى سلاسل سينمائية شهيرة ، على مدار عقود من الزمن ، مثل « جيمس بوند » . ذلك أنه ولأول مرة ، على شاشة « الأبطال الخارقين» ، نشاهد بطلاً أسوداً ، واضح المعالم وكامل الأبعاد ، يشارك بمنطلق تلك الفئة الشعبوية جوارحها ، بعد أن كان النصيب الأسد يأتي لصالح الفئات المتلونة على حساب الداكنة التي أشغلت في أدوارٍ ثانوية عند أفلام نظيرة . وهنا لسنا بصدد الحديث عن تاريخ الفكرة أو أصل نشوءها ، أفلام كثيرة قادها سود البشرة ، بل بورودها داخل بطون « القصص المصورة » ومن ثم خروجها على شاشة عريضة تُضاهي بحضورها أعمالاً عالمية ، إحتاجت أجزاء عدة حتى تُغذي شهرتها الماثلة أمامنا اليوم.

هذا من حيث الظاهر ، أما من حيث الداخل ، فإن شهرته سببها الرئيسي ينبع من فِكرته لا من حِكايته . ذلك أن هنالك شعرة تفصل بين حُب الشيء لذاته عن حبه من أجل فِكرته ، التي تحمل الأخيرة رسالة عالمية تُعيد الحسابات في النظر إلى نقاط في العالم مقصية وتُعاني جهلاً وتأخراً عن نقاط على نفس المدار ، تبعتد فراسخ بحرية ومحيطية وخطوط كنتورية ، تتلاقف التكنولوجيا والديموقراطية والحقوق الإنسانية فيما بينها . ولأجل فكرته تلك ، إستطاع الفيلم من أن يفرش أرضية خصبة لإنبثاق زهرة أمل جديدة في صحراء تلك القارة ، من خلال إستحضار نصر الماضي وحميمية الحاضر ووعود المُستقبل لحضارة تحمل أصولاً فكرية وثقافية نابضة من مزايا جُغرافية داخلية وبوقوعها على ثروة طبيعية ، سماها الفيلم بالـ « الفايبرينيوم » . ثم ما إن ينتهي الفيلم من هرولته التمهيدية تلك  حتى وينصرف نحو أهداف أسمى تتعلق بضرورة وحدة الصف الذاتية في كيان الدولة وأهمية إستقلاليته عن أي مُحاولة في بسط أيدي أجنبية على خريطتها .


" صراع متساوي الأكفة  "

يتقاسم الفيلم صراعه بين بطلين رئيسيين ، لن نقول خير ولا شرَ أيضاً ، فلم يترك لنا مجالاً في الحكم على أحدهما . بصدورهم العارية وأيديهم الخاوية ، دون دعامات ولا بذات مصفحة، يندفع الخصمان بأفكارهم وطموحاتهم التي من أجلها يُناضلان  . الأول ، ولي العهد " تتشالا" ، يُريد إستقلالية عن العالم وتوفير الجلبة على نفسه من مُشاركته العالم السفلي أحزانه ومآسيه ، دون فعلٍ ولا رد فعل من جهته ، وتحديداً لما يظفره بنهج السلف والتابعين من أرباب المناضلين في دولة « واكاندا » حتى والده المُتوفى حديثاً . لكن على الجهة المُقابلة نجد البطل الآخر " كيل مونغر" في نظرة مُستوية ، يرى الإنطوائية المتصلبة عن العالم ذات الإمتناع عن تقديم يد العون لأفراد من نفس الجِلدة ، ما هو إلا تخاذل وإستسلام ، بل ويجده مُشاركة في الجريمة الشنعاء والمدنسة لليدين بدماء الأبرياء . فلسفة نبيلة وثورية وتقليدية وغير مُسيَسة ، تحصد نتائجها بوقت أسرع لكن بُكلفة أضخم . على عكس الأول الذي يرفض الولوج إلى أية لعبة حربية تثير الجلبة فوق رأسه وتدفعه إلى الكشف عن أسرار دولته المدفونة وراء العالم ويبقى رهن المفاوضات السلمية وسلطة القلم والكلمة في التأثير والتغيير . ثم ما إن وصلنا إلى ذروة الصراع حتى نعي تماماً توافق الجانبين على سياسة واحدة تُسمى « تخليص ما يمكن تخليصه » من آفات العالم الذي يقطنه ذوي البشرة الداكنة ، الغارقين في وحل الجرائم وتعاطي المخدرات والتجارة بها إلى الانحطاط الاخلاقي والفساد المتجذر في طبقات مجتمعه ، الذي أصبح العاقل فيه يلعب دور المتفرج دون حولٍ ولا قوة .



" تكتيك واحد وخارطة طريق راسخة "

التعيين والتضمين في « النمر الأسود » هُما وجهان لعملة واحدة  تُدعى « رسالته » ، التي لا يصمد من دونها جدار «المليار ونصف » التي حققها خلال أسابيعه الثلاثة عشر ، على التوالي ، بمحافظته على موضع قدم ، شبه ثابت ، في شباك التذاكر . وخصوصاً بأن الفيلم رغم رسالته الأخلاقية والعالمية ، لا يمتلك قراءة سُفلية تغري الحدث أو تُعرَيه ، فيرضخ تماماً لقراءته الجوهرية والخطابية في عيون متلقيه . لكن حتى لو قمنا بنزع شكلياته المزعومة وعناوين رسائله المتدفقة ، على طول زمن عرضه ، حتى وجدناه فيلماً متميَزاً ، لا متفرداً ، بحيث تأتي عناصره القيمية تراتبياً مع أهدافه التجارية والترفيهية . والفيلم بصورة عامة يمتلك إستقلالية خاصة عن موضوع عالمه الذي يمكثه « عالم الأبطال الخارقين» ، لأنه ما إن قطعنا شريط  «تتر البداية » مع شريط ما بعد «تتر النهاية » حتى نلقاه فيلماً آخر يتحدث بألسنة ذهنية وموضوعية مستقلة يُمكن أن تظفر بنفسها خارج كعكة مارفل السينمائية التي صنعها مع أقرانه . لذلك نراه عملاً مميزاً ويستحق الإحترام ، لكن دون الوقوع بمصيدة « الأفضلية » أو « الماستربيسية » الغربية  .

يعمل المُخرج " ريان كوغلير " ، ولأول مرة ، مع معدات رقمية ضخمة يكمن جلَ عملها في تصميم المؤثرات البصرية والمُخلَق أكثرها عن طريق أجهزة الكومبيوتر . فرغم حداثة تجربته مع تلك النوعية من الأدوات إلا  أنه تجاوز التوقعات ونجح بالصعب وتضائل مجهوده في السهل ، من حيث تقديمه لإستعراضات الأكشن الحركية والمشاهد المحبوكة بإتقان ، والتي تتطلب مجهود إخراجي وصبر مونتاجي ضخم ، بالنسبة لمخرج إعتادت أعماله على الإشتغال الدرامي دون غيره .  فقد فعلها بمجهود يُحتذى به وترفع من أجله القبعة . لكنه يفشل بعض الشيء في عمل المؤثرات التي تكون في معظم الأحيان ، واضحة للعيان ، غير إحترافية بالنسبة لميزانية ضخمة كالتي تم صرفها . لكن لا إشكال يُذكر هنا ، ما إن نظرنا إلى النصف المملوء من الكاسة ووجدنا أن الفيلم يحمل إيقاعاً ممتعاً وروحاً لذيذة في إختياراته لمشاهده التي يغلب عليها الطابع البوليسي والتشويقي ، الذي يُغديه نص سينمائي متميز يقسم جهوده بين ثلة الممثلين وتراكيب شخصياتهم وإعطاء مساحات كافية للظهور والإقناع ومن ثم إجتياحهم إهتمام المشاهد بعلاقاتهم الوطيدة بين بعضهم كعائلة وبين " تشالا " ومحبوبته ، والنابعة جميعها من أساس واحد يخدم الانتماء الوطني  . ثم إن " كوغلر " وفريقه المبدع قام بتنشيط دور الصورة ليخلق نسيجاً يستحمل أبعاداً ملحمية بالاعتماد على رموز بصرية من التاريخ الأفريقي والثقافة القبلية بالإضافة إلى المظاهر المعاصرة والحداثية التي تعكس تأثيرها على الثقافة الراهنة من مظاهر شكلية كتسريحات الشعر والأزياء وإنتهاءً بالأجواء القالبية في كوادر التصوير  وموسيقى الراب التصويرية . والتي بلورت بدورها  على جمعية الهوية القومية لمجتمع السود وإستكمالها عناصر التمكين على منابر المجتمع الدولي  .


تحياتي

الاثنين، 14 مايو 2018

مراجعة فيلم Revenge 2018


" ضحية أخرى للذكورة " ..

Revenge 2018 - إنتقام

•  إخراج : " كورالي فارغيت "
•  التصنيف :  أكشن - إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي★★★★




لا يقضي هذا الفيلم الكثير من الوقت حتى يصل إلى مرامي عنوانه  «إنتقام » ، لكن في الوقت الذي يتيحه لك بتكهن أحداثه خلال العشرة دقائق الأولى أو حتى الوصول إلى نهاية طريق ثأره ، فصدقني أنت مخطىء هذه المرَة . لأنه وببساطة يحجبنا عن إدراك خطواته المقبلة في الساعة ونصفٍ المُتبقيات . في تجربتها الأولى مع أفلام روائية طويلة ، بعد آخرين قصيرين ، تبدأ المخرجة الفرنسية " كورالي فارغيت " برحلة ترهيب ثقيلة على أطراف صحراء خاوية وموحشة عزلتها ، تسحبك على غبطة إلى عمل قاسي ومؤلم بقدر ما هو إمتثالي لفكرة خلاقة تكسر التنميط المهدد لتجربتها الأولى . ولأن المُخرجة هي إمرأة في الهوية والكيان فلا ضرر من أن تودع في مركز الصراع إمرأة أخرى تتلقف الضربات وتطيح بزمرة من الذئاب حولها . إنه أشبه بفيلم سابق إسمه « خليج الذئب » بشقيه الأول والثاني - إخراج " جريغ مكالين " - من حيث الكرَ والفر والقسوة والدم وتبديد مسافة المطاردة وتوسيع دائرة النزاع بين سفَاح مِجوال وسيَاح يقعون فريسته .  لكن ما يفصل العملين عن الترادف هو أن " فارغيت " في فيلمها هذا شجبت النزاع بين أطراف مُشتركة في لعبة : « قط وفأر» ، لا يخوضها الطرف المُعادي وحده بل الضحية أيضاً .

تلعب " ماتيلدا لوتز" - رأيناها سابقاً بآخر فيلم من سلسلة الرعب «الحلقة » - دور "جين " ، وهي فتاة جميلة ومغرية ذات قوام منحوت يُغرق الرجال في سراويلهم ، تذهب في رحلة مع رجل أعمال يُدعى " ريتشارد " في عطلة صيد مع صديقيه الآخرين " ستان " و " ديميتري " . تنتقل الأحداث وكما هي العادة من إرتفاع شبق الذكورة لدى الرجلين والمحصورين مع فتاة جميلة في وسط الصحراء ، فيذهب أحدهما ، ضمن تجاوزات أخلاقية ، إلى إغتصابها ، ظنَاً منه ، في تمايل جسدها أمامه طوال الوقت ، أنها تهدف إلى إغوائه على وجه الخصوص وسائحة في غرامه . لكن الواقع مُغاير ولا يدرك أن الفتاة تتصرف على سجيتها ! . بعدها تتوالى الأحداث وتقود إلى عملية إنتقام شرسة من قبل " جين " ويرد عليها المعادون الصاع صاعين ، فيتضخم النزاع بين الأطراف وينتهي إلى حمامات من الدم .



" مواهب طازجة لمخرجة طموحة "

ينجح هذا الفيلم في إستكمال مُتطلبات الإنتقام المنشودة ، في الرحلة لا بالوصول ، بإستغلال " فارغيت " عناصر مناخية في بيئة الصحراء الجافة وحضورها المكاني كشخصية فاعلة وغير متسامحة بين شخصيات جشعة هي الأخرى ، بحيث تتزامن العثرات شيئاً فشيئاً مع إنكشاف أغطيتهم وسقوط أقنعتهم بتحول الضعيف إلى قوي والقوي إلى ضعيف ، فتصبح راضحة لعامل واحد يُسمى : « الخوف من الآخر » وعدم تدارك أفعاله بعد حين . هنالك مشهد رائع يطارد به الرجال " جين " ، يشبه مطاردة الذئاب لفريستها ومحاصرتهم لها على سفح جبل . من جهة تستمد الحِكاية وقودها من رفع معدلات الإثارة وإعادة تلقيمها بخطط وتكتيكات جديدة يستثمرها خط السرد فتزيد من حدة الإشكال وتُضخمه ، إذا ما أخذنا بعين الإعتبار تجاهل مُغالطة منطقية (ضخمة) في بداية الفيلم والتي يبدأ من عندها حبكته . في هذه الحالة يُمكن أن تتخطى تلك النقطة لتفادي الوقوع بأسألة من نوع : «كيف يُعقل ذلك ؟!»، لأن صانعة العمل نفسها عوَضت ذلك الإستفهام بجواب واضح يُفضي إلى مفهوم « الأتموسفير » أو الأجواء المغلفة للتجربة بشكل عام ، من عناصر جمالية مصحوبة بشريط صوتي مفزع ومتشظَي مع مونتاج حاد يتوازى مع خطين لنفس الزمن ، أشرفت عليه المخرجة بنفسها ، يتفاعل مع سالفه داخل دوامة من عدم إحكام السيطرة على مخارج القرارات المتبدلة لدى الشخصيات والذي يفيض من توترنا أثناء المشاهدة ، ناهيك عن الجماليات الشكلية من ألوان طبيعية ومسافات شاسعة للصحراء تلتقطها عدسة " روبريشت ريفارت " والذي يأخذ بطريقه لون الدماء المجمَل والمنكَه بدوره روح الشاشة بصرياً . ثم ما إن إنتقلنا إلى عُنصر الألم ، وهو الأهم ، حتى وجدناه «ماديَاً » بحت و«بدنيَاً » أكثر من إعتباره «معنوياً » ، فتكمن جماليات ظهوره على خِلقة الممثلين عند الإستجابة بأسلوب يجعل المُشاهد على حافة المكان الذي يجلسه . " فارغيت " في تجربتها الأولى تستمتع كما يستمتع الجزار في تقطيع لحمه . فقد إستطاع فيلمها من أن يجعلني أضغط بقوة على أسناني ، طوال الوقت ، من شدة الألم الواصل إلى صُلبي . إنه فيلم دموي وقاسي ومأساوي إلى أبعد الحدود .



"هامش على ضوء الحِكاية"

يصطدم هذا الفيلم مع حقيقة أن بطلته " جين " تُصبح مطالبة في الخضوع إلى شهوانية من حولها لكن دون المساس بحريتها في الإغواء وصنع الإيحاءات الجنسية ، حتى لو تطلب الأمر بخلعها كامل قطع ملابسها العُلوية مع السفلية ، فلا يُسمح للرجال من مساس جسدها ، في هذه الحالة ،  إلا برضاها  . إنه منطق ملتوي ينتشر عند كثير من حملات ثورجية يقودها نساء ومثليين أو أقليات جنسية بصفة عامة ، وتضعهم ضمن مفارقات شديدة اللهجة . ذلك أنه في فيلم سابق ، فرنسي الأصل  أيضاً ، إسمه : «120 نبضة بالدقيقة » يتناول حكاية مطالبة مثليين شرذمة من حكومتهم الفرنسية بتوفير عقار مضاد لمرض «الإيدز» ، والذي أتى كنتيجة طبيعية من عملهم الفاحشة مع بعضهم البعض ومن أماكن محظورة دون أخذ أية إحتياطات ، لا الوقائية ولا الأخلاقية ، والغريب أنهم يستمرون في المطالبة دون أن يحجَموا من «فانتازيا» مُتعِهم ويستمرون في صناعة إباحية متجددة لمواضع أجسادهم وتبادلهم المستمر  للدماء والهرمونات مع أشخاصٍ جديدة كل ليلة . جميعها أتت على حِساب صحة أجسادهم بحيث تنتهي هذه الممارسات ، في أفضل الأحوال ، إلى رقودهم أموات . المنطق ذاته يركب على الحركة النسوية في « هوليود » اليوم عِندما تجمعت الحَمية لديهم على أبواب العِفة جراء تفشي حالات التحرش من قبل سُلطة رجال نافذين على نساء مُستضعفة ، دون النظر إلى ركن أساسي في القضية يفضي بتحجيم مظلة الأغواء الشائعة وتشاطح المرأة في إبراز مفاتنها وحرارة جسدها . وكل ذلك يأتي عقاباً للرجل «المُغوي» ومطالبينه بتهذيب حيوانيته المتأصلة فيُمسي صائماً عن شهوته ، حتى لو وصل الأمر إلى خلع الأنثى من أمامه غطاء جلدها ! . الرجل يبقى مذنباً في كل الأحوال ، من يتحرَش ويغتصب ويُفاجر ، ويستحق العقاب ، لا جدال هنا ولا خلاف أيضاً ، لكن المعالجة « الباروكية » في مثل هذه المواقف والتي تحمل نزعات إنتقامية وإنتقائية لا تصلح في تجفيف منابع الخطيئة أو تنقل قضاياها إلى خطاب عالمي وتوعوي شامل . وفيلم " إنتقام " ماهو إلا إستمرار لتلك المظلة ، لكنه يبقى بمنأى عن أي شبهة في حال عدم تناوله بجدية أكثر من اللازم . فتظل رسالة المخرجة راهنة أمامنا بأخلاقيتها ، لا بموضوعيتها ، وتنص على ضرورة دفع المرأة بإستمرار نحول القتال من أجل وحدة كيانية وإستقلالية عن أي خوف متجذر من الحيوان (الرجل) الذي يقابلها .وبعبارة تأتي في سياق الحدث ، يقولها  " ريتشارد " لـ " جين " بعد إغتصابها وقضاءهم أشواط متقدمة في عملية الإنتقام : أتظنين أنكِ ذكية بفعلتك هذه ؟ (يقصد الانتقام) ، كان عليك الرحيل دون قتال .. لكن النساء دائماً يحبون القتال " .


تحياتي

السبت، 12 مايو 2018

مراجعة فيلم Terminal 2018


" لعبة الرابط العجيب " ..

Terminal  2018 المحطة

•  إخراج : " فون شتاين "
•  التصنيف :  جريمة - دراما- إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ½★



كثيرة هي الأفلام التي إستنسخت أعمال سينمائية مثل « بالب فاكشن 1994 » و « يوجوال ساسبيكت 1995 » وحاولت تقليدها بشتى الطرق والوسائل ، على أمل عبورها مضمار الاعجاب ذاته . لكن ما لا يفهمه المقلدون أن الشكليات لا تنتصر على المضامين إن لم تؤدي من داخلها إلى أنماط شكلية تحمل دلالاتٍ قوية وتعزز من وحدة البناء الكُلَية ، كما في « بالب فاكشن » لـ " كواينتين تارانتينو " عِندما أصرَ على التمسك بشكليته لكن بوساطة إستثمار صلب للشرذمة في سلوكيات شخصياته وشبكاتهم المتداخلة ، فاستطاع الأخير من صياغة تلك الزركشات الضمنية داخل سطحية الأشياء وعبثيتها ومن ثم قام بإنفاذها على مسطَح الشاشة دون إشتغالات كثيرة تبتر من روح التجربة . ثم إن ما يثير القريحة أكثر جراء مشاهدة أفلام اليوم هو ظاهرة « العشرة دقائق الأخيرة » والتي إنشترت كالنار في الهشيم بين صُناع سينما الجريمة في تقديم الوجبة الدسمة آخر السهرة ، ليس أولها ولا مُنتصفها ولا حتى ثلثها الأخير ، فتصدم المشاهد وكأنها تدهسه ومن ثم تمحي آنف ما لقي وإختبر طوال فترة خداعه في المٌقبلات . وهنا لا نتحدث عن أنماط تماهي دفع التراكمات الحقيقية والناتجة عن معضلات جادة نحو نهايات أسطورية مثل « سبعة  1995 » لـ " ديفيد فينشر " ، بل بتلك التي تُلقي كُتيَبات صغيرة بعد المشاهدة تعتذر عن الفوضى التي لا تمت إلى روح النهاية بصلة .

وعلى خُطى سينما الجريمة في التسعينات وبداية الألفية الجديدة والمستقاة من سينما النوار من حيث العناصر الكمالية مثل : إمرآة لعوب ، رجل ذو ماضي أسود ، وبيئة فاسدة ، يضخ فيلم «المحطة » أحداثه بتتبع المرتزقة " آني " ذات اللمسة الشيطانية في كل موطىء قدم تعبره وباقي أفراد العصابة اللذين يعملون تحت إمرة رئيس منظمة إجرامية غامضة يدعى "فرانكلين " ، فتوكل مهمة كلٍَ منهم بقتل منافسه من أجل الحصول على وظيفة المرتزق المثالي ، فتدور الأحداث من منوال مغرق بالكوادر الظلامية ، من غرف فنادق خافتة إضاءتها وسراديب محطات نقل مهجورة وشوارع خالية الوفاض من أي جنس بشري طبيعيي ، تقتصر على شخصيات متلونة وظلامية وموحشة دواخلها والتي تعيش حياةً مزدوجة ولعوب جراء الانحطاط الاخلاقي والمستشري لجغرافيتها .


 يٌعطي الفيلم إنطباعاً عن مخرجه بأنه ينشغل كثيراً في إجراءات شكلية مُطوَلة تغطي على فراغ السيناريو داخله ، وهي حالة تُمكِنك من إدراك منطقه في العشرة دقائق الأولى : كثرة حوارات ، كثرة شتائم ، وكثرة إيحاءات جنسية . حيث لا ضرر وقتها من حملك الورقة والقلم وتبدأ في تدوين مُلاحظاتك وتقييماتك وتفرز قوائم الإيجابيات والسلبيات دون إنتظار نهاية الفيلم . وهي حالة شاذة لا تترك مجالاً من أن يتشرَب الذهن لأفكاره المتلقاة حديثاً ، لكن الفيلم السوقي يُجبر متلقيه أن يجاروا سوقيته . الأمر أيضاً أقرب إلى حضورك ورشة تدريبية لصِناعة الأفلام ، تعرض أمامك الفروض المنزلية لرجل يظفر بتجربته الأولى كمُخرج وكاتب وينتقل بين فضاءات واسعة أكبر من قدراته ، الحالية ، ويشطح بإستطراده لحكاية يُمكن أن تُلخص بكلمة وأنصاف الكلمة .

عند مُشاهدة فيلم « المحطة » سواء على شاشة صغيرة كانت أم عريضة أول ما يجذبك بطبيعة الحال هو تدافع الألوان وتمازجها البصري ، في حال كانت شكلية تُشبه مهرجان الأصباغ الهندي ، أم عضوية عندما تخترق جدار شخوصه وهالاتهم ، حينها ستجد ، وعلى نطاق واسع ، أن الفرشاة اللونية هي نفسها من رسمت الشكل والعضو وجمعت الشيء مع اللاشيء في نقطة لا تحادي النظيرين بل تقف خارجهما ،  عبَرت بدورها عن ذائقة صانع العمل بوقوفه حائراً بعد إنتهاءه من تدمير لوحته ! ، جراء تخطيه حاجز المعقول ( القدرات ) وذهابه نحو جرأة أسلوبية على أثر سابقيه من كِبار المخرجين ، وهذا يتضح عندما يحمَضنا طوال فترة عرض الفيلم على أساس ( مبهم ) ويهرب إلى أساس آخر بنتيجة تكثف الحدث من جديد بدلاً من أن تفككه وتبين مواطن معالجته ، وكأننا نلج داخل فيلم آخر يشرح سابقه .  وهنا نتحدث بصفة خاصة عن مُخرج مع تجربته الأولى في الاخراج والكِتابة ، ويتعاطى مع أسماء ليست بالهيَنة ، مثل " مارغوت روبي " ، " سيمون بيغ " والعائد من سباته " مايك مايرز " ( صاحب سلسلة « أوستن بوار » ) .

الفيلم أشبه بلعبة قديمة تٌدعى : « الرابط العجيب » ، والتي تعمل على تكوين مقاربة منطقية بين أنماط تختلف مصادرها لكن تطبيقها يقع ضمن مجال مشترك ، جامعة بدورها ذكاء الطرح وقيمة الربط الجوهرية . أما في حالة « المحطة » الرابط والنمط لا يلتقيان حتى في الأحلام  ! ، حاول " فون " من أن لا يلتزم بحدود عقلانية وإنطلق نحو محتوى مضجر من الخطوط المتقطعة وشبكات العلاقات المٌعقدة ، لعل وعسى أن نعي أهدافها أو حتى دوافعها ! . لكن في الحالتين لم يسر كل شيء في التقارب أو حتى التوازي وإنما في التنافر والتشاطح ، مما قاد إلى ضعف أكبر يلجأ إلى حله كثيرٍ من الكُتاب ، كالمدد الإلهي والحلول المُلقاة بالباراشوت من السماء ، ليوَرط الرجل نفسه ويُوَرط العاملين معه . فلا يخدمه سرد من لملمة مواضيعه ولا تنفيذ من إبراز مواهب طازجة ، وتفضى النتيجة بحتمية إلى إخضاع نفسه وإخضاعنا داخل لعبة يراها ذكية ، لكنها لا تخرج عن أحلام يقظته . " فون شتاين " الذي عمل سابقاً مُساعداً ثانياُ وثالثاُ لمُساعدي مخرجين آخرين ! ، ينفصل عن باقي أقرانه بعد أن حقق معهم أفلاماً ذات قيمة ( إلى حد ما ) ، لكن في إنفصاله هذا يتعثر ثم يتدهور .




في الوقت الذي تستعد به " مارغوت روبي " لتأدية دورها القادم في فيلم مقتبس عن حياة " هارلي كوين " الخارجة من مغلفات القصص المصورة والتي جذبت أنظارنا في فيلم سابق إسمه « فرقة إنتحارية » ، نجد أن فيلمها « المحطة » هو توفير للجهد والوقت الضائعان في إستنزاف تلك الموهبة بأدوار مشابهة تعزز من الركود الكامن في إستسلامه لحضور واحد على الشاشة ، ويقود في نهاية الأمر إلى خنوع لسلطة تلك الأدوار والمُهددة لطاقات تمثيلية مشابهة . قد يكون دور " هارلي كوين " ذو فائدة آنية في حياة " مارغوت روبي " لكن لا أن ينتقل إلى مراحل متقدمة يستهلكها في جميع الأوقات وخصوصاً أن روح " هارلي كوين " تعيش داخلها في الآونة الأخيرة ، فهو الدور الذي بزغ من نجمها وليست أدوار أخرى ! ، ونخشى في هذه الحالة من أن يستمر الوضع في سُكنى تلك الروح إلى فيلمين آخرين . فنستغرب من ممثلة لا يفصلنا الكثير عن ترشيحها الأخير لجائزة الأوسكار أن تدخل أرضاً لا تنتمي لها ، بحيث لا ندري أهي حقاً قرأت سيناريو هذا الفيلم أم إكتفت بقراءة حسابها البنكي ؟! .


تحياتي

الجمعة، 11 مايو 2018

مراجعة فيلم Game Night 2018

" ضحك حتى الفتاق ! " ..

Game Night 2018 - ليلة اللعب

•  إخراج : " جون ديلاي " & " جوناثان غولديستان "
•  التصنيف :  جريمة - مغامرة - غموض
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★




ماهي إلا دقائق معدودة على بداية هذا الفيلم حتى ينزلق المُشاهد على قفاه من شدة الضحك ، صاحباً معه نوبة من الهيستيريا ومتلازمه من الفكاهة تستشريه طوال مُدة عرضه ، من منوال خالص في الكوميديا والهزل الحاقنان بدورهما أجواء الفيلم عامة . كيف لا ، وهو من بُطولة عَلم إسمه " جيسون بايتمان " ، الذي يكفي وُقوفه صامداً رأسه ، متصلباً جفنه ، رافعاً حاجبيه ، وماثلاً أمام غباءه وغباء من يشاركونه خصائص العتهِ ذاتها ، ويتناوبون بحلقاتهم الكوميدية داخل أجواء مشحونة بالعشوائية والسذاجة المُفرطة في إستقبالهم للمواقف ، المفترض بأنها جادة ، بصدر شرِح وسخرية حد الإشباع وتهكم هزلي ناضح من بئر التخلف نفسه . فعلى الرغم من إستحلاء " بايتمان " مُمارسة تلك الأدوار المُعتادة والذي صادق بدوره على رؤيتنا له من خلالها ، إلا أنه وبكلَ وضعية ينبثق بها من حدقة الشاشة ويظهر بصورته المحفورة في مُخيلتنا جراء أفلامه السابقة ، إلا أنه يستطيع في نهاية المطاف من أن يُنسينا ماسلف ويُشغلنا بما أقبل نحو إستقبال المزيد فالمزيد من جرعات كوميداه المنفردة والتي أصبحت ، مع إنقضاء فترة التعويد ، علامة مطبوعة على جبينه وتستقطب ما يُنتجه من بلاهة وسخافة بحيوية كامنة وتهليلات مرتفعة .

يفتتح الفيلم مهرجان ضحكاته بتعريفنا المباشر ، دون مقدمات ، على " ماكس " ( جيسون بايتمان ) و " آني " ( رايتشيل مكادامز) ، وهما زوجان يُديران بشكلٍ دوري ليالٍ يقضونها في اللعب مع الاصدقاء داخل تحديات مُتنوعة من " أحجيات " إلى "ألعاب تقليدية " ، تُثري التحدي فيما بينهم وترفع من مستوى المُتعة لديهم . نتعرف من بعدها على " بروكس " ( كايل شاندلير ) أخو " ماكس " والذي يمتلك ماضي معه ، يأخذ منحى المُنافسة الأخوية ، يفضي بتفوق أحدهم على الآخر أو كما يظن أحدهما ، على الأقل ، فتنطلق الأحداث من نقطة برزت بها عجرفة " بروكس " في إقتراحه الجريء بالرفع من وتيرة اللعبة وتحميتها بالوطيس الأكبر ونقلها إلى مُستوى أعلى وأعقد بواسطة عملية إختطاف لأحد اللاعبين والإنفصراف نحو البحث عنه وحل اللغز الذي يقود إليه . بعد حين ، ينقلب السحر على الساحر ، وتتحول اللعبة إلى عملية إختطاف حقيقية ، تكشف أسرار وخفايا الشخصيات بين بعضهم البعض ، وتقعد مابين كرٍ وفر ولغزٍ وسر ، تنجلي من أجلها الحِكاية إلى عثرات ومصائر على المحك ، وأحداث لا على البال ولا على الحسبان ، وتضع جميع المُشاركين في تلك اللعبة داخل أحجية حقيقية ، يسابقون الزمن من خلالها في سبيل حلها وتدارك عواقبها .



جهود الفيلم الفعلية هذه المرة تتوزع بين كتابة : " مارك ريبيز " ، وإخراج : " جون ديلاي " & " جوناثان غولديستان " ، مُجتمعة فيما بينها بترتيلة واحدة ، إستطاعوا بواسطتها أن يخلقوا إيقاعاً فيلمياً مُتسارعاً ، يُلقيك على وجهك في جوف الحدث ويخلط مُكوناته الشكلية بسرعة قياسية ، من "كوميديا" و "سرعة" و"أكشن" إلى "جريمة" و"هرجٍ" و"جد" ، ناهيك عن تطاوله ( بعفوية ) على أعمال أخرى وأسماء كُبرى في الوسط ،العامل الأبرز في الفيلم، وخلط الحابل بالنابل في دوامة من التخطيطات المُتصدعة والناتجة عن شخصيات مُتصدعة هي الأخرى ، ومسطحة عملياً ونظرياً . لكن تسطيحها هُنا هو ما يخدم الرواية ويعطيها طعماً خاصاً بها ، وبالتحديد عِندما تنقسم البطولة الرئيسية والمُساعدة والكومبارس بقِسمة عادلة يؤدون من خلالها وظيفة واحدة ، لكن هذه المرة بإحترام المُسمى الوظيفي لكلٍ منها ، دون تتفيه وتسفيه الواحدة على حِساب الأخرى أو خروج أحدهم عن السياق بغية تحقيق قفزات درامية لا ضرورة لها ، كما هي أغلب أفلام الكوميديا في أيامنا هذه . لذا ، يعود الفضل الأضخم إلى توزيع الفيلم جهوده بين كتيبة مُمثليه ، عن طريق إفساحه المجال لخصوصية كلٍ منهم في الانجلاء وفرض الإنطباع ، فراداً فراداً ، على الشاشة دون تزاحم ، وإقناع المتفرجين بوحدة كيانية لكلٍ منهم ، عن طريق إقناع أنفسهم ومن ثم إقناعنها بأن اللبن أسود وطعمه حار ويستخدم في المكياج ! ، ففي هذه الحالة لا يسعنى القول سوى أنه نجح في مسعاه ذاك . لكن بطبيعة الحال ودون تحميلات تسحب إيقاع رتيب للفيلم ، يُمكن القول بأن الأبطال المحوريين " بايتمان " و " مكادامز " يسحبان طول نظرك إلى كيميائيتهم المُشتركة والفعالة ، ليس في النطاق الكوميدي وحده ; وإنما في الحميمية بينهم كزوجين وأبلهين وطفلين بالغين في الوقت ذاته .

كل ذلك وأكثر يُمكن إحالته إلى إعتماد صُناع العمل على تغذية أحداثه بدماء أفلام سابقة وإستعارة مُسميات فنية بارزة ، إبتداءً من أفلام عبثية كالأبطال الخارقين وشخصياتهم وإنتهاءً بأفلام النُخبة وقاماتهم ، بالاضافة إلى توظيفه الكوميديا السوداء في نقد مبطَن ، لا يٌصرَح كثيراً ولا ينشد رسالة مباشرة ، على خلفية قضايا وسلوكيات وأنماط حياتية ومجتمعية وسياسية تعيشها البلاد ويقلبها رأساً على عقب على " نافوخ " المُشاهد بلسعة كوميدية ساخرة . جميعها مزايا زادت من تفاعل الأخير مع شاشته في إسترجاع متواصل لكم الأسماء والأحداث والصور المُلتقطة والمدفونة في جوف ذاكرته ، ويشترك بدوره في حل خيوط اللعبة مع الشخصيات وإبقاء نفسه مشغولاً ولاحماً ذِهنه مع مُعطيات الفيلم جراء كم الأفكار التي يطرحها ويجد المُشاهد نفسه مستسلماً إلى كل مايستطيع إدراكه ويلقاه مألوفاً .



إنه ليس بفيلمٍ كامل ، لكنه يدرك جيداً فوائد إستثمار كمالياته البسيطة ، على عكس أفلام ، لن نقول موازية ، كانت تعتمد توليفة واحدة في إلقاء نِكاتها ولهوها المستمر وعبثيتها المنفَرة حد العفن ، والتي ترتكز على قواعد راسخة في رمي الشتائم المتناثرة والتي يقبع أكثرها إحتراماً : من الزِنَار وتحت ! ، وتنسى الهالة القَبلية والتي تسبق خروج القمامة من الأفواه بواسطة وضع سلة مهملات أنيقة تُجمَل المنظر العام وتستحمل كمَ القذارة المتدفق من تيار الشتائم ، الذي أصبح مصدراً موثوقاً يغذي سينما الكوميدي اليوم . لذلك لن يرى الفيلم المنشود ضوء نهاره إلا إذا إحتوى على تلك النوعية المتدنية من الهزل والفشل . لكن «ليلة اللعب» هو مثال صارخ على صندوق القمامة الأنيق ، والذي يعي تماماً مايحويه وكيفما يستصيغه بإقتدار دون رخص ولا إستسهال ، فيجمَله بالأسلوبية التي تمنح كوميدياه وزناً ووقعة على مُتفرجيه عن طريق عرض تجربة إستثنائية ، لن نقول الأفضل ، لا نجدها كثيراً بين قمامة الانتاج النظيرة كل عام .


تحياتي