السبت، 28 أبريل 2018

مراجعة فيلم Avengers: Infinity War 2018

" حروب العالم لا تنتهي " ..

Avengers: Infinity War 2018 - المُنتقمون : الحرب اللانهائية

•  إخراج: "  الأخوين روسو : أنتوني وجو "
•  التصنيف :  أكشن - مغامرة - فانتازيا
•  حالة المراجعة  :  قراءة نقدية + مراجعة بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★




تتهافت اليوم أفلام «الأبطال الخارقين» إلى غزو صالات السينما ، المحلية والعالمية ، منتزعة بدورها المستهلكين من واقعهم الجاف إلى آخر رطب تتجسد فيه الأحلام والرغبات طواعية دون عثرات ولا ممانعات ، تُلبي نداءاتهم للوحدة المنظورة في عالم يعيث به المُجرمون فساداً في الأرض ، ومُلتقين بتلك الفئة المُخلَصة لأقدارهم وطموحاتهم في عالمٍ بديل ينتصر فيه الخير على الشر دون إشتغالات كثيرة تُجهد من تفكيرهم ، الذي يظل بمُستواه الأدنى من حيث الوعي المطلوب لديهم كمتفرجين ، نظراً  للوهم الذي يستقبلون به مادتهم ويعون تماماً ما يصنعه من شطحات عريضة بين ماهو واقع وبين ما هو خيال ، فيجبرهم الأخير على تجنب الغرق فيه خارج ظلمة صالته وقت عرضه . لكن تبقى تلك الأفلام مطلب أساسي لما يتوق إليه المتفرج العام ويبتغيه ، أو لما يريد أو يحب أن يكونه ، فهي تجسيد لكل ما لا يستطيع أن ينجزه بنفسه أو يُغيَره بقدراته الأرضية ، فيراها من منظور بطله : الذات الأخرى منه أو صورته في المرآة ، الأكثر بطولية والأقدر على تفعيل دورها في المشهد العالمي أو البيئة المُحيطة به . لذلك تختلف آلية التلقي من مكان إلى مكان ومن بلدٍ إلى آخر ، لكن ما يجمعها في بؤرة إهتمام واحدة هو التقارب الذي تشتغل عليه تلك الأفلام في مُخاطبة مُتفرجيها ، نابعة من عوامل مناخية موحدة ، تتشاركها الأقصاع الأرضية في صراعاتها وإنكساراتها المُتتالية ، وعلى خلفية ماضي عصيب من العثرات ، تفتحت به أزهار تلك الأفلام  : أثناء الحرب العالمية الثانية ومالحقها من بدايات الحرب الباردة للقرن المنصرم ، عِندما كانت «النظرية الهتلرية » لا تزال تستحوذ على عقلية المشهد السياسي في تصديه للعدو المُشترك ، فيصنع تحالفاته اللازمة ، ويضع خلافاته جانباً  ، ثم ينطلق نحو درء الخطر المنظور في عيونه المُتربصة .

في عالمنا اليوم ، نموت ونحيا وتبقى الصراعات حيَة لا تموت ، نعيشها كل يوم وكأننا على بركان ملتهب ، من إحتقانات طائفية وحزبية تنتهي إلى حروب بالوكالة ، يدنو من فكوكها الشباب الدولي ويعايش تلك المصائب من منظور أقرب عما سبقه ، لما يوفره عصر التكنولوجيا اليوم من أدواتٍ مكنته من مجاورة الحدث وكأنه حاضره ، فنجد الملايين منهم ممن يرغبون في التعبير عن غضبهم ولا يجدون وسيلتهم الذاتية في إبراز دورهم المؤثر في الساحة العالمية ، يلجأون بلاوعيهم إلى ملاذ الفيلم الآمن ، القادر على تحقيق ماسبق بصدر رحب يتنفس الضغوطات عنهم . علماً بأن المتفرج العادي يعي تماماً أن مثل هذه الأفلام ليست حقيقة ولا تقرب إلى الواقع بصلة ، وهو يشتري الوهم بسعادة غالبة ، جميعنا نفعل أو نعي ذلك  هرباً من قصور الواقع من تخاذله معنا ، فهذا الوضع لا ينطبق فقط على مفهوم «الأبطال الخارقين» وحدهم : ممن خرجوا من بطون القصص المُصورة ولمعان مُغلفاتها ،  وإنما من قيمة البطل الحقيقية في السينما منذ فجر تاريخها ، الذي يأبى أن يكون راضخاً لا لقوانين ولا لمُهادنات ، مُتوكلٌ على الله ومن ثم على مبادئه في إنتزاع حقه بيديه العاريتين . جميع المُعطيات تلك لا تتعلق بمسألة أبطال يُمثلون البديل الآخر منا فحسب ، وإنما تتعلق بدور السينما الإدراكي في تقويم اللاوعي لدينا ، الذي تخلقه في إشتهائنا النظر إلى الواقع البديل بقلب نبض وصورة حية ، والتجارب التي نُعايشها على رقعة الشاشة من قتل وذبح وحب ودراما وميلودراما ، ماهي إلا حاجات تُرضي غرور طبيعتنا المُتبلدة في إصقالها ثوب المثالية في بوادر سلوكنا - نحن من نشهد الخطأ بأعيننا دون حولٍ ولا قوة منا في تقويمه ، لذلك يستشري حُب السلاح ولون الدم ونشوة الجنس تفكيرنا ، لأنه يجعلنا بمنأى عن الإدانة المباشرة ، سواء كانت من سلطة القانون الداخلي أو من سطوة العُرف الإجتماعي .

رٌبما تطور الموضوعية للمعطيات السابقة والتي تُحاول إحالتها السينما إلى لُب الواقع المعاصر ، جعلها تُبادر إلى تشكيل أنماط تماهي نسيجه العام ، فقد أصبحت الـ " فورميلا " المعتمدة في توليف تلك القصص تنص على ضرورة ولادة البطل الرئيسي من رحم الواقع ومن بيئة مُتمازجة الألوان وطواعية للفروقات الفردية ، فنراه يحقق التدرج بنصره على بيئته المُحيطة والواقع الذي يٌسيطر عليه ، ليذهب فيما بعد ضمن تحالفات مع من يُشاركه خصائص البٌطولة ذاتها بغية تحقيق أهداف أعظم من تلك التي تنحصر داخل دائرة صراعاته الروتينية ، فينطلق إلى مدار أوسع يستشري العالم أجمع . وهذا ما تعكسه تلك الأفلام في الانطلاق من وحدة كُلية لكيان البطل في أفلامه المُنفردة وتنطلق نحو جلبة مصيرية تجمعه مع سائر طاقمه في مُواجهة الـ " هتلر " الأعظم والمُدمَر للعالم . فتلتقي المصالح وتؤجل الخلافات ويؤول الوضع ذاته إلى تحالفات واسعة تُطيح بمُخططات العدو كاملة . جميعها تُفسر المنطق التجاري في إستغلال الفرضيات تلك بالإنصراف نحو إستثمارات عظمى تختزل التكثيف والتلويث على الشاشة وتستفيد من تذاكر الوهم التي يبيعها الواهم ويبتاعها الموهومون .



لكن مهما تحايلنا على تلك الفئة في نظرة مُستعلية - حاشى للكاتب أن ينظر بها  - بإعتبارها أفلام تجارية بحته ، إلا أن الواقع يبقى واقعاً ، والمشهد السياسي حاضر ويعيش ويُعاصر ويعكس آفات العالم على شاشة من مرأى المُتفرج دون هروب منه ، وهذا ما يُمكن إحالته الى كم الأفلام التي أنتجت مؤخراً وتبتعد عن نمطية الأسلوب المعتادة ، وتذهب إلى السجالات الداخلية للأبطال ، دون تهميشهم وإقصاءهم إلى تلك الرقعة من التفكير التجاري والتأكيد على سطحية شخصياتهم الكرتونية ، بل بإعتبارها شخصيات آدمية تٌفكر وتصارع وتشهد إرهاصات مُتتالية كالتي يلمسها المتفرج ، فنرى فيلماً بثقل « كابتن أمريكا : الحرب الأهلية 2016 » الذي يُعد من أفضل الأفلام التي فرضت ، جدلاً ، التفكك الداخلي بين أطراف التحالف بغياب ناقوس الخطر الأكبر والموحد لصفوفهم ، ونشهد من خلاله الانقسامات والتكالبات من أجل تحقيق السمو الفردي لجهة على حساب الأخرى ، تنجلي من خلاله الصورة إلى أجواء أكثر ضبابية وتتلون الشخصيات بألوان أكثر رمادية ، ولا ننسى المثال الذي شهدته الساحة مؤخراً بصدور فيلم « النمر الأسود 2018 » الذي شجب صالات السينما بالتكتلات العرقية في مجتمع السود ووسع نطاق التحزبية لديه ، وكل ذلك في سبيل تعزيز ثورة الحقوق المدنية والاستشهاد بما يعيشه البطل داخل الشاشة ويعكس تأثيره على المشاهدين خارجها .



وفيلم «المُنتقمون : الحرب اللانهائية» هو إمتداد لتلك المظلة السينمائية وإعادة إحياء «النظرية الهتلرية» من جديد على يد عدو خطير بقدر ماهو حذِق ويمتلك «كاريزما» كافية لتُغرق المُتفرجين في بلاليع عشقه ، وكل ذلك دون الإنحياز عن وطأة الخطر الراجلة على ظهور أبطال الحِكاية الرئيسة «المُنتقمون» ، كيف لا وهم من جففوا منابع التغذية في أفلامهم السابق ونسوا التطرق إلى شخصية الشرير الرئيسية . لذا يُمكن إعتبار فيلمنا هنا هو عن ذلك الشرير " ثانوس " . لكن " ثانونس " ليس مجرد شخصية سيئة السمعة وتسعى إلى السفك والذبح وحده ، وإنما تمتلك حاجة مُلحَة تدفعه إلى الإرتقاء من خلالها ، فلا تقتصر على مسعاه نحو التدمير والتخريب بهدف الحصول على القوة المنشودة ، هو يعي تلك السلبيته والقذارة التي يغمس بها نفسه وتكلفه أغلى مايملك ، وإنما ما يحتم عليه ذلك المنحى في اللجوء إلى سلك طريق يحمله إلى الإستحواذ على إرادة الرب في تقويم الكون وتنظيمه من وجهة نظره وأيديولوجيته الخاصة ، والمُرهقة من آفات العالم الذي يقطنه ويسعى إلى تعديله كما هو «المنهج التطهيري» عند " أدولف هتلر" - فرضاً ، فنراه بكامل مُقدَراته يبذل الغالي والنفيس ويختزل عمليات التنظيف والتطهير المُمنهجة بغية تحقيق أجنداته ، والتي تُفضي بطبيعة الحال إلى عمليات تنظيف من نوع آخر تقوم بها شركة الانتاج بغية التخفيف من دزينة الأبطال المتواجدين على الساحة ، والذين يتناولون الخطر من جغرافيات مُختلفة وعوالم مُتباعدة ، لكن هذه المرة داخل بؤرة إهتمام واحدة تُسمى «ردع ثانوس » .

سيناريو  الفيلم الذي قام بكِتابته " كريستوفر ماركوس " & "  ستيفن مكافيلي " ، اللذان شاركا الأخوين " روسو " في أفلامهم السابقة ، لا ينشغل كثيراً في منح شخصيات أبطاله مُنحنيات درامية جديدة ولا أبعاداً تجسيدية غير التي شهدناها بأفلامهم المُستقلة ( رهان عادل) ، بل يصب جام تركيزه على زعزعة مضاجعم في البحث عن وسيلة لإنقاذ الكون من أيدي " ثانوس " ( هو المنشود من الحِكاية ) ، الذي أداه " جوش برولن " بحرفية نضحت من ثوب المؤثرات الذي يُغطيه ،  بأداءه الحِسي الذي يسحب تعاطفك ونطاق خوفك ويستحوذ على كامل إهتمامك ، وبالعلاقة التي تربطه مع  إبنته "غامورا " ، فقد كانت أبعد من كونها علاقة تخاطرية ، هي أقرب إلى الارتباط بخيط رفيع يتوسط مشاعر الحب من جهة ، وما يحدها من كراهية في الجهة المقابلة . رغم التبعات اللاحقة من تخبط النص على هوامش فرعية داخل فصوله في التبديد والتسويف ، والتي أتت كنتيجة طبيعية لحقت صُناع الفيلم وأجبرتهم على دفع الضريبة جراء التكلفة الضخمة التي قاموا بصرفها على التكثيف في السرد وإطالة زمن الحرب ، والمحال من تبذير في صرف المعارك المنفصلة وعلى عدة جبهات ، مما أعاد عليه بالتُخمة والتضخم ، جراء زيادة منسوب بعض المشاهد في التأهيل والتسليح لمايقارب الـ30 شخصية على حساب إحالة الرواية إلى زمن أقل يلبَي النتيجة ذاتها ، نحن نعي حجم الانجاز المتطلب في إنجازه والأخوين " روسو" قاما بعمل جهديهما ، لكن ليست دائماً ما تكون النتائج على توافق تام مع الجهود المبذولة ، بالإضافة إلى حشر كوميديا ( بعض منها ) مُبالغ في دحشها وعصر ممثليها دون ضرورة درامية أو تخدم سياقه ، شهدتها أيضاً أفلام " مارفل " من خلال فيلمين أو ثلاثة سابقات ، وكانت في غير محلها ، وبالتحديد تلك المتلفظة من أفواه شخصية بوزن " هالك " ، التي عمد المُنتجون إلى تهميشها وتسخيفها بالقدر الذي لا يتمازج مع طبيعتها المُتقلبة والغاضبة ، فأفقدها هي وصاحبها " مارك رافيلو " بريق الحضور ، المُستفاد من غياب عنصر التوقع لأفعالها ، ناهيك عن إلتزام الفيلم بالتبعية دون الإنفراد بتجربة مُستقلة ، بحيث تظفر الأحداث بنتيجة تُجبر المشاهدين في الإعتماد على ذواكرهم في تبرير كل نفس يخرج على الشاشة عند مراحل الضبط والربط  بهدف التحليل . قد يختلف معي البعض في هذه النقطة ، لكنها نتاج أفكار إنسان شاهد الـ18 فيلماً السابقات ويرى بأن هذا الفيلم مُوجه للمُعجبين والمتابعين لذلك العالم فقط ، فيجعله يفقد شُمولية التجربة وإنفراديتها لمن هم حديثوا الكار ( ومن يهتم؟) وخصوصاً مع تقدم أحداث الحبكة تدريجياً صوب النهاية ; يزداد الأمر تعقيداً .




يمتلك فيلم «المُنتقمون : الحرب اللانهائية» مزايا عدة نابضة من شغف الأخوين " روسو " في إخراجهم لتلك النوعية من الأفلام ، كما عهدناهم مع أفلام سابقة ، لا تقل جودة ، كان آخرها فيلم «كابتن أمريكا : الحرب الأهلية» الذي أجده حتى الآن أفضل إنتاجات «عالم  مارفل  السينمائي» . الأخوين " روسو " هنا ينجحان في إدارة الفوضى وتوسيع دائرة الصِراع ووضع الشخصيات في مواقع صعبة وقرارات متبدلة تثري الإشكال المتضخم ، ما إذا أخذنا بعين الاعتبار الزخم في تناول الشخصيات والأحداث من منوال فيلم يحمل 10 سنوات من الإستعداد على ظهره : من عتاد وعُدة ، صُرفت على نحو 18 فيلمٍ سابقات  ، وتقرب الـ40 ساعة فيلمية مجتمعة ، من أجل أن يقوموا بالحصر والتطويق على حِكاية مُعقدة وتتشعب أحبارها على زمن يقرب الـ "ساعتين ونصف" فقط ! ، فهذا لوحده يُعتبر إنجاز يُشاد بحقهم ( رُفعت القبعة ) . وفيلمنا هُنا هو إمتداد لنجاح «عالم  مارفل  السينمائي» الذي صادق منذ زمن على إمداد مُعجبيه بالمُتعةِ والترفيه الصادقان .

تحياتي

الثلاثاء، 24 أبريل 2018

مراجعة فيلم Day For Night 1973



" ما تعريف المُخرج ؟ " ..

Day For Night 1973 - يوم من أجل ليلة

•  إخراج: "  فرنسوا تروفو "
•  التصنيف :  دراما - كوميدي - رومانس
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★★



تدفعني الرغبة المُلحة دائماً للحديث عن الأفلام التي تتحدث عن صناعة أفلام أخرى ، والتي تنظر إلى طبيعة المشهد الدؤوبة وراء الكادر وما تتعرض له من تحديات وتغيرات مناخية تؤثر بشكل حيوي على حلقات وصله النهائية . رُبما هي كثرة إقترابي من مستوى الشاشة تجعلني أبحث على الدوام عن حيز أتوحد به معها ، يثير لدي غريزة الإلمام والتماهي مع مُعطيات ما أشاهده وكيفما أستصيغه ، فكثير من الأحيان تنتابني تلك القشعريرة عِندما تلتقط عيناي حركة المصورين والمخرجين وراء عدسات كاميراهم ، جامعةً العشرات بجعبتها من أجل إختزال لقطة زمنها ثوانٍ معدودة ! . يرجح السبب إلى التطبيق العملي الذي نعمده كـ " سنيفيليين " في المُحاكاة التخيليلة أثناء المُشاهدة ، فنمسي نحن والمُخرج داخل الكيان ذاته ، نتشاطر الأفكار والأخطار حول الأبجدية اللازمة في تحقيق تلك اللقطة شرعيتها من عدمه ، ونمارس من محلنا الجِهة الرقابية على إتمام هدفها الوظيفي . وفيلم « يوم من أجل ليلة » أو « ليلة أمريكية » - مُصطلح سينمائي يُعنى بتصوير المشاهد الليلية في النهار وإعادة تخليقها بمؤثرات لونية خاصة - هو محاكاة تطبيقية للمشهدية المنشودة ، فهو واحد من أفلام كثيرة تناولت صِناعة السينما على طاولة فيلمية موازية ، وتتحدث بلسان مسؤوليها ، ممن يتلازمون الجوار جنباً إلى جنب بغية تحقيق نتيجة ترضي أطرافهم العريضة ، بحيث تأتي المسؤولية العظمى حاطة بثقلها على ظهر شخصية أساسية تُدعى " المُخرج" في توجيه دور العاملين والتقنيين وتحجيم جهودهم المهدورة برؤية فنية واضحة . المخرج الذي يُسند  إليه الفضل الأكبر في نجاح المُنتج النهائي من عدمه . وما يميز فيلم " يوم من أجل ليلة " هو وقوعه تحت قيادة " فرنسوا تروفو" ، الذي وُلد في حجرة الصالة وإنتقل إلى عالم الشاشة دون وسيط مادي يعبره ، بعيونه الفاحصة ورؤيته الثاقبة لمستقبل السينما ، عن إدراك متقدم  لخصوصية الفيلم ومكوناته الفرضية ، المنطلقة من موقفه النقدي الذي أسس له هو وأترابه من أصدقاء موجته .



يتناول فيلم « يوم من أجل ليلة » ، الحائز على جائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي عام 1974 ، الفترة الزمنية في حياة تصوير فيلم يُدعى " لقاء مع باميلا " ، وهي حكاية حب "ميلودرامية " عن شاب يٌدعى " ألفونس " ، قام بدوره الممثل ( جان بيير لود ) نجم فيلم " 400 ضربة 1959 " ، الذي يعود مع حبيبته " جولي " ، والتي قامت بدورها الممثلة ( جاكلين بيست) ، إلى بيت أهله ، المكون من أبوه " ألكسندر " ، الذي قام بدوره الفنان الكبير ( جان بيير أمونت) ، وأمه " سيفيرين" ، والتي قامت بدورها الفنانة الإيطالية العريقة ( فالنتينا كورتيس) ، ليعرفهم " ألفونس " بدوره على " جولي" ، فتقود  الأحداث فيما بعد إلى حب يجمع الأب مع حبيبة إبنه ، وتنتهي مأساوياً بعد حين إلى قتل الإبن لأبوه . يعرض الفيلم من خلاله أيضاً التحديات المصاحبة للمخرج " فرند " الذي قام بدوره ( فرنسوا تروفو ) نفسه ، مع كوادر العمل من أجل إتمام تصويره في الوقت المحدد والذي يقارب السبعة أسابيع فقط ، نتعرف من خلالها على أنماط التفاعل الذي تشهده الحياة خلف الكواليس ،  ونُطل على التغيرات الطارئة التي تحدث ماقبل وأثناء وبعد التصوير ، وما يرافقها من قرارت فنية مُغايرة تتعلق بمراحل المونتاج والطبيعة المشهدية التي يشحذها الإنتاج على جدوله الزمني للوصول إلى غايته المرسومة ، التي تتوسطها رؤية المُخرج الفنية مع جيب المنتج ومصالحه الاقتصادية . فصراع المُخرج ينجلي في تفاعله الدائم مع جميع العاملين إبتداء من فريق التمثيل وإنتهاء بكوادر التقنيين ، والآلية التي يتخذها في إصداره للقرارات النهائية مع كل وقعة دبوس تظهر على الشاشة ، لنرى وكأنها حرب نفسية يخوضها على عدة جبهات ، يُسابق بدوره الزمن في تحقيق فيلمه بإنتاجية عالية .

هُنالك مقولة مشهورة لـ " فرنسوا " تروفو " : "عندما أبدأ بإخراج فيلم جديد ، أريده أن يكون فيلماً عظيماً . لكن عند الوصول إلى منتصف الطريق ، أتمنى أن ينتهي فحسب ." ، وهذا هو الواقع المراد إحالته من فيلمه « يوم من أجل ليلة » ; الإنعتاق من القلق المستمر الذي يزامن فترة التصوير ، المحفوفة بالمشاكل والمنعطفات المدوية نحو الفشل ، يظهر من خلاله التقويضات التي تحاصره من جهات مختلفة ، يحتفي من خلالها بمصاعب مُخرجين آخرين مثل " فيدريكو فيلليني " عِندما كان يلجأ إلى إستعمال ممثليه الأرقام في تأديتهم للأدوار بدلاً من الحوار الذي ينسوه بشكل متواصل ، كما في فيلمنا هُنا عِندما إقترحت الممثلة " سيفيرين " ، دائمة الإرتباك أثناء التصوير وتنسى مُعظم حواراتها ، على المخرج " فرند " بأن يقوم بإستعارة أسلوب " فيلليني " للأرقام وإعادة دوبلاجها بشريط صوتي لاحقاً ! ، بالإضافة للعلاقات المُتشابكة وراء الكواليس بين طاقم العمل والممثلين والمخاضات العاطفية لحياة كل منهم وماتعكسه على أجواء التصوير وكيف يمكن للمخرج أن يُجابه مد التيارات العكسية تلك ، من خلال توفير بيئة صحية لممثليه يؤدون من خلالها أدوارهم المطلوبة على أكمل وجه . ثم ينقل عدسته إلى التحضيرات الأولية من مُعالجة " السيناريو " وكتابة حوارات تعزيزية ، وإستقطابه قوى الاجتهاد  في تلبية حاجات ممثليه ومُتطلباتهم بشكل يتوازى مع سياق النص وحيويته ، ناهيك عن الأدوات العضوية التي تتعلق في بيئة الكادر وتصميمات مواقعه والرجالات المُشتغلة عليه ، من تآلف ألوان و"موديلات" أزياء إلى أصغر الأمور كالنثريات البسيطة ، يجمعها المُخرج كـ "قطع الليغو " بمهنية عالية ، لا تبتر من سياقه ولا تُزهق من رؤيته النهائية . يُجيب " تروفو " على سؤالنا السابق ( ما تعريف المُخرج ؟) : هو شخص يسأل اسئلة عن كل شيء ، ويعرف البعض منها فقط .



لم يمنع الوضع التسجيلي الذي شهده الفيلم من أن يحوي حِكاية درامية جميلة ذات قالب كوميدي ومُعطيات مشهدية تعزز من فعالية الرواية ، تدفق العاطفة والدراما كان واضحاً في مجرى أحداثه ، وهذا يتضح في تشابك العلاقات بين طواقم العمل ، والعمل على إخضاع الممثلين إلى عوامل قسرية تُجبرهم على إتخاذ قرارت أو سلك طرق تزيد من تأثيرها على المُتفرج ، وتعمل على فرش صعوبات حقيقية أمام المُخرج وكيفية إيجاد البدائل الفورية والتي تخدم سباق الزمن الذي يخوضه على مضمار ضيَق من المطالبات والتحميلات ، كان من بينها اللجوء إلى إستخدام ممثلة بديلة للرئيسية وجلب أخرى تعافت مؤخرًا من إنهيار عصبي جمعها مع دكتورها في علاقة حب مُبهمة ، ولكنها الأنسب إلى الدور المنشود ، بالاضافة إلى الممثل " ألفونسو " المهووس بالحب وسذاجته ، فتؤثر حياته العاطفية مع مُعالجة السيناريو " ليليان "  على فريق العمل ، و"سيفيرين" الممثلة الكبيرة التي هي الأخرى تُعاني من حساسية مُفرطة نظراً لكبر سنها ، فتُحاول إخفاء مشاكلها بتعاطي الخمور والذي بدوره يؤثر سلباً على تأديتها للدور وحفظها للحوارات ، أما الممثل الكهل "الكسندر"  فهو الوحيد الرزين بينهم ويتوق إلى أيام شبابه في "هوليود " وتلبيته النداء دائماً بصدر رحب . وباقي مابقى من علاقات غرامية وإجتماعية بين أطراف الأستوديو ومنابت جهوده ، ناهيك عن إحتدام القلق مع المُخرج في عزلته وداخل أضغاث أحلامه نتاج 15 ساعة عمل متواصلة وكأنه آلة ميكانيكية لا تكل ولا تتعب .  جميعها إتخذت ميزاناً دقيقاً في عيون " تروفو " الذي طبق نظرية " الميزانسين " لمُعلمه " أندريه بازان " وإشتغل عليها وساهم في تفعيل دورها بأسلوب يخدم أفلام الموجة الجديدة . يظهر ذلك واضحاً من خلال المشهد الافتتاحي تهافته إلى توصيل زمن اللقطة إلى أعلى درجة من الإتقان والموثوقية من خلال اللعب بصعوبة مع بيئة الكادر دون الاستسلام لنظرية " المونتاج " التي تضمر من جماليته وتقتل من روحه .



فيلم « يوم من أجل ليلة » عبارة عن قصيدة شعرية في حُب السينما ، وإحتفاء كبير للمجهود الذي يصرفه المشاركين بها وراء الشاشة ، ودراسة جزئية لطبيعة البشر وجوهرهم داخلها وعلى أطرافها ، فنادراً مايقع الجمهور نظره إلى أبعد ما يراه ، وهو معني بالنتيجة النهائية لما هو مرقوم أمامه ، وفيلم " تروفو " هو توليف شاعري لصناعة الأفلام داخل الأفلام نفسها ، وإعادة خلق لرؤية ذلك الجمهور عن صُناع مُتعتهم . فنرى شغف مخرجه في مُحكم فصوله وأحداثه ، وحب السينما الذي يستشري جسده وتفكيره ، ونراه عازماً الهِمة على تحقيق حُلمه في إطاعة زمن الإعداد إلى زمن الشاشة ، بواسطة إستخدامه المفردات البصرية في التعبير عن ما لا يُمكن تعبيره في مُخاطبة أساتذته وأصدقاءه من المخرجين ; في ذلك  المشهد الشغوف الذي يُبرز به " تروفو " إحترامه إلى صُناع السينما ، عِندما ذهب بعدسته إلى لقطة يدنيها من كتب مُخرجين كبار مثل : كتاب « الغدق » للمخرج الاسباني " لويس بونويل " ، « المسيح » للمخرج الدنماركي " كارل دراير " ، « أدبيات السينما » للألماني " إيرنيست لوبيتش" ، « العرض الأول » للسويدي " إنغمار بيرغمان" ، « أفلام غودار» لصديقه " جان لوك غودار" ، « أفلام هيتشكوك » للأمريكي " ألفريد هيتشكوك" ، كتاب المخرج الايطالي " روبيرتو روسليني " ، وكتاب الأمريكي " هاورد هوكس" ، ولا ينسى " تروفو " حُصة فيلم حياته « المواطن كان » للأسطورة " أورسن ويليز " من كعكته الكاملة ، الذي شاهده أكثر من 30 مرة من أماكن مُتبدلة وعيون متغيرة ، يريد منا فهمها ووعيها ، فقد كان يستذكره في أحلامه على طول خط الفيلم مع أضغاثها وإرهاقها المستمر ، مُتأملاً بأن يحقق حلمه في إنجاز فيلماً يقرب من مُستوى « المواطن كان »   . ذلك حُب السينما الذي يحمل عشاقه إلى الإستماته في تحقيق حُلمهم بها . وفيلم « يوم من أجل ليلة » هو هدية لكل شغوف في هذا المجال ، ويٌعتبر من أفضل الأفلام إجادة في التحدثت عن السينما وعن شقاء المُخرجين خلفها   .

تحياتي

السبت، 21 أبريل 2018

مراجعة فيلم Amarcord 1973

" فيلليني يتذكر " ..

Amarcord 1973 - أنا أتذكر

•  إخراج: "  فيدريكو فيلليني "
•  التصنيف : كوميديا - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★★





لم يأتي على السينما قامة فنية قامت بالتعبير عن ذاتها بالشكل الذي إبتدعه " فيدريكو فيلليني " عن نفسه ، إنه واحدٌ من القلة الذين إستطاعوا من أن يؤُرخوا حياتهم من خلال أفلامهم ، بوساطة تعبيراتهم البصرية التي هي أشبه بإمعان النظر في ذاكرة كلٍَ منهم المحمومة الجوانب : العاطفية والثورية والناقمة والساخرة ، فاتخذوا من تواترها مِنصات ذهنية إعتلوا فوقها بمِهنيتهم العالية وقاموا بترجمتها أمام مُتفرجيهم برفاهة قانية . إن تجارب " فيلليني " السابقة قادتني للعودة إلى المُخرج الروسي " آندريه تاركوفسكي " في كِتابه " النحت في الزمن " عِندما صاغ نظريته السينمائية المُدعاة بـ" تحنيط الزمن " ، التي كان مفادها أن الممارسة الفيلمية تُعنى بإلتقاط الزمن وطبعه على الشاشة  ، حيث يُمكننا أن نحتفظ في إيقاع الزمن أو تحنيطه إستعداداً لتخزينه ، يلعب من خلاله المخرج دور النحات الذي يقوم بأخذ قِطعة رُخامية ويُزيل عنها الزوائد لكي يصنع قالباً جمالياً ، لكن هذه المرة من خلال النحت في زمن الصورة ، وهذه هي المُقاربة التي يُمكن الإشتغال بها مع " فيلليني " من خلال أعماله عِندما قام بتحنيط ذِكرياته وأحلامه وذاته كُلَية على شريط سينمائي دوار ، فهو من أكثر الفنانين إستحضاراً لذكرياتهم وتأطير أحلامهم على مشابك الشاشة . وفيلمنا " أنا أتذكر " هو إنجاز من هذا القبيل . فمن أراد أن يعرف من هو ذلك الـ "فيلليني" المُخضرم ، فعليه بمُشاهدة أفلامه ، التي إعتُبرت في زمنها وما لحقها لُغة سينمائية خاصة ، كما هي حِرفة النحاتين ، تربط الواقع مع الأحلام في قالب شخصي تام  .

إن الأسلوبية التي إعتمدها " فيلليني " في سبر أغوار مفاهيميه عن الأفلام ، كانت نتاجاً للمُفارقات التي رصدت تلك الموهبة إتجاهها وتأثرت بعوامل إجتماعية وبيئية صقلت من قدراتها . ففي الفترة التي أعقبت فيلمه الظاهرة " الحياة حُلوة " ، كانت حياة " فيلليني " أشبه بمرحلة مخاض رُفقت بإرهاصات مُتراكمة ، دفعته بشراسة مدوَية نحو القاع ، عاشها مُلاحقاً من أقلام الصُحف وألسنة الساسة و سخط رجال الدين وإزدراء الأقربين منه ، عِندما نقل صورة " إيطاليا " وطبعها أمام جمهوره على شاشة نقدية لاذعة ، مسَ بها كرامة شعبٍ كامل تعرى عن حقيقته الكامنة وكشفت عن إضماراته المعيبة . فيُحكى أنه بعد أن قام بحضور عرضه الأول في إحدى الصالات وهو خارج منها ، مرَ بجانبه أحد الرجال وبصق على وجهه وقال له : " لقد مرغت وجه إيطاليا بالوحل !  " ، ويُذكر أنه في أحد الأيام أيضاً كان ماراً بكنيسة وجد مكتوباً عليها عِبارة : اللهم إهدي فيلليني " ! . .تلك الفترة لم تمر مرور الكِرام على حياته ، فقد أضحى عُرضةً للخِطابات المُشينة بذنبه وخطيئته من جِهة ومن مُطالبات مُعجبيه بتقديم عمل إبداعي آخر من جِهة أخرى . لكن " فيلليني " هو مِثال صارخ على الفنان الجاد في تناول قضاياه وتحقيق رؤاه وطموحاته في كسر حواجز الأحكام الخارجية ، فبعد كل تلك المصاعب قام بإخراج فيلمه العبقري " 8 و1/2 " أو بمعنى مواز : " حياة فيلليني ونصف " ! ، الذي تحدث به عن تلك المُعاناة التي عاشها والتثاقلات المُناطة بكرامته وجودته كفنان حرَ يعبر عن ما يهوى التعبير عنه بإستقلالية ، وما جذبه من مسؤوليات لاحقة أثقلت من كاهله وأفقدته روح المُبدع وسمة الالهام ، حيث إستطاع من خلال فيلمه ذاك أن يُعيد صياغة تلك المُنغصَات جميعها إلى عمل إبداعي إستمد طاقاته الناضحة من صِداماته السابقة .

في ظل ما ذكره لساننا ; يُمكننا أن نكوَن صورة أولية عن طبيعة ذلك الفنان المنشود من خلال أسطرنا السابقة وعن أسلوبيته في تقديم رِوايته الخاصة التي تأبى أن ترضخ تحت أي سٌلطة تُعنى بما هو صحيح وما هو خاطىء وإنما بما هو حقيقي وواقع ، وفيلمه " أنا أتذكر " هو أفضل الصور إجادة عن كيفية تحويل ذِكريات إنسان محمومة ومرئيات مُقلَمة إلى سرد بصري يهوى جمع النوادر في صندوق فني واحد ، يسعى من خِلاله أن يستمد فُصوله الدرامية من فصول صانعه الحياتية التي مرَ بها في بلدته الأم " ريميني " جنوب إيطاليا ، وهو ما يُمكن إعتباره و" فيلليني " نفسه يعمد إلى إعتباره بأنه فيلم ينتمي إلى أفلام السيرة الذاتية  .




يتناول الفيلم ، الحائز على جائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي عام 1973 ، في مُحكم فُصوله الدرامية حِكاية " فيلليني " وذِكرياته المُجتزئة عن طفولته في بلدته الأم " ريميني " خلال ثلاثينيات القرن الماضي ، ولو أن فيلمه لا يحوي ذكر مباشر لـ " فيلليني " ، أو إستحضاره لبطولة فردية ، وإن كانت تلك الأخيرة موجودة فهي باهتة ، يرجع بذلك إلى الأساس الذي صادق عليه في إعتماد سرده من خلال أن يصب جام تركيزه على ديناميكية تلك الذكريات وترتيبها داخل عقله ، تلتقفها أسقف الشخصيات وهالاتهم من عدسات حدقية مُختلفة ، تعبَر عن الواقع المُعاش سالفاً بصورة أكثر شاعرية ، وصقله بالكثير من مُحفزات الذاكرة من مشاعر لاهية وجادة وقاتمة وناصعة على تناقض الجوانب ، وما صاحبها من أحداث توالت على أرض تلك البلدة ، وعن طبيعة حياة أهلها وشخصياتهم القاطنة جوفها وأطرافها ، وما إنعكس عليهم من تأثيرات مناخية للجو السياسي والإجتماعي  .

يهوى " فيلليني " في أفلامه أن يُناقش المسائل الشائكة في حياة مُجتمعه " إيطاليا " عن طريق شبكاته المُتداخلة في تكوين مرساة إنطلاقه ، التي تُحدد توجهاته المُختلفة ومآلاته اللاحقة ، حيث لا يُضمر من التعبير عن تلك الهواجس التي يعيشها بين مجتمعه الفاقد للأمن والحب والمصداقية مع نفسه ، ومع من هم حوله ، وكلها في رحلته الخاصة في البحث عن الايمان الذي يستمد منه أمله المتبقي ، فلا يرتكز على رمزية واحدة ولا قاعدة وحيدة في تشكيل نظرة ذلك المجتمع ، إنما من خلال التزاحم الذي خلقه تكاثر الرموز المُنهالة على رأسه  ، جعلت منه أكثر طواعية للممارسات التجريبية بحقه ، فمنعته من تشكيل رأي خاص به أو نظرة فاحصة لأوضاعه ، وهذا ما سبب لـ " فيلليني " الارهاق في تناول تلك الموضوعات لصده المباشر من مناوئيه من تلك المُستنقعات ، فلا يتوقف عن نقد جِهة على حِساب الأخرى ، وإنما ينصرف إلى صنع جلبة كاملة في ذلك الحقل ، فنراه يضع فِكرة الكنيسة ماثلة بإعتبارها رمز ضريبي أضحى يدفعه الفرد بغية تكفير ذنوبه وأمسى الكاهن بدوره كالموظف الذي يصرف بركاته على وجوه مُرتاديه دون إرادة إيمانية راسخة ولا قولبة دينية تنشل أفراد مُجتمعه من غيبوبته . إنها الحياة التي تناولها ولا زال يتناولها في أفلامه ، عِندما أصبحت الرموز الدينية كالأصنام بلا روح ، ينظر لها الفرد نظرة المُقايضة أو المصلحة المُشتركة لكن بلا روح  .

ولا ينسى " فيلليني " أن يحُطَ بظله على الرموز السياسية والتي تمثلت بالفاشية الراجلة بقدمها على أراضي إيطاليا ، سعياً منها إلى إعادة تدوير حضارة من الإذعان الكامل نحوها ونحو أحلامها الخافتة ، التي أقنعت المُتعاطفين معها بمُستقبل التطور العرقي والإزدهار العالمي  ، بحيث أصبح الموطنون ينزلقون أسفل سُلطة الرب والدين السابقة مُتجهين نحو سُلطة السياسة والأحلام الأرضية في سبيل مُستقبلٍ مُشرق ! ، إنها اللعبة الكونية في عيون " فيلليني " ; إنتقال من سُلطة إلى سُلطة دون سؤال أو فرضية لمنطق الإجابة ، مُجرد مراحل متتابعة لا تفرض منطق الإدراك والوعي وإنما منطق المُصمم لذلك المضمار ! . جميعها مثلت مُنعطفات حادة في الواقع الإيطالي تحت سلطة الفاشية ، والواقع الأوروبي بصفة عامة ، إنه واقع الفٌقدان الكامن في الأمن الذاتي والمُجتمعي والتغريب الثقافي على أوجه مُغايرة ، جعلت من ولاءاته كنقرة زر في إستقطاب طاقاته وبذوره الوطنية مُجتمعة ، شخصياته في ذلك المضمار فاقدة للحاجات الرئيسية في حياتها وتسعى لتعويضها في مطمع الأشياء وإن إختلفت مصادرها .




يُمكن إعتبار فيلم " أنا أتذكر " هو من أفضل إنتاجات "فيلليني " ، نظراً للطبيعة السردية في إيراد الحِكاية ، التي إعتمدها من خِلال إستغلال تقسيم فٌصوله ، وتكثيف حضور شخصياته ، بحيث يمتنع عن تكوين بُطولة أحادية على حساب الحدث ، فجعل فيلمه مدجناً بالأبطال والشخصيات ، وعلى الرغم من إستعارة " فيلليني " المُستمرة للـ" الكرتونية " في حِياكة شخصياته ، والـ " الباروك " في مُعالجة روايته ، و " التجريد " في إسقاط لوحاته ، تبعاً لنظرته التهكمية تجاه ما يحتقر ، إلا أنه ، وبقدرة قادر ، يقوم ببث الروح الانسانية في هالاتها ، فلا نرى واحدة تهوى صعود ظهر الأخرى ، جميعها تعمل داخل نظام واحد وحضور موازي يسع الشاشة ولا يطفو عليها . إنه المنهج " الفيلليني " الذي يُبرز نفسه في كل تحدي يُقدمه كالإصبع المُنتصِف في مرأى مُناهضيه . ناهيك عن إستخدام الألوان الطبيعية وأسلوب " السينما الحياتية " في تنظيم لقطاته وتسارعه في إستحضار الإلهام وفتح باب الإجتهاد لدى مُمثليه ، فلا نرى ضعف ولا وهن ولا فقر في ميزان إخراجه ، نرى فقط سحر ، إنه السحر الذي إعتاده " فيلليني " في مُحاورة مُشاهديه ، جميعها علامات إبتكرها  ليعكس ذِكرياته وطموحاته ورسائله بنفحته الشاعرية الخاصة ، والتي إن قادته إلى المُبالغة أو بعض التكثيف ، فهي بنهاية المطاف تُعبَر عن شغفه لبلده " إيطاليا " الذي أبى أن يخرج منه إلى مسالخ هُوليود ، التي رأى بها تقويضاً للفنان وعرقلة في مسيرته ، وهو فنان يهوى الإستقلالية كما هو الطائر الذي يطير بحرية دون قيود .



وعلى الرغم من إحتواء فيلم " أنا أتذكر " على مجموعة من المُقوضات التي تلتف حول مُجتمع بأسره ، إلا أنه يبقى فيلماً عن الحميمية المُطلقة لذكريات المُخرج الشابة ، في كنف العائلة وحميميتها حتى وإن إنتهت بصُراخ وقِتال ، ومع مُجتمع الكنيسة وطلبه الدائم للغُفران الذي لا يعي فيه سوى أنه حُجرة إستحمام ، تُنظفه من ذنوب لا يعي مقصدها ، أكان يلمس أعضاءه التناسلية أو يتغزل بثديي إمرأة ومؤخرتها ، سوى أنه يحفظها عن وجه قلب ، إلى صورة الشارع وتهافت الناس على تأديتهم لتلك الطقوس الجمعية وإحتفالاتهم وغناءهم المُستمر ولهوهم الدائم . " فيلليني " لا يتهاون في الإسراع نحو إلتقاطه عيون صغاره وشبابه وشيوخه ، ومنظورهم الترويحي عن الحياة ، فلا يسع الشاب سوى النظر إلى مُؤخرة فتاة القرية التي سحرت الرجال بأنوثتها الطاغية وجِنسيتها المُثارة أمام أعين مُعجبيها ، وكأنها الأمل المنظور ، فيراها الجميع كما يرونها بالافلام ; نجمة سينمائية ، وهي الأخرى ترى نفسها كما هي ضائعة في الأفلام بحثاً عن الحب الضائع ، عن المودة المُفرطة من سكبها تجاه من تُحب لكنها لا تلتقيه و تتمنى أن تلتقيه وتمنحه حُبها . هذه هي شخصيات " فيلليني "  يا أعزائي ; دائماً تُعاني من خلط رهيب في مشاعرها الجنسية والعاطفية والدينية والحياتية والسياسية والاقتصادية ، فلا تُفرق بين ما هو نزوة وماهو علاقة ، وما هو إيمان وماهو إذعان ، وهذا ليس ببعيد عن مُجتمع مُغلق على ذاته يعيش إنطوائية خاصة تفرض عليه أسلوب معيشي أولي ، لا يفرض الكثير من سجالاته الداخلية ولا عن حياته في كنف الحرية  ، إنها حياة مملوءة بنفحات البساطة والسجية المُفرطة ، تنضوي على فئة الغلابى التي تأبى بأن تنضم إلى مُشاحنات فِكرية وحُرية إجتماعية تُفضي إلى إنسلاخها عن مُعتقداتها ومُقدساتها البالية ، لا تجد بها سوى هرطقات فلاسفة مجانين ، ترى ماهو مرئي فقط أو ينطوي على مُعطيات ملموسة ونتائج فورية .



في النهاية ، إنه ومن الصعب الحديث عن فيلم نُحبه خشية أن لا نُعطيه حقه ، تبعاً للذائقة اللغوية التي تمنعنا من ترجمة ماهو محسوس إلى ما هو ملموس ومقروء ، وفيلم " أنا أتذكر " هو فيلم من هذا النوع ، الذي لا يُسرد بالكلمات ، وإنما يُصان بالمُشاهدة . هو أفضل فيلم لـ " فيلليني " بنظري ، وهو الفيلم الذي شكل من خلاله الثالوث المُقدس لأعماله : " الحياة حُلوة 1960 ، ثمانية ونصف 1963 ، وأنا أتذكر 1973 " . هذا الرجل كنز سينمائي لا ينفذ ، ويفرض بأسلوبيته دراسة شاملة وبحث مُضني عن معاني الحياة بأنماط تجريدية وكوميدية وشاعرية وشعرية وجميع الأدوات الذِهنية التي تُساعد الفنان على الإندفاع بطلاقة ، فهو من أكثر المُخرجين تدريباً لذهنيتهم في تصفية منابع الإبداع والأبتكار لديها ، فمنذ فيلمه الأول : " أضواء مُغايرة 1951 " وهو يتحدى نفسه ويتحدى العالم ويمشي على ظهره مشية رجل السيرك ، الذي لا يُريد سوى أن يبحث عن سعادة تُغلف وُجوه مُتفرجيه ، ولكن دون أن تستخف بهم .


تحياتي

الأربعاء، 18 أبريل 2018

مراجعة فيلم In The Fade 2017

" توابل تراجيدية " ..

In The Fade 2017 - في التلاشي

•  إخراج: "  فاتح آكين "
•  التصنيف : جريمة - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  1/2 ★★



يعود المُخرج الألماني الشاب " فاتح آكين " بعد فيلمه الأخير " وداعاً برلين " الذي قام بعرضه سنة 2016 والذي لم يلقى تلك الأصداء الكبيرة بالمقارنة القريبة مع فيلمه هُنا ، يُطل علينا من جديد محيياً بدوره مدينة " هامبورغ " الألمانية لكن هذه المرة بواسطة تفجير إرهابي ، صاباً بدوره جام غضبه على المعركة العِرقية الحاصلة في القرن الحادي والعشرين لألمانيا اليوم ، من خلال عودة النازية بثوبها الجديد حالمة بتحقيق  أجنداتها النائمة طوال عقود مضت على سقوطها ، وكل ذلك بغية تأسيس نُواة مِجهرية تُسلَط الضوء على موضوع شائك عن التنميط العرقي المعاصر . تم عرض " في التلاشي " بدايةً في مهرجان " كان " السينمائي خلال دورته الـ70 للعام الماضي ، وحاز على إعجاب شريحة واسعة من النُقاد ولجان التحكيم ، مُتقلداً بدوره جائزة أفضل ممثلة رئيسية التي حصلت عليها المُمثلة الألمانية " ديانا كروغر " عن الفيلم نفسه ، مما أفضى إلى جذب الأنظار تجاهه وساعد بذلك إعتماده من قِبل بلده عن طريق تمثيله لباقي المهرجانات الكبيرة ، ومنها "الغولدن غلوب" ، الذي فاز عنه أيضاً بجائزة أفضل فيلم أجنبي لعام 2017 .


حِكاية الفيلم تدور في مدينة " هامبورغ " الألمانية ، نُطل من خلالها على حياة زوجين وإبنهما ، الزوج " نوري " والذي قام بتأدية دوره الممثل التُركي " نعمان آسار " ، وزوجته " كاتيا" التي قامت بدورها مُمثلتنا الرئيسية " ديانا كروغر " ، والطفل" روكو " الذي قدمه المُمثل الصغير " رافاييل سانتانا "  . عائلة وكما هي العادة تعيش سلاماً داخلها ; " نوري " هو كُرديَ الأصل و يعمل في مكتب للضرائب ومُترجم ، حيث كان قبل ذلك كله تاجر مُخدرات ، أما " كاتيا " فهي أم مُربية تعتني بزوجها وطفلها ، جمعتهما علاقة غرامية أيام الدراسة فأودت بهم إلى الزواج بعد فترة من حُكم " نوري " بالسجن على خلفية الإتجار بالمخدرات ، لتندلع أحداث الفيلم فيما بعد على إثر حادث إنفجار أودى بحياة زوجها وإبنها داخل مكتب الزوج ، فتتخبط " كاتيا " على طول خط الأحداث بين سعيها للحصول على العدالة من أيدي الإرهابيين وبين حُزنها الناتج عن فٌقدان عائلتها .




سيناريو الفيلم الذي قام بكتابته " فاتح آكين " بالاشتراك مع المُؤلف " هارك بوم " ينقسم إلى ثلاثة مراحل أو ثلاثة فٌصول درامية ، تعبر من خلالها " كاتيا " باحثة عن سبيل أمل في التقليل من مُعاناتها ، تتجزأ الفصول الثلاث عن طريق عمل مُحاذاة  بين الفصل والآخر دون إنهيار كامل في البُنية ، داخل مسار خيطي تشترك به " كاتيا " في جميع أحداثه ،وتتصارع وحدها على الشاشة ، وعلى أرضية كافية لفرض دراسة إجتماعية عن إمرأة تُقاتل مُحيطها وداخلها على قدم وساق من التخاذل المُناط بقدرها ، الذي بدأ بقصة حُب مع زوجها في ظل تعاطي المُخدرات ، التي كانت تبتاعها منه أيام الدِراسة ، لنفضي بعد حين إلى زوايا إختلافية بين طبيعة حياة " كاتيا " مع عائلتها الألمانية من جهة ، وحياة " نوري " مع عائلته الكُردية من جِهة مُقابلة ، فينتهي القدر من إفلاسه صوب فٌقدانها جميع من هم حولها . هُنا يضع " آكين " الكثير من المتاعب أمام " كاتيا " لتواجهه ، لكن سُرعان ما ينجلي التقسيم الثُلاثي إلى قِسمة أحادية مبنية على تعليب " آكين " لأفكاره في مُواجهة المُعضلة الرئيسية ، وبالتحديد عندما تعامل مع النازية المزعومة كمظلية تغطي الاحداث فقط ، لا يُبرز من خلالها مواهب جادة  أو رؤى ذاتية خاصة ، مما أودى ذلك التنازع بين مُستويات فُصوله صوب النهاية  إلى فصل ثالث فوضوي ، يُعيد حِياكة السرد لكن بالمُعادلة البسيطة  في أفلام الإنتقام المُعتادة ، غير أن هذه المرة بواسطة إمرأة . فعلى الرغم من صعود وتيرة الأحداث إلى حد جيد من إصقال النازية بثوب الخنزرة المُتمثلة على أجساد المُجرمين في قاعة المحكمة أو عِندما ألبس "آكين"  أيضاً مُحامي الدفاع عباءة الحقارة الراديكالية ، لم يستطع ملىء النتوءات البارزة بأحداثه ، مما أعاد على الغاية من توليف الحِكاية هو طبع نتائج مُباشرة أمام الجمهور دون فرضية خلاقة ، وانشغاله بتكثيف المساحة الفضفاضة بإبراز أحادية على حساب أخرى ، فمنعته من أن يفرض أسلوبيته نحو دِراسة درامية موازية للحدث .


لم يمنع تفاوت تقديم الحِكاية من ناحية إستبصار قائمة على حدود فِكرية مُعقدة من أن يشي بعمل " آكين " إلى إضافة بعض التوابل على طبخته النهائية والتي تسرب جزء غفير منها على أداء " ديانا كروغر " أيضاً . هُنالك طبقة مُتحجرة تحول بين ما تُجسده " ديانا " وبين ما تظهره على الشاشة ، نشعر بأن طاقة دفينة لا تُريد إستهلاكها بإفراط ! ; نراها حزينة ، ثائرة ، تتعاطى المخدرات على جمبٍ وطرف ، وتشتهي الانتحار ، جميعنا نعي ذلك جيداً ، لكنه منع من تكوين أداء أعمق للشخصية من ذلك الحضور المكثف على الشاشة دون إستفاضة داخلية تهوى مُخرج العمل ، رُبما هي كثرة المساحيق الحارقة للعينين التي نُفثت على وجهها وبعض البخاخات المائية التي زادت في تعرَقها ، كان السبب في منعها من تقديم أداء إنطباعي يعكس باطنية " كاتيا" ، فلا نرى سوى ماهو مرئي من تلك القشرة الصاقلة لشخصيتها ، ناهيك عن الآلية الصاخبة في بداية الفيلم بإلقاء " كاتيا " في خِضم أحداثه بعمل مونتاجي سريع قام بصنعه " أندرو بيرد " من خلال إصخاب المشهدية وإبراز توتر الحدث ، لكنه إبتعد عن إقتناء فٌرص في إطالة زمن لقطاته على وجه " كاتيا " ، ولا ننسى كاميرا " رينيه كلاوسمان " الترددية والمتنقلة بين فضاء الكادر بأريحية وجمالية كامنة من خلال صُنع أكثر من زاوية للقطة ، لكن ورغم ذلك كله يفشل " رينيه " بالصعب وينجح بالسهل ، من خلال إعتماده التكثيف من جرأة  أسلوبية ضائعة في لقطات غير مُهمة ،  إنشغلت بالالتفاف حول محور الفيلم بدلاً من العبور داخله .




يبقى فيلم " في التلاشي " دراما ألمانية ذات ميول تراجيدية تسحب نطاق الإذعان الكامل لدى المتفرج ، بمساعدة بطلته الرئيسية بالطبع ، لكنه يظلَ أسير  تلاشيه بعد المُشاهدة  نتيجة التباينية في أعراض فٌصوله المُجتزئة وخصوصاً في ثٌلثه الأخير عِندما حاول الإنقلاب إلى فيلم عن الإنتقام وحده ، والذي جعله غير واثق الخطى نحو تقديم رسائل دامغة أو تحديات أسلوبية زاخرة . فبدلاً من مناقشته العدالة الإجتماعية برصانة عالية  ،  يسعى إلى إظهار الجانب اليائس من تخاذله عن طريق حُلول سريعة وبسيطة هوجاء ، ما إن فكرنا بأن الفيلم يبقى سرد درامي لا أكثر ، وبأسلوب مُمنهج وعلى الطريقة التقليدية ، مُغلفاً بقشرته التي لا تزول ، ليبقى مُستسلماً إلى سلبيته التي منعته من تكوين رأي خاص بصُناعه حول القضية المنشودة . فعلى الرغم من التزاحم الذي صنعه " فاتح آكين " من خلال فيلمه بتقديم طموحات ذات مُخططات وأجندات إصلاحية مُلقاة على السطح وتُلقي الضوء على قضية راسخة ، إلا أن مايقبع أسفلها فقر درامي واضح في تحقيق الفيلم لأهدافه بصورة أكثر فعالية .


تحياتي

السبت، 14 أبريل 2018

مراجعة فيلم Rampage 2018

" فيلم هائج كعُنوانه " ..

Rampage - إهتياج

•  إخراج: "  براد بايتون "
•  التصنيف : أكشن - إثارة - مغامرة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :   ★★




من بين جميع الأداءات التمثيلية التي قدمها " دواين جونسون" ، المشهور بـ " ذا روك " ، طوال حياته الفنية ، كان الأداء الوحيد الذي غفر ماسلف وما أعقب من مسيرة هو " جون ماثيوز " والذي لعبه في فيلم " الواشي " سنة 2013 ، عِندما قام بالخروج علينا بشخصية أكثر درامية وأعمق تجسيدياً ، بغض النظر عن قيمته الفنية الكاملة ، من تلك التي أداها طوال حياته وتعاملت معه على أساس " كيس عضلات" مُتحرك ويضرب اللكمات ويرمي السِباب والنِكات وكأنها خارجة من محطة إذاعية ، أما باقي أفلامه فقد كان " جونسون " يعلم ويعلم أننا نعلم ونحن نعلم أنه يعلم بأن الجميع لا يُريد التعامل معه خارج ذلك الكيس ، فأضحى يستمر في عمل الأفلام التي تُناسب مقاس عضلاته ، بإعتباره رجل ضخم مملوء بالمُغذيات والمقويات الجسمانية ذو نظرة حادة تُغرق النساء في ملابسهن من فرط الرجولة والـ"كاريزما" ( المُصطنعة؟) ، وجميعها تسحب رصيدها من نفس  الصرَاف المركزي ، كان آخرها فيلم " إهتياج " والذي لا تتغير تركيبته عن فيلمين أو ثلاثة سابقين  .

تبدأ الحِكاية في الفضاء عِندما نُطل على سفينة فضائية تابعة لشركة تكنولوجية تدعى " إينيرجين" ، مُدمَرة ولم يبقى بها سوى عالمة أحياء ، هي الناجية الوحيدة من تلك المَهمة التي تبحث في نظام تركيبة هرمونية ومعالجة جينياً تطبق على أجساد الفئران ، بعد تمكنها من الهرب تسحب برفقتها الفايروس أو ذلك الهرمون المُلوث ويضرب بدوره الأرض في عِدة مناطق ليستنشقه فيما بعد بعض الحيوانات التي تستهيج منه وتتضاخم بُنيتها الجسدية وتُصبح في حالة من مستعرة تنتهي بقتل وتدمير كل ما هو يصادفها ، في الوقت الذي نتعرف به على " دايفيس أوكايا " وهو جُندي سابق يعمل في محمية حيوانات الشبه مُنقرضة ، يقوم بصيدها وإنقاذها من أيدي السفاحين وتُجار الحيوانات ، كان من بين تِلك الحيوانات الغوريلا الأبيض " جورج " والذي يتميز بعلاقة وطيدة مع " دايفيس " ، يُتقن لغة الإشارة والإيحاءات الجسدية ومنها البذيئة (طبعاً ) وكل هذا يعكس بدوره ذكاءه الشديد على باقي أقرانه ،  ومن ثُم نتعرف على الطبيبة " كايت كالدويل " باحثة في علم الحيوان تعمل على دراسة أجنة الحيوانات وسلالاتها الوِراثية ، ليلتقيا في خِضم تلك الأحداث المُهتاجة بإلتقاء المصالح والمواقف ، في التصدي لهجوم الفايروس من جهة ومن مواجهة الأخوين " وايدين " ( مالين أكيرمان و جايك لايسي) اللذان يمتلكا الشركة الآنف ذكرها من جهة أخرى ، وهي الشركة التي تقدم بحوثاً علمية على الحيوان وهي المعنية بتوليد ذلك الفايروس من أجل إخضاع إقتصاد العالم لسيطرتها  عن طريق تقديم العقار المُضاد ، ونتعرف فيما بعد على " هارفي راسيل " ( جيفري مورغان ) والذي يعمل في الإستخبارات المركزية ويهدف إلى الإطاحة بمُخططات " كايت" و"دايفيس" لتعدَيهما حُدود عمله الميدانية والسرية في التصدي للهجوم ، ومن ذلك المنطلق تنطلق الأحداث بين خطوطها المتقاطعة داخل دوامة من الدمار العالمي .




من خلال نظرة مُستوية على أرضية الأحداث نلحظ بأن الفيلم لا يخرج عن أي " بروتوكولات " سابقة قامت بإعتمادها أفلام الـ " بلوك باستر " التي تعمل جاهدة على إضفاء عناصر مُكثِفة للصورة تصل إلى حد العميان وإرهاق النظر في مداعبته ، تلك اللحظة التي يتداعى وميض الصورة نحو القاع وكأنك تلج داخل حُلمٍ عابث وفوضوي ينتهي بسقطة من إرتفاع مُدوي فتصحو بعدها ، وهذا ما كان عليه الفيلم فوضى عارمة تمتد من بِدايته حتى نِهايته ، يظهر ذلك من خلال إستغلال شركة "وارنر بروس" لممثل كـ " دواين جونسون " ( أداة تسويقية)  في تنفيذ سُخرية بصرية تُدرَ القدر الأكبر من المال بواسطة فيلم بلاستيكي الصنعة ، يُمكنك أن تُبصر خُطواته القادمة قبل أن تحدث بل رٌبما تمتلك خُطط أنجح في التقديم . " وارنر بروس "  في فِعلتها هذه لا تختلف كثيراً عن أهداف الأشرار في الفيلم من خلال إحداث الفوضى الأكبر لتعود عليهم بالمال الأكثر . تختلف المُسميات ويبقى الهدف واحد ; واحدٌ في جوف الشاشة وآخر خارجها .


السيناريو الذي قام بكِتابته أربعة كُتاب مجتمعين وكأنهم فِرقة عسكرية لم يستطيعوا من أن يطؤوا خارج ثكناتهم التدريبية أو أحلام يقظتهم في الإنجاز ،  وإستشراف بعض الجرأة في تقديم تحديات ذكية تُبرز جوانب إيجابية أكبر من تلك الغبية والساذجة في تأطير شبكة الأحداث بوصلات مُهترئة ، لا تحمل قيمة جوهرية أو ترفيهية صادقة ، ناهيك عن التبديد والتسويف في حِياكة المشاهد عند إلقاء الحلول ، أذكر مشهد سقوط طائرة يمتد بزمنه إلى الـ3 دقائق والعجيب أنها تسقط سقوط حر عامودياً !! - غير مُعالج كتابةً بالقدر الذي لم يتجنبه إخراجياً - ولا ننسى الحوارات الضعيفة وإن إحتوت على بضع نكات موزعة على فيلم يقرب بزمنه إلى حدود الساعتين !  ، بالإضافة إلى الشخصيات الشريرة مع الخيَرة تلتقي عِند زاوية واحدة يحدها من جانب اللون الأبيض والآخر أسود ، حتى في اللحظات الشاعرية بين " كايت " و " دايفس " لم تخلو من التهريج والتنميط الـ"كاريكاتوري" ، رٌبما الشخصية التي تلونت بلونين هي " هارفي راسيل " ( جيفري مورغان ) وهي شخصية تمتلك كاريزما ، لكن يعصرها إطار ضيَق من السخافة  .


لا عجب من توكيل مهمة إخراج الفيلم إلى " براد بايتون " الذي قام بصُنع أفلام مُوازية : " رحلة 2 : الأرض الغامضة 2012" و " سان آندرياس 2015 " ، وهي من بُطولة " دواين جونسون " أيضاً ، جميعها تتخذ آلية مُشتركة في إدارة الفوضى من جهات مغايرة ، فعلى المُستوى البصري لم يُحقق " براد بايتون " إختلافات مُقدَرة ولا إنجازات تُذكر سوى عمله مع فريق مؤثرات في حدود الميزانية ، تصميمات وحوشهم مُتواضعة لا تقترب من تصميمات " مات ريفز " في سلسلة " نهوض وفجر وحرب القِردة " أو تلك التي إستحدثها " بيتر جاكسون " في فيلمه " كونغ 2005" والذي فاز عنه الأخير بجائزة أفضل مُؤثرات بصرية ، بالنظر إلى فارق ثلاثة عشر عاماً بين الفيلمين من حيث تطور التقنيات التصويرية ، أو حتى بموازاة فيلم سابق قامت " وارنر بروس " بإنتاجه : " كونغ : جزيرة الجماجم " في العام المُنصرم والذي ترشح أيضاً ( لُبس؟ ) لجائزة أفضل مؤثرات بصرية ، بالإضافة إلى اللجوء لتصعيد الأحداث وتسريع وتيرتها لكن في كل تقدم زمني إلى الأمام هنالك إندفاع درامي للخلف .




كم جميل أن نحظى كمشاهدين بأعمال ترفيهية تحترم الوقت المُنقضي في مُشاهدتها ، لكن دون الخروج عن أبجدية أساسية تُسمى الإستمتاع العام في التجربة ، والمُتولد من تفاعل العناصر كاملة مع بعضها البعض ، فنتعامل مع شخصياتها وكأنهم بشر وليسوا مُجرد أرقام أو إحصائية على الشاشة ، فما لمسناه من فيلمنا هُنا هو طفوح الصفة الانسانية بالغوريلا " جون " دون الآخرين من هم محسوبين على الصنف البشري ، وهي مشاحنة تقضي بجوهرها إلى أحقية ما يحصل في ذلك العالم من دمار ، فالحيوانات أصبحت أكثر إنسانية من الإنسان نفسه ! . وعلى ضوء ماسبق ، يُمكن لفيلم " إهتياج " من إجتياح المتفرج في حالات مُحددة ، عند تجاهله للبشر على الشاشة وتجاهل الحوارات وتجاهل الحياة وتجاهل نفسه أيضاً ، فيستسلم إلى المشهد كما يستسلم إلى حلمه ، في هذه اللحظة نضمن له حق الإهتياج في فيلم " الإهتياج " والتفاعل معه ومشاركته أفراحه وأحزانه ورفع صوته عالياً دون أن يلحظه أحد .


تحياتي

الجمعة، 13 أبريل 2018

مراجعة فيلم A Quiet Place 2018

" في الصمت قيمة للصوت " ..

A Quiet Place - مكان هادىء

•  إخراج: " جون كراسينسكي "
•  التصنيف : رعب- - إثارة - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :   ★★★★





إنه واحد من أفلام أمريكية كثيرة تعاطت مع غزو المخلوقات الفضائية ، الدخيلة على عالم البشر ، العالم الأرضي ، وهي  تنتمي إلى ضلع الرُعب في السينما من حيث المُعالجة والتطبيق ، وتعمل بواسطة خُطة راسخة للأحداث : تهجم المخلوقات لتقتل البشر أو لتأكلهم مُجتاحةً قطرهم المعيشي فيحطاطون إما في السراديب العميقة أو البيوت المُدعَمة سياجها أو في الدوائر الحكومية المُغلقة . جميعهم يُحاولون مُمارسة فِعل البقاء نفسه ، إما في المُهاجمة وإما في إقتراح آلية للتصدي ، فتختلف تلك الآلية بإختلاف المُهادنة التي يضعها صُناع العمل على الطاولة ، فيلجأون غالباً إلى إستخدام نقاط الضعف مُحركاً أساسياً للحبكة من خلال إجتياح البشر نقاط ضعفها دون خضوع ماثل أمام عُنصر الملل ، والإستعاضة عنه في تضخَم الإشكال وتعزيزه من زوايا مُختلفة ، تُحيط أبطاله بحلولٍ عويصة ، ومُقارعة مستمرة تدنو من فكوك أحداثه .

دون شروحات كثيرة يعمد إليها الفيلم ، يستفتح  " مكان هادىء " أحداثه بالذهاب إلى عائلة مُكونة من زوج إسمه " لي " ( جون كراسينسكي) وزوجة إسمها " إيفيلين " ( إيميلي بلانت) مع أبناءهم : البكماء " ريغان " ( ميليشانت سيموندز) ، " بيو" ( كاد وودوارد) ، و "ماركوس" (نُواه جوب) ، وهي عائلة مُتجولة بعد 89 يوم من تعرض العالم لهجوم من قبل مخلوقات عملاقة تُشبه الجراد والتي تلتهم جميع الكائنات الحية ، والتي تلتقط فرائسها عن طريق إصدار الكائنات صوت أو إحداث ضجة ما ، لنتعرف من خلالهم على طبيعة ما آلت إليه الحياة بعد الهجوم ، عن طريق تغييرهم لروتينيات اليومية ، بحيث أمسوا يصنعون أقل قدر من الضوضاء ، فنرى العائلة ترسم خطوط حياتها من جديد ، وتتخذ إحتياطاتها الدائمة والمحولة بينها وبين وُقوعها فريسة بيد تلك المخلوقات .




من خلال الدخول إلى أحداث الفيلم ، نتعرف بصورة فاحصة على أسلوب معيشة تلك العائلة ، وإنتهاجها الصمت أداةً في البقاء على قيد الحياة ، ليبقي المشاهد دائمًا على حافة التوتر عند أي سلوك هامس ، مُحاولاً أن يفهم تصرفات تلك العائلة التي تواجه علامات التهديد المستمرة ، في الوقت الذي يبدأ به الفيلم جيداً أحداثه دون تكلم ببنس شِفه من قِبل شخصياته ، يُحاول إقتيادنا تجاه البدائل الشرحية لمُجريات الشاشة من خلال ماهو مكتوب على الجُدران وبعض الأدوات التي تستخدمها العائلة في تناول الطعام والاستحمام والانتقال بين مكانٍ وآخر وباقي روتينياتهم اليومية لكن في الواقع البديل طبعاً ، بالإضافة إلى إستعمال لُغة الإشارة بين بعضهم ، في توضيح بعض الحوارات المُعززة بشريط ترجمة مُصاحب ، ناهيك عن الإختيار السليم للممثلة الصغيرة ( ميليشانت سيموندز)  وهي بكماء في الحقيقة ، ساهمت أيضاً في تعليم لغة الإشارة لطاقم العمل ، مما أضاف بدوره عُنصر الإهتمام إلى مِصداقية العمل من قِبل صُناعه .

ينقلنا " جون كراسينسكي " إلى مٌستوى أعمق عن قيمة الصوت في حياتنا كوسيلة تواصل ، كما هو النظر والسمع والشم ..إلخ ، وهي بالطبع ليست تجربته الأولى مع أداء تمثيلي مُشابه ، كان قد أدى دور الإنسان الصامت في فيلم سابق إسمه " ألوها 2015" ، لكن هُنا بقيادته الإخراجية الكاملة ، إستطاع من خلالها أن يستغل غياب الصوت ليذهب بإستفاضة نحو العلاقات الأبوية مع أبنائهم وآلية التواصل بين بعضهم ، وهو مفصل رئيسي في الفيلم السابق عِندما كان يجسد دور " رب الأسرة " الذي لا يمتلك لغة تواصل مع زوجته إلا بلغة العواطف والتجسيد البدني للشخصية لينقل لنا غُربته في بيئة صاخبة ، لنرى في فيلمنا هُنا ، لكن من جِهة مُغايرة ، إبنته " ريغان " التي تحمل على عاتقها هموماً تثقل تفكيرها بالنسبة لطفلة بعُمرها ، تتضح من خلال إحساسها الدائم بتنحي الحضن الأبوي عن إحتواءها مثلما يحوي أخوانها ، ومن هُنا تأتي مُفارقات الفيلم القاضية والتي تُغيَر من مجرى الأحداث وتُعيد لتلك الطفلة بعضاً من إعتبارها .

إن ما سبب إختلاف فيلم " مكان هادىء " عن باقي أفلام من نفس الطينة ، ليس جميعها ، هو العامل الدرامي النافذ في القصة والذي كان قادراً على رؤيتنا للموضوع من تلك الزاوية دون التركيز على عُنصر الرُعب الأساسي ، فهو بطبيعة الحال لا يخرج عن التعليمات السابقة لأفلام مٌشابهة في تنظيم خضاته الفزعية وموسيقاه التوجيهية نحو الخطر أو حتى تصميماته الشكلية على مستوى العمق البصري ، فهو يمتلك ميزة مُوازية ، لا تتعدى ، ماسلفه من أعمال ، لكن العُمق الدرامي كان له اليد العليا في مُجريات أحداثه ، فقد حاول من شحن أداءاته بفعالية كبيرة ، بوضع بُطولة مُشتركة وموازية ، حاضرة بين جميع المُمثلين وتتشارك هيكلية مُنتظَمة . فتنقلنا الكاميرا بعدستها إلى وجه " إيميلي بلانت "  ذي العصب القاسم في الجبهة والمُتعرَق والمنهك من إستياءه ، لنعي حجم الوهن النازل على قلبها من خلال إنفعالاتها وتفاعلها مع المُحيط بغريزة أم تحمي أطفالها بنفسها وتُشارك زوجها الحميمية بصدق دون " كليشيهات " مهروسة ، وهذا بالطبع يعود أيضاً لكونها زوجة " جون كراسينسكي" في الحقيقة ، مما ساعد في كسر الحواجز والتحضيرات المُتكررة لدى الدور ، بالإضافة إلى دور " جون كراينسكي" هو الآخر ، الذي كان يمتثل أمام تقسيمات وجهه التعبيرية ولغة عيونه عند المُنحدرات الدرامية ، بلقطات " كلوز أب " تمركزت على وجهه ووجه زوجته فعكسا بدورهما براعة التجسيد ، ولا ننسى الدور الكبير المُلقى على عاتق " ميليشانت سيموندز" والذي لا يقل إجادة عن الآخرين ، بإعتبارها شخصية مِحورية ساهمت في تحفيز الحبكة بتجلياتها و تعابيرها الجسدية .




هامش :

رغم وقوع فيلم " مكان هادىء " في قلب الصمت وعلى حافة التكلم ، إلا أنه ، وبصورة جزئية ، يعبَر عن رِسالة حضورية تُرثي سينما الصمت ، وإستشرافاً للإرث السينمائي المُلحق من خِلفتها . إن ما لم نفهمه حتى الآن عن سينما الصمت وطبيعتها المُتوحدة مع نفسها ومع مُشاهديها بخصوصية كُبرى ، بالمُقارنة مع أي سينما مُقابلة ، هو تحفيزها  الدائم للمشاهد في إختراق الشاشة والنزوح عن أية إستقطابات تصريحية وتلقينية نحو ماهو مُتخيَل ومرسوم في الذاكرة عن طريق إعادة صياغته ، كما إلتمسناه من المشهد الإفتتاحي في الفيلم ، لأن الطبيعة المشهدية في سينما الصمت تفرض عليك عُصورات ذهنية تهدف إلى دبلجة المرئي لما هو مسموع ومحسوس ومشموم أو مُدرك مادياً بصفة عامة ، بتواصلها الدائم مع الزمان والمكان من منظور مُعرَى عن الإصطلاح من خلال إعادة توليفه من جديد بصورة أكثر ذاتية وأكبر جمالية بل وأكثر إنفرادية مع المُشاهد ، فكما أن الأعمى تزداد لديه حاسة السمع قوة ، فإن الصورة البكماء تقوي جميع الحواس ، وتفرض دفوعها المنطقية نحو التواصل ورسم العلاقات بصورة أكثر إلتحاماً ، فكم تمنيت أن أنزع شريط الصوت من العجلة كما أنزعه عندما أشاهد صمت السينما بين يدي ، فأعيش الحكاية أكثر وأعطيها قيمتها الحقيقية .

تحياتي

الخميس، 12 أبريل 2018

مراجعة فيلم Den Of Thieves 2018


" سطو مُسلَح  ينتهي بلعبة القط والفأر " ..

Den Of Thieves - وكر اللصوص

•  إخراج: " كريستيان غودغاست "
•  التصنيف : أكشن - جريمة - إثارة - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :   ★★★



لم ينقص هذا الفيلم سوى خروج " جيرارد باتلر" على جمهوره راخياً سرواله ومُتبرزاً على الشاشة ليثبت أننا أمام شُرطي مُنحرف ومغرور ، يحمل نزعة مُتحاذقة على الباقين بذكائه ، بهذا الوجه الممتلىء بالطعام والشتائم المُترامية ، بالمؤخرة المُتمايلة والكرش المُتدلي والجسم المُكدسةِ دهونه ، يعود لنا السيد " باتلر" بأداء لا يقل تمييعاً عن باقي أدواره السابقة والتي غضَت الطرف عن موهبة جيدة وأخفتها وراء الستار ، وقوضت من إجتهاداته فأصبحت تقتصر على أداءات كوميدية لاهية أو درامية مُسطحة ، والرصيد الأكبر كان في حساب شخصياته الحَركية لأفلامه "الأكشن" والتي برزت في سنواته الأخيرة وحافظت على إستمراريته قدر المُستطاع تحت الأضواء كما في فيلمه الأخير .

يُحيينا الفيلم في بدايته من خلال إشتباك ناري على إثر سطوٍ مُسلح ، لنتعرف من خلاله على عصابة من اللصوص بقيادة " ميريمين" ( بابلو شريبر) بالتعاون مع نجوم آخرين كـان من بينهم " آنسون" ( 50 سنت) و " دوني ويلسون " ( أوشايا جاكسون ) ، هذه العصابة تهدف إلى سرقة البنوك المركزية بخطط دقيقة و طاقات مُدربة ، تُخلَف وراءها إما خزانات فارغة أو ضحايا أموات ،  لينتهي المشهد بسرقة شاحنة أموال فارغة ومن ثم تصحبنا الأحداث المُتشابكة لنتعرف على قائد وحدة الجنايات الكُبرى " أو براين " والمُلقب بـ " بيغ نيك " ( جيرارد باتلر) مع أفراد وحدته ، كان من بينهم " بروشو " (موريك كومبت) ، وهي فِرقة جنائية تعمل وراء الكواليس تتقلد مهامها في الإطاحة بالأهداف الحساسة والشبكات المُعقدة ، لتصحبنا الأحداث برفقتها بين كرٍ وفر في لعبة القط والفأر من جِهة الشرطة ومايُقابلها من جِهة اللصوص ضمن علاقات مُعقدة وخطوط مُتفرعة .

في ظل المهمة المُسندة إلى مُخرج الفيلم وكاتبه : " كريستيان غودغاست " ، صاحب أفلام سابقة قام بكتابتها : " سقوط لندن " بطولة "جيرارد باتلر " أيضاً ، و" رجل مُمزق " لـ " فان ديزل" ، يُحاول " غودغاست " من أن يُشرك نفسه داخل لعبة ذكية تٌفضي وتطرح أكثر من اللازم  ، ليقع في عثرات عدة وسقطات مُتفرقة ، برزت في إفتقار شخصياته للـ"كاريزما" الدرامية والتي لم يٌضفي عليها عُمقاً كافياً ، فعلاقة الشرطي مع المُجرم يسودها الإحترام في المُسمى العام ، لكن ليس بالصورة التي تعكس من منظورها جسامة الموقف كما شاهدنا سابقاً بين " روبيرت دينيرو" و"آل باتشينو" ، في فيلم " حرارة " للمُخرج " مايكل مان" ، سوى أننا أمام فيلم حَركي مُستنسخ لما قبله دون إستنارة ، بين أفراد تتخافق من هُنا وتتثاقل من هُناك وتُلقي بالرصاص دون رقيب ولا حسيب , ناهيك عن  إلتزامه التركيبة العالمية في حضور الشخصيات النمطية على الساحة ، فالشُرطي يأخذ منحى الشخصية المُتبلدة والتي تُعاقر النساء دائماً ، فتنتهي به الأحوال إلى مشاكل زوجية تفضي بالطلاق وتختفي المُشكلة على أرضها دون مُعالجة ، بالإضافة إلى علاقات مُقحمة تتعلق بباقي أفراد العصابة بين بعضهم البعض وبين عائلاتهم ، جميعها تقع أسفل عباءة نص مُشتت ، والذي يمتد بزمنه إلى الساعتين والنصف دون ضرورة درامية .

 يمتلك فيلم " وِكر اللصوص" مجموعة من العناصر الفاعلة ، كان من شأنها أن تصُنع فيلماً مُستقلاً عن سابقيه ،  فعلى الرغم من إفتقاره إلى ميزات الربط والمُعالجة وتحقيق أهدافه بإنتاجية عالية ، وفي اللحظة التي حاول بها " غودغاست " من تبديد زمنه بالمزايدات المشهدية ، إلا أنه يُحافظ على وتيرة مُتسارعة في الإيقاع تعود بفضله إلى توزيعه المُناسب لمشاهد الاشتباكات المُحبوكة تشويقياً وبصورة معقولة ، بالإضافة إلى إستفادته من غياب عُنصر اللغو في الحوار وإستبداله بعٌنصر التشويق المُعزز بلقطات حامية الوطيس ، ليُحافظ من خلالها على قيمته الترفيهية دون شعورٍ مُسبق في ضياع الوقت أو ثِقل الزمن على طاولة الأحداث  .

تحياتي

الأربعاء، 11 أبريل 2018

مراجعة فيلم le bonheur 1965


" هل يوجد ماهو أكبر من السعادة؟ "..

le bonheur 1965 - The Happiness - السعادة

•  إخراج: " أنيس فاردا "
•  التصنيف : دراما - رومانس
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :   ★★★




ليس بالغريب على فيلمٍ عِنوانه " السعادة " أن يكون سعيداً ، ولا أن يعجَ بالألوان البراقة ولا الأشكال الحداقة ، لكن الغريب أن يكون عن السعادة ذاتها دون لذعة ألم أو قدحة إشكال : ما إذا إعتبرنا أن الأحزان هي سبيل قوامة البشر تجاه السعادة ، تُربي التواضع لديهم نحو فِهم أبعد للحياة وأحكم للعق . في فيلمنا هنا ، حاولت " آنيس فاردا " من أن تُشغل المُشاهد بالقدر الأكبر من جماليات الصورة الغنية باللوحات البصرية الأخاذة ، والتي تعكس بدورها روح الحِكاية وليونة شخصياتها الصادرة من نبع السعد نفسه ، ولنرى أن الأخيرة ماهي إلا صنيع ذاتي يُمكن أن بعتمده  الانسان كأساس وليس كإستثناء / كون أن الحياة بمُجمل مٌسمياتها تعتمد الثنائية التكاملية بين فعل التعاسة ورد السعادة ، وبتشكيلهما علاقة تشاركية لا تكتمل الواحدة دون دعمٍ من الأخرى . وفيلمنا هُنا ، تقلدت السعادة الرئاسة الجمهورية ذات الوظائف الأحادية بمنأى عن التعاسة ، التي لا تُمثل سوى بضع عثرات وأشباه نتوءات فاهية على السطح  . فلا ترجع بإعتبار جاد نحو سبر أعمق لمفهوم الحياة أو سعي نحو معنى أسمى للسعادة ، فالمسألة التي أوردها الفيلم إرتبطت بديمومة الهناء على الأرض مُحاكاةً لطبيعة الجنة في السماء ، وإستعارت طوق السعادة الملفوف حول خاصرة شخصياتها ، وإعتماده الأساس في الحصيلة الرئيسية والمُتطلب الدنيوي ، أما بناء السعادة وإستكمال طلبها هو السعي الجاد نحو سعادة أكبر فأكبر ! .

تُعبّر حِكاية "السعادة " عن طبيعة إسمها الساقط على حياة زوجين وأبنيهما . الحياة الذاخرة بأجواء الفرح والانبساط  والتفاهم . فالزوج " فرنسوا " : طويل القامة ، رشيق البُنية ، وجهه وسيم يحمل غمازات ، ويعمل في النجارة . أما الزوجة "تيريز " : فهي قصيرة ، بريئة ، طيبة ، مُخلصة لزوجها وأبناءها ، وتعمل في صناعة فساتين الزفاف والألبسة النسائية ، بالاضافة الى طفليهما الصغيرة "جيسو" وأخوها الكبير "بيروت" . نُصحب جميعنا برفقتهم إلى ريف "فرنسا" في رحلة بين أشجارها ومنابت خضرتها وفاكهتها وزهرها ، لنتعرف بصورة فاحصة على تطابق السعادة للطبيعة الآدمية مع الطبيعة الأرضية ، فجميعها علامات مُكملة لـ "ثيمة" عُنوانه. ننتقل بعدها إلى " إيميليا " : الجميلة ، المُغوية ، الساحرة ، تعمل في البريد الوطني ، والتي تَقع وتُوقع " فرنسوا " بالصدفة في أحضان حبها ، ولتغرق هي الأخرى في سحر عيونه ووسامة رجولته . فتتلاقى نظرات الإعجاب الأولية ، وتتوالى الزيارات شيئاً فشيئاً وتكبر العلاقة داخل مُثلث الحب نفسه والمربوط رأسه المدبب في قلب رجلٍ يتسع لدزينة من النساء ، وتُقنعه الرغبة دوماً بأن لديه ما يكفي ليحبهم جميعهم ، في أي مكان و أي زمان . 




 لا عجب من وجود إنقسامات غريبة في هذا الفيلم ، لاسيما أنها مرتبطة بعوامل يُمكنها من إضعاف مُجريات الحبكة وتتفيه أكبر للمُحتوى : كإطلاق العنان للبشاشة والروح المعنوية الجميلة دون وقوع لمسة شيطانية تُثير الرغبة ، أو حتى إثقال الأداءات بتجسيدها . لكن ، ورغم ذلك كله ، إستطاع الفيلم من أن يسحبك إلى عالمٍ موازٍ من المشاعر الغير مُسيطر عليها أو مُدركَة لعواقبها  ، خصوصاً تلك المُتعلقة بحُب المُشاركة مع الآخر بأطر مُتساوية  ، فيختلس بنظرة إلى مدى العدلية التي يُمكن أن يحرزها الرجل في تلك المواقف ، هنا تزداد الحبكة تعقيداً من منوال أصعب للفهم ، وخصوصاً أن الشخصية الرئيسية ،وهي الرجل، تُعاني من فرط منح الحب ، للزوجة وللعشيقة على حد سواء ، وليس لديه  مانع من أن يجمع الإمرأتين تحت ظله دون مناكفة ذهنية وعاطفية في حُب واحدة على حساب الأخرى ، فهي بطبيعة الحال الثيمة الأساسية للنص ، ومن خلالها تختلص المعالجة النهائية في إحتساب الفرط المتدفق من أنزيم الحُب وحساب ضياعاته ، وهي حالة غريبة بالطبع ، لا يٌمكن عكسها على حالة واقعية أو عملية في الحياة الخارجة عن إطار الشاشة ، لكن " أنيس فاردا" إنزلقت تحت المُسميات العامة وقادت بفحص جزئي نحو تفاهة السعادة أو سخافة الرجل في طلبها ، لإعتقاده بأنها شجرة ، يرى بها نفسه الأصل وباقي أحباءه هم الفروع ،  التي تكبر من ضلعه وتزداد مراحل نموها تضخماً ، ويُعاد بناءها من جديد .

المراحل الدرامية التي مرَ بها الفيلم قُسمت إلى عدة مراحل في ذهنية رجل وعاطفته المُفرطة ، فصلت بينها ومضات لونية خاصة ، تعبر من خلالها عن هالة الرجل وحالته الآنية وتترجم مشاعره المُتلونة ، فمثلاً : اللون الأحمر الذي يُمثل الحب وفورته بينه وبين زوجته ، والأخضر الذي يُمثل سعادة الحب الإضافي أو التشاركي بعد تعرفه على " إيميليا" ، أما الرمادي كان مرحلة القلق والتوتر من السعادة وهاجس جمعها في زاوية واحدة دون إحتقان الموقف من قبل جهة على الأخرى ، ثم الأسود الذي يُعبَر عن العثرة و الحزن والكآبة والصدمة  ، واللون الأصفر الذي يُعبر عن سقوط أوراق الحب ، لتنمو بعدها أوراق حُبٍ جديدة تشهد إستمرارية شجرة الحياة داخل كنف قلبه وحبه الوفير الذي لا ينفذ .


قد لا تكون هذه الحكاية ذات صقل تام للمُشاهد وتلبي كامل رغباته الجامحة ، لكن ما يجعل منها حِكاية مثيرة للإهتمام ، هو الغموض الذي فرضته " فاردا" علينا من خلال تلك الشخصيات ، التي يعتري كلٍ منها كياناً مُستقلاً عن الآخر ، فلا تسمح في الإنحياز لجهة على حساب الأخرى ، أو الوقوع في مصيدتها "ميلودرامياً" ، فجميعها عالقة في عالم الأحلام ذاته والرغبة السعيدة في منح المزيد من الحُب ، وكأننا داخل حكاية خيالية كالتي يتناولها الأطفال وتدور عجلة تشغيلها مراراً وتكراراً ، فهو فيلم حساس ومغرق باللوحات البصرية والألحان الموسيقية ، والتي مثلت من خلالها خُصوبة غرامية في طور العشاق ، ناهيك عن إلتقاطه لإطارات دقيقة تتفاعل معها الأطروحات العضوية داخل الصورة ; فالألوان تتداخل صانعة بدورها لوحة فسيفسائية ، وبعض اللقطات تتتابع بسرعة موظفة عنصر الإيحاء . وبالحديث عن التوظيف الجسدي في الفيلم ، فقد إختبرنا ، كمشاهدين ، إستشعار " فاردا " للأداة الجسدية لتوطيد رؤيتها ، فقد حازت الأجسام على النصيب الأسد من اللقطات لتعزز بدورها من فتنة الطبيعة وواقعية اللوحة النهائية وتزيد من جمالية المشهد  .

- حاز فيلم " السعادة " على جائزتي لجنة التحكيم و " الدب الفضي " في مهرجان " برلين " السينمائي عام 1965  .

الثلاثاء، 10 أبريل 2018

مراجعة فيلم Jules and Jim 1962





" إمرأة لا تُريد أن تكون مفهومة " ..

Jules and Jim 1962 - جولز و جيم

•  إخراج: " فرنسوا تروفو "
•  التصنيف : دراما - رومانس
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :   ★★★★




ما إن ذكرت على لساني موضوع الموجة الفرنسية في السينما حتى تسارعت إلى ذهني صورة أحد أفلامها المُهمة المُدعى بـ " جولز وجيم " للمخرج الراحل " فُرنسوا تروفو " ، وهو فيلمه الروائي الطويل الثالث بعد تُحفتين أخريات : " 400 ضربة " و " أطلق النار على عازف البيانو " . ظهر هذا الفيلم  خلال فورة " المتموجون " الفرنسيون " أمثال : " جين لوك غودارد " ، " لوي مال " ، "ريفيت " ، "شابرول" ، "روهامر" ، وغيرهم من أصدقاء الموجة ، لكن ورغم كل الظروف المُحيطة به ، كان هذا الفيلم يحمل روحاً جميلة في طياته تختلف عن الروح الثورية التي إعتمدها باقي أقرانه من الأعمال المتمردة : ما إذا قارناه بجنون " جين لوك غودارد " بفيلميه : " بيير المجنون 1965" و " المرأة تبقى إمرأة 1961 " . كان " جولز وجيم " هو الأكثر شفافية وأقل حدية وأوسط إختلافاً عن الباقين ، جمع بدوره صنفين سينمائيين في ذلك الزمن : واحدٌ ما قبل الموجة وآخر ما بعدها . وهذا  ما يظهر جلياً داخل فٌصوله الدرامية وتوازن سياقه السردي ، فكثير من الأحيان أعتبره واحد من أفضل الأفلام التي إنفصلت عن الماضي ، والتي هزت بدورها جدار " هوليود" الثابت أمام أي تغيَر جذري ، فهو يقع بإعتباره الأكثر تأثيراً من بين باقي الأفلام المُتموجة : نظراً لموضوعاته الحساسة ، والتي كانت صفة سائدة داخل سينماها أيضاً .

"جولز وجيم" حِكاية عن  صديقين تغيرت حياتهما بواسطة امرأة تُدعى " كاثرين ". "جولز" الشاب النمساوي القصير ، الهادئ ، وصاحب الشخصية الجذابة ، في حين أن " جيم " هو الشاب الفرنسي ، طويل القامة ، الساحر ، وصاحب الشخصية الودودة . يجتمعون في باريس ، عشية الحرب العالمية الأولى ، فيتشاركان أفكارًا متشابهة وأحلامًا "بوهيمية" - مُصطلح يدل على فئة من الكُتاب والأدباء - مُشتركة تتوحد بكونهما يريدان أن يُصبحا كُتاباً في المستقبل ، وسرعان ما يُصبحان صديقين حميمين  ، ليتعرفا فيما بعد على " كاثرين" الفتاة الفرنسية والتي تُشاركهما أفكارهما هي الأخرى ، لكنها تختلف عنهما بكونها ذات طابع حر لا يُمكن تملَكها بسهولة وهذا ما سبب سحرها المبعوث تجاه " جول وجيم " والمُحرك الرئيسي في حبكتنا هُنا . فتدور أحداث الفيلم من خلالها داخل كومة من العثرات ، بين سفرٍ وغياب ومن ثم خيانة . فيلمنا هُنا يمتلك المقومات الأساسية من جعله فيلماً فرنسياً جذاباً : سحر ، مرح ، شجاعة ، حزن ، وحيوية. يتضح ذلك جلياً من خلال شخصياته التي تتشارك مثلث الحب نفسه ، والذي يفضي بمدلوله إلى أن الحياة تجربة والفيلم بالفعل تجربة ، يصور من خلاله إتجهاتٍ لعوالم " جولز" و " جيم" المُنفتحة على مِصراعيها دون حدود ، تعبرها  "كاثرين " بحُرية وكأنها هي الحُدود بينهما وإليهما في نفس الوقت . إنه أشبه بفيلم حركي لكن بحركة المشاعر وتردداتها ، نعيش صُعودا وهبوطاً بين مزاجية أبطاله وروحهم الشبابية والمتبدلة ، حتى في إنتقاله بين فضاءات تصويره كانت الحركة حاضرة دون توقف .



على الرغم من عنونة الفيلم بـ "جولز وجيم" ، إلا أنه فعلياً عن "كاثرين" ، هي الشخصية التي نتذكرها أكثر بعد إنتهائنا من مُشاهدته ، والبطلة المحورية في القصة والمُستهدفة من الدراسة النفسانية لدى الشخصية ، فهي تأسرك من خلال حماسها الحضوري والذي يلتزم بدوره تعريفنا المُستمر بها عند كل منعطف درامي . إن ما سبب "جاذبيتها " الكبيرة كإمرأة بين رجلين ، هو رفضها المُستمر أن تكون هامشاً أو مُجرد تلبية لرغبات عابرة ، فهي في كثير من الأحيان تردد عبارة : " أنا لا أريد أن أكون مفهومة " ! . فبالنسبة لـ"كاثرين" تلك العبارة تُلخص ما نحن مُقبلين عليه ، فهي إنسانة تسعى جاهدة إلى إقصاء نفسها عن أي إنفرادية جنسية تجاه أحد أو حتى فِهم كامل لها ، لأن في هذه الحالة بالتحديد سوف يتم إمتلاكها من قبل الآخر ، وهو الأمر الذي ترفض أن يحدث ، حتى عندما تصبح زوجة لأحدهما ، داخل أحداث الفيلم ، تظل عشيقة للآخر ، وهي الحالة الوحيدة التي لا يُمكننا - نحن المُشاهدين - من لوم القدر بظلمه ، لأن " كاثرين " هي من تصنع قدرها ، من خلال ترك عجلة القيادة شاغرة دون توجيه ، وبإعتقادها أن الوجهة الواضحة لطريقها هي وِجهة إلى السجن ، حتى لو تغلف الأخير بقضبان الحب .


في هذا الفيلم  يضرب " فرنسوا تروفو" حجرين في خِلقة عصفورٍ واحد ، الحجر الأول كان بمثابة مُحاكاة مِخبرية وطموحات ذاتية تمكنت من جعل شخصية " كاثرين " مُزدوجة التجسيد والتركيب ، فذلك كله كان في سبيل  أن تُعبر بأسلوبٍ أو بآخر عن عن الحالة الذهنية للمرأة عند تبادل الأدوار بينها وبين الرجل على أرض الواقع ، في ظل رغباتها  المكبوحة في أن تمتلك حرية التنقل بين رجلين يحملون إسمها وليس العكس ،  وتملك عاطفتها دون منحها بسهولة كما هو السائد في فهمنا المُبسَط عنها . أما الحجر الآخر فيأتي بمثابة صفعة من تحت الحِزام للأطر التقليدية المُتبعة في السرد عند حياكة الشخصية من قِبل الكاتب ، في سينما ماقبل الموجة ، ولما بعدها أيضاً ، ولتبيان أنه حتى ولو كانت تلك الشخصية من وحي الخيال أو تعبر عن مرحلة تجريبية على الشاشة فإنها لن تظهر بالتركيبة البسيطة كما هي العادة في  أعمال " الرومانس " ; التي تُعالج حب المرأة بسهولة مُفرطة وشجن الإستماتة في عشق غيرها ! ، فهذا ما أعطى أداء " جين مورو" عُمقاً كافياً عن تعريف المرأة في الحب ، وهو التجسيد المُناقض لدورها في فيلم " مصعد إلى المشنقة " ، للمخرج الراحل " لوي مال "  ، والذي ناقش على هامش عريض حب المرأة ، لكن بالمُعادلة البسيطة .




يعرض " فرنسوا تروفو " هُنا العديد من تقنيات الإخراج التي جعلت من أفلامه وأفلام الموجة موضع إهتمام عند الكثيرين ، مثل : القفزات المونتاجية الغير مُنظمة ، وإطارات التجميد على وجه " كاثرين " تدويناً للحظة إستشعارنا لردة فعلها ، فقد إستطاع " تروفو " من أن يخلق حكاية من رحم الإختلاف الذي وُلد منه مُخرجاً وناقداً ، أراد أن يعيد توزيع القيادة بين الجنسين ويمنحها هذه المرة لإمرأة ، فنجح بذلك ، عِندما إختار " جين مورو " لتقديم دور مُركب كهذا ، نجحت من خلاله أن تُجسد المنطقة المُبهمة في دماغ كل إمرأة ، والذي نصطلح غالبيتنا على تسميته ، مازحين ، بـ " الأعوج " ، ونجحا في أن يُترجما ذلك الإعوجاج على أرضية فيلمية خصبة ، فهكذا مُعالجة لا يٌمكن إحكامهما إلا من خلال هكذا قصة ، غير منطقية وغير واقعية بالطبع ، لكنها في الحقيقة صادقة بمشاعرها وتجلياتها على الشاشة ، تُعالج الأمر من منظور بعيد عن المُشاهد لتعكس نتائجها على القريب منه .

الاثنين، 9 أبريل 2018

The Citizen Kane & The Dark Knight


"عندما يٌبدع الكاتب في استلهام مادته "

..
ChristopherNolan & Orson Welles
(The Dark Knight / The Citizen Kane)






كتب  : ليث التميمي :-

بينما كان " كريستوفر نولان" يستعد لتصوير فيلمه " فارس الظلام" ، قام بعرض عِدة أفلام على فريق العمل ومنهم الممثلين أيضاً ، كان من بينها الفيلم الظاهرة " المواطن كان " . لمن شاهد " المواطن كين " سوف يعي تماماً حق العبقرية الكامنة داخله وداخل رؤية صُناعه ، وبالتحديد عِندما يقوم بمُقارنته مع أفلام جيله ، من حيث طبيعة السرد والتوليف البصري والصوتي أو حتى أداء " أورسن ويليز" نفسه ، ويعود الفضل الأعظم الذي عاصر هذا الفيلم ، والذي ضمن له الإستقلالية عن باقي أقرانه ، بإعتباره عملاً لا يُمكن مُقارنته في أحد ، إلى دخوله المفاجىء عالم السينما ، ومُقتحماً أبواب "هوليود" لتلك الفترة ، عندما كانت ذات أنماط مُتماثلة في طرح أعمالها السينمائية ، وبإعتمادها السطحي على عناصر الحُلم الأمريكي في القوة والغنى والسعي نحو القمة بقيادة بطلٍ لا يعرف الهزيمة ولا الخنوع ، داخل حبكات تقليدية نُوَم عليها جُمهور السينما وقت الحرب آنذاك .

نتيجة بحث الصور عن ‪christopher nolan dark knight‬‏


" المواطن كان" مارس نقيض ذلك كله ، عِندما تحدث عن القوة وتفاهة طلب القوة ، عن الشهرة وقتامة ضوء الشهرة ، وعن البطولة وتشويش صورتها داخل أدمغة الجمهور ، والكثير من الأمور النقدية للمجتمع والفرد على تقابل النظيرين . والكلام السابق لا يُعبَر سوى عن نظرة عامة لما يحويه سيناريو " المواطن كان " ، الذي لانود الخوض بتفاصيله هُنا ، ودرس في التركيبة "السايكولوجية" التي إعتمدها " أورسن ويليز" عند التنقل بين طبقاته ، بين الحالة والمضادة لها تماماً .

إن اللغز الحقيقي والمرتبط في هذا الفيلم كان كلمة " روزباد" ، التي إستهل بها الفيلم أحداثه عندما تلفظ بها "كان " خلال أنفاسه الأخيرة . "روزباد" هي في الأصل إسمُ زلاجته التي كان يلعب بها في الصِغر ، ويستمد منها الفيلم أحداثه من خلال البحث والتقصي عند مدلولها ، ولفهم أكبر لشخصية " كان" والعمل على توصيل الغاية الرمزية من تلك الكلمة ، وقد نجح بذلك بالطبع.




بالعودة إلى " كريستوفر نولان " وعن طبيعة إستلهامه من " المواطن كان " ، في المرة الأولى عند مشاهدتي للفيلم كنت قادراً على تشكيل المُقاربة التي إشتغل عليها " نولان " في تصميم شخصية "الجوكر" ، من حيث التركيبة المُتنافرة للشخصية (طبيعة آدمية ) وغرقِنا داخل أبعادها النفسية ، على عكس باقي الشخصيات النمطية ذا الطابع المُطلق في السلوك ، خير مطلق أو شر مطلق ، إستطعت من خلالها وضع بعض النقاط على بعض الحروف كي أستشعر بوضوح ذلك المُسمى العام لتلك الرمزية في إرتباط الآلية بالتفكير عند الشخصيتين ، بإعتبارها شخصيات وُلدت من رحم الواقع وليست محض خيال أو إنغماس في الوهم .

لكن بعد المُشاهدات المُتكررة ، وبعض المُتقطعة منها عند الرجوع إلى مشاهد مُحددة ، كان العامل النفسي يُأتي أُكله في توثيق معنى أوضح لكلمة "روزباد" ، في ذلك التقارب بينها وبين عبارة " الجوكر" المُتكررة : "أتدري كيف حصلت على هذه الندوب؟" ، التي يلجأ لها عِند تعرضه لمواقف حساسة يُبرز بها نتوءات مرضه أو لنسميها "هواجسه" ، فيُظهر تناقضاً غريباً في الإجابة عنها ، تختلف بإختلاف طبيعة الموقف ، والتي لا تكن بتلميحاتٍ فاضحة سوى أنها خرجت من شفاه عقلية مريضة فحسب ! ، لكن سرعان ما يُجلي الوضع نفسه إلى أبعد من ذلك ، عندما نفرش أرضية الإسقاطات النفسية ، ونُقدِم على فحص "تخيَلي" للتجارب التي خاضها خلال حياته وشكلت الجبِلَة الماثلين أمامها اليوم .

في " المواطن كان" ، ذُكرت كلمة "روزباد " خلال حدثين مفصليين في حياة " كان" ، الأول عندما توفي ، في بداية الفيلم بطبيعة الحال ، والثانية عندما هجرته زوجته " سوزان" . أما في " فارس الظلام" ، قام " الجوكر" بالتحدث ، خلال مشهدين أيضاً ، عن أسباب تعرضه للندوب على وجهه ، في المرة الأولى كانت مُرتبطة بالتي رسمها والده ، المُجرم والسكَير والعاطل عن العمل ، على وجه أمه فشوهه ، وقال لإبنه(الجوكر) عبارة : "لما كل هذه الجدية ، لما لا نرسم إبتسامة صغيرة على وجهك ؟! " وعلى أساسها قام بجرح وجهه مما أفضى إلى تشويه خِلقته . في المرة الثانية كانت العبارة مرتبطة بزوجته التي قام المُجرمون بتشويه وجهها عندما لم تسدد ديناً قامت بإستلافه ، نظراً لحالة الفقر التي كان يعيشها " الجوكر" سابقاً ، ومن فرط حُبه لها قام بجرح نفسه ليصبحا الإثنين مُشوهين بتآلف دون نفور أحد من الآخر ، لكن زوجته ، في نهاية المطاف ، لم تُطق شكله فأشمئزت منه وقامت بهجره .

في الفيلمين ، كان الهجر والانفصال عاملا تحول في شخصية كلَ من " الجوكر" و"كان" ، بإعتبارها مُنعطفاتٍ حادة في حياة كل منهما ، كونت من خلالها أفكارٍهم الخاصة و هواجسٍهم الذاتية عن طبيعة الحياة وأسلوب مجاراتها . فلو إعتبرنا أن "كان" كان يملك فُقداناً للأمن والحب - المزمن - ليٌعوضه بإعتلاء المناصب والتفرد على باقي أقرانه كنوع من السُخرية الذاتية على طبيعة البشر التي تفنى بماديتها على حساب براءتها ، فإن " الجوكر" كان يُعبر عن نفس السخرية التي يحملها ضد عالم الإجرام الذي يستعد الساكن به إلى إزهاق أرواح وطمس أحلام في سبيل بضعٍ من الأوراق . لكن ، وبرغم وقوع الشخصيتين داخل بُركان الإشمئزاز والنقم ذاته ، آلت أحوالهم الى الشرب من نفس الكأس الملوثة ، بل وأصبحا ضمن قرارات مُتطرفة أسياداً عليها .

إن المُقاربة التي قام بها " كريستوفر نولان " شديدة الحساسية والعبقرية في نفس الوقت ، دون وضع الأخير نفسه عرضة للإتهام في التقليد أو الإستنساخ ، وإنما من خلال صنع مسار جديد لإستلهامه ، ساهم بدوره في تحقيق فِكرة التركيب السايكولوجي للشخصية دون تسطيحها ، وإستثمار جرح الصِغر كمنفذ واسع في تشكيلها ، فالـ"الجوكر" لم يختلف كثيراً عن " كان" إلا بالفوارق المادية والمستوى الإجتماعي ، فالإثنان هُما وليدا شرخٍ كان أساسه الإنفصال عن حضن الأم والحرمان من عواطفتها ، حاولا تعويضه في حب الزوجة دون نتيجة ، لينتهي كلَ منهما في عالم مغاير عن الآخر لكن بغريزة الحرمان ذاتها ، الأول يجمع المال والتحف والجاه والقوة في سبيل تعويضه لعاطفة مقموعة ، أما الآخر فيسرق البنوك ويحرق المال ويعيش عشوائيته المُنظمة في سبيل أن يبقى في بؤرة الاهتمام .





() عبارات إشتركت بها الشخصيتين في المضمون :

- "كان " : أنا لا أعرف كيفية إدارة الصحف وأحاول تجربة كل شيء يدور في ذهني" .

- "الجوكر" : "هل أبدو حقاً كرجل ذي خطّة؟ أوتدري من أنا؟ أنا مثل الكلب الذي يطارد السيّارات لن أدري ما عليّ فعله ! ، لو أمسكتُ بإحداها أتعلم؟ أتصرّف بعشوائيّة فحسب.



تحياتي