الجمعة، 31 أغسطس 2018

بلقطة طويلة وعلى نفس طويل؛ نختبر مجزرة جزيرة «أوتوايا» النرويجية - مراجعة فيلم U - July 22 2018




U - July 22  2018 - أوتوايا - 22 يوليو

•  إخراج :  إيريك بوبي
•  التصنيف :  دراما - إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★ (ممتاز)


ساعة ونصف؛ ليست المدة الزمنية التي تم عرضها من فيلم «أوتوايا - 22 يوليو» الجديد للنرويجي «إيريك بوبي» في مهرجان «برلين» الماضي فحسب، بل هي المدة الفعلية التي استغرقها الهجوم الثاني على جزيرة أوتوايا - قرب العاصمة النرويجية «أوسلو» - الذي اشتق منه الفيلم أحداثه بعد الهجوم الأول الذي استهدف مبنى رئاسة الوزراء عام 2011 وأسفر عن مَقتل العشرات من المدنيين والعزّل في الوقت آنذاك. قام بتنفيذه النرويجي اليميني المتطرف «آندرس بريفيك» رداً على سياسة بلاده المتعاطفة مع قضايا الهِجرة والمهاجرين، مكلّفا إياها أضخم مجزرة حصلت في تاريخها. 

«أوتوايا - 22 يوليو» هو الفيلم الذي تم عرضه، كما أسلفنا، ضمن فعاليات الدورة الـ68 من مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله) في «فبراير» الماضي، بتنافسه على جائزة الدب الذهبي الكبرى، متناولا تجربة نجاة حقيقية لإحدى ضحايا مذبحة جزيرة «أوتوايا» النرويجية لفتاة تدعى "كاجا". من خلال توثيق محاولاتها البائسة للبقاء على قيد الحياة هرباً من الموت الملاحق لها أثناء الهجوم الإرهابي على المخيّم الصَيفي الذي كانت تُشاركه مع شقيقتها الصغرى، قبل أن تتقطع بهما السبل وتنفصلان في وقت لاحق.

اللقطة الذاتية..واختبار الخطر

في هذه المِحنة، نعيش ونختبر شعور الخوف والخَطر والهروب المدوي للأمام دون توقف. «إيريك بوبي» بكاميرته المحمولة والكاتمة للأنفاس والحاجبة للرؤية، يلقي بجميع شخصياته، والمتفرجين من بعدهم، في قلب الحدث وبؤرة الانفجار. صعوبات تواجهك، أنت كمتفرج، في التنفس والاستكانة أثناء مشاهدتك من وراء شاشة. فما بالك بالذي داخل الحدث وتنهمر عليه نيران الجَحيم دون حولٍ ولا قوة له من تحييدها؟! . تحديداً بأن الواقعة حقيقية وقرار نَقلها إلى الشاشة ضمن لحمة زَمنية واحدة تَحترم الزمن الأصلي، وتنفيذها بلقطةٍ واحدة عارية وعلى نفسٍ واحد، هو قرار فلسفي و أخلاقي في المقام الأول، يوطد من رؤية صانع العَمل في نَقل التجربة حية وصادقة إلى الشاشة، دون مبهرجات ولا توابل. دون تنميط ولا تَجميل. مجرد سيل من الذروات واللحظات الخانقة على طول خطه.

عدسة «مارتن أوتيربيك» لا تتقيّد بمقاليد التوثيق المتعارفة، بل تشمر عن يديها لتنخرط مع الركب الهارب من حتفه. دورها، ذاتي تماماً. شخصية بالكاد تفرّقها عن باقي الشَخصيات - على كَثرتهم - بشيء. نواكب نظرها الملاحق لـ«كاجا». مرة من خلفها ومرة من أسفلها . مرة من فوقها، ومرة بين كتفيها ورجليها. وفي بعض الاحيان نجدها داخل مؤخرتها - إذا لَزم الأمر - بالكاد تختبئ!!. تركض ويرتطم وَجهها على الأرض الوعرة . لتعود متشقلبة من جَديد. الكاميرا هذه المرة، ليست وسيط ينقل إليك الحدث جاهزاً، كما اعتدنا ، بل تمنحك شرف أن تكون مكانها. بعيونك، لا عيونها. بين جيئة وذهاب، بين ترنح واستكانة؛ تركلك - من رأسك حتى قفاك - إلى حافتا الذعر والتوتر.

هدوء ما قبل العاصِفة

الـ15 دقيقة الأولى من زمن الفيلم هي هدوء ما قبل العَاصِفة، لكنها عاصفة في موضوعها الذي يطرق باباً مهماً على الصعيد السياسي الراهن في عالمنا اليوم، العالق فوق بركانٍ ملتهب من الحروب والصِراعات والسياسات الإقصائية المتطرفة، بما ينضوي عليها من مُصطلحات أصبحت فضفاضة مثل «الإرهاب». هذا الأخير الذي أمسى شمّاعة يَرمي عليها المتحذلقون سخطهم تجاه من يُخالفهم. كالحَديث العابر الذي جمع «كاجا» مع أصدقاءها في الدقائق القليلة الأولى حينما وصل إليهم خبر التفجير الأول، والواقع على مسافة بعيدة منهم، مستبعدين بذلك أنهم الوجبة المقبلة في هذا البوفيه الدموي النهم. لينقسم النِقاش بين مؤيّد لنظرية أن المتسبب هم جماعة «القاعدة»، وآخر - العاقل منهم - يعتقد بأن الذي حصل، لربما، يكون نتيجة انفجار لإحدى خطوط الغاز في الحي الرئاسي.

النِقاش يستفهم ببراءة هؤلاء الشباب (مثل أيِّ منا) عن غاية الحرب وأسبابها وتبعاتها، منذ أن بدأت الدول تمارس حروبها بَعيداً عن أراضيها بحجة محاربة الأشباح النازية والفاشية والشيوعية والوهابية، وأخيراً الإرهاب الذي أضحى يحتضن، مما هب ودب، من على شاكلة تلك المصطلحات. ليرد أحدهم قائلاً بأن ما تُمارسه حكومة بِلاده في «أفغانستان» مثلاً، هو قَتل صريح ومتعمّد لا يفرق ما إذا كان القتيل مدنياً أعزلاً أم قاعدياً إرهابياً. وأن الضربات المرتدة التي تتلقاها دول الغرب بعمليات انتقامية ما هي إلا محاربة مضادة (إرهاب مقابل إرهاب) لا يذهب ضحيته سوى الأبرياء. تماماً مثلما حَصل طوال الفيلم. باستثناء أن منفّذ العملية هنا، هو مسيحي أصولي من جماعة النازيين الجدد، الذي يحملون كرهاً وغضباً تجاه الإسلام والمسلمين.

لا لشخصنة الصراع

على مستوى الفكرة، لم يُقدم الفيلم أيّ جَديد خلاف ما تم طرحه في أفلام قامت بَسرد وقائع حقيقية لنختبر خلالها الرُعب من منظور شَخصياتها، إلا أن حِنكة المُخرج ووقوفه على قراراته في مَنح الفيلم أسلوبية مُعالجة ناضجة في طريقة العرض التي لا تُشخصن الصِراع أو تشيح بنظرها عن الشخصيات في سبيل معرفة هوية المنفذ للعملية ولا من أين تأتي النيران، بل أتت لتتستعيض عن ذلك كله بالتغريب التام، بعيدا عن المعايير المبسترة مثل الأسود والأبيض والخير والشر. فالمسألة، مسألة نجاة واختبار أن تكون ضحية لأجواء لا يربطك بها أية صلة؛ لا من قريب ولا من بَعيد. تماماً مثلما يَحصل بعالمنا العربي ومايرتد به على الغربي.


الاستجداء بالأحبة... وقفة حداد

في الحديث عن الأداء الرائع من قِبل الممثلة النرويجية «آندريا بيرتزين». في أول تَجربة لها على الشاشة نَجحت في إجلاء التعابير الجسدية والنفسية لدى فتاة هلعة، قلقة على أختها الصَغيرة، خائفة ممن يترصدها في أيّ لَحظة. علاوة على ذلك، أنها أعادت لنا قيمة الاستجداء بأمهاتنا وقت الخوف، بنبرة صَوت مخنوقة وحزينة وخافتة؛ تتصل «كاجا» بأمها أسفل النيران مستنجدة بعبارة :"ماما ماما.. أنا خائفة.."!. العبارة التي لازالت عالقة برأسي وبصورة لم أختبر بمثيلها على الشاشة.

فيلم «أوتوايا: 22 يوليو» هو فيلم خانق إلى أبعد الحُدود. لا يُنسى ولا يحذف من الذاكرة. حزنه الشديد يتسرب اليك حتى مع نزول تترات النهاية التي ينتهي عندها الفيلم بشاشة سوداء جنائزية يتزامن معها صوت الخلفية عقب النِهاية المأساوية. والتي عبّر عنها صُناع هذا الفيلم فنياً في لحظة حَداد وصمت على أرواح الضحايا.

تحياتي

الأربعاء، 29 أغسطس 2018

عن عالمٍ لا نفهمه! - مراجعة فيلم Burning 2018





Burning  2018 - احتراق

•  إخراج :  لي تشانغ دونغ
•  التصنيف :  دراما - غموض
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★★ (تحفة فنية)


«كان» هذا العام، في دورته الـ71، شهد عودة مواهب سينمائية ثقيلة بتصدرها المشهد السينمائي بعد غياب دام لسنوات قضوها بعيداً عن عتباته. والتي كانت إما لأسباب فنية وتحضيرية وما يحاذيها من جدولة في الإنتاج ومسائل في التمويل. وإما لضغوطات وقرارتٍ تعسفيّة تطالهم، وأعمالهم من بَعدهم، وتُقصيهم إلى الحد الذي يَجعل من مُشاهدة أحد أفلامهم ضرباً من التمني.

 كالدنمركي «لارس فون ترير» الذي عاد مؤخراً بعد انقطاعٍ دام الـ«7 سنوات» عن أجواء المهرجان على خلفية اتهاماته بمعاداة السامية؛ نتيجة دُعابة ألقاها في أحد المؤتمرات الصَحفية ضمن فعاليات المهرجان سابقاً وبانت على أنها تعاطفاً صريحاً مع «هتلر» والنازية بشكلٍ عام. إضافة إلى الإيراني «جعفر بيناهي» الذي غاب شخصه عن حضور المهرجان نتيجة خلافاته مع حكومة بلده «إيران» التي كلّفته الأخيرة الإقامة الجبرية ومنعه من السَفر والمشاركة في أيِّ مهرجان أو محفل سينمائي دولي، بحيث باتت أعماله تُعرض وتُكرّم، دون أن يلتمس الرجل نشوة ذلك التَكريم.

لكن العودة الأجمل والتي كانت كالشمس التي سطعت وتأججت ومن ثم حرقت، هي عودة المخرج الكوري «لي تشانغ دونغ» مع فيلم «إحتراق» بعد انقطاع طويل، دام الـ «8 سنوات»، بعد أن حقق فيلمه الرائع «قصيدة»، وحَصد عنه الأخير جائزتي: السيناريو ولجنة التحكيم عقب دورته الـ63 عام 2010.

ليعود «لي تشانغ دونغ» هذا العام، مع فيلمه النابغة «احتراق» ليحرق بدوره عدّاد التقييمات عند النقاد والصحفيين. بتسجيله أرقاماً قياسياً في استطلاعات الرأي التي أثيرت حوله، ليحوز بموجبه على جائزتي: الاتحاد الدولي للنقاد و رابطة عشّاق السينما كأفضل فيلم تم عرضه، من بين 21 آخرين، خلال الدورة الـ71 من عمر المهرجان.


في تجربته السادسة مع الإخراج والثامنة مع الكِتابة، و التي سبق وأن حققها طوال مسيرته السينمائية منذ أن بدأت مطلع العقد الأخير من القَرن المُنصرّم.  يواصل «لي تشانغ دونغ» لعبه في منطقة «السايكودراما» أو «الدراما النفسية» في تتبع شَخصيات تنسحب تدريجياً خارج عالمها المادي لتعيش اغترابها على أطرافه، غارقةً في غياهب هواجسها ومكبوتاتها وأفكارها الارتيابية. عبر توليفه محددة يشتغل عليها الرجل منذ زمن، ويبرهن عليها بذوقه العالي في مقاربة الموضوعات المتقابلة والمتنافرة بتلقائية تعكس طبيعية التباين الذي يُغلّف عالمنا وما يرتد به علينا من الداخل. لنلحظ أن سرده المزدوج حاضرٌ في أفلامه: مقاربة الذاتية من الموضوعية، اختلاط الواقع بالأحلام، وتنكر الحقيقة للخيال. جميعها تيمات متداولة في سينما «لي تشانغ دونغ». تعبّر بدورها عن صورة الفنان لذاته وكيفما يرى العالم من خلالها، بشكلٍ يَعسُر على المرء، أحياناً، فهمها أو تحليلها كلّية، أو بصورة قائمة لا تحتمل الاعوجاج أو الزيغ.


نص «لي تشانغ دونغ» يستند إلى مرجع روائي خطّه الكاتب الياباني «هاروكي موراكامي» بعنوان «حرق حظيرة». وهي قصة قصيرة تتناول مرحلة من حياة شاب عشريني يُدعى «لي جونغ سو»(آن يو)، يعمل في وظائف صغيرة، غير مستقرة، ويطمح لأن يُصبح كاتباً روائياً. وفي أحد الأيام وهو مزاولٌ لعمله كعامل توصيل يلتقي صُدفةً بصديقته القديمة «هي مي»(جون سيو جون)، وهي الأخرى فَتاة بسيطة تَعمل بأعمالٍ متواضعة لتلبي احتياجاتها الأساسية من الأموال التي تُعيلها على شراء الملابس والإكسسوارات وتمنحها الفرص للسفر إلى مناطق جديدة في العالم. يُعاد شمل الصديقين من جديد، إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تُقرر فيه السفر إلى «أفريقيا» وتطلب مساعدة «لي جونغ سو» في الاعتناء بقطتها الصغيرة أثناء غيابها. لتغيب عدة أسابيع وتعود وبرفقتها شابٌ وسيم، ينتمي إلى الطبقة الثرية لكنه غامض، يُدعى «بين»(ستيفن ين). ليتعارف الإثنان، ومن بعدها تبدأ نيران التوتر بالاندلاع في الأجواء.

في هذه المرحلة، يُشعل «لي تشونغ دونغ» النارد أسفل الأحداث ويبدأ بطهيها على درجةٍ هادئة، مع دخول «بين» إلى حَياة «جونغ سو» التي تنقلب رأساً على عقب وتتغير ملامحها إثر انشغاله الدائم في البحث عن عملٍ مستقر، وقيامه بمتابعة قضية والده المحكوم عليه بالسجن، إلى تصاعد القلق والتفكير في الكيفية التي سوف يعبر من خلالها عن حُبه المتواري لـ«هي مي» مع ازدراءه المستمر لـ«بين» إثر اقتحامه تلك العلاقة فجاءة. والذي يتنامى تدريجياً مع شعور «جونغ سو» بالارتياب تجاه الغموض الذي يلف حياة «بين» وسلوكه العجيب بالنسبة إليه؛ كشاب ثري، يعيش وحيداً، وليس له عمل محدد؛ وإذا ما سُئل عنه يميّع الإجابة ويصف بأنه يشبه «اللعب»!، فضلاً عن الهواية الغريبة التي يُمارسها بقيامه بحرق «الدفيئات» أو «البيوت البلاستيكية» تبعاً لفلسفة غامضة يتبناها على أن هذه «الدفيئات» تنتظره لكي بحرقها!، ظاناً أنه يقدم لها معروفا بذلك.

يَتصاعد التوتر مع تقدم الأحداث وتشابك العلاقة فيما بينهما واكتشاف كلّ منهما الآخر، بحيث كلّما عَرف «جونغ سو» أكثر عن «بين» كلما ازداد قلقاً وحيرة في المقابل. ليصلَ إلى مَرحلة لا يَعود يفهم ما يَجري حوله، بعد أن سيطر «بين» على تَفكيره وتفكير صديقته «هي مي» ، وكأنهما مسحوران؛ بأسلوبه المتأنق في الحديث ونبرته الهادئة وتعامله الراقي. إضافة إلى ذلك نظراته التي يتبادلها معهما فيمنحهما شعوراً بالقلق الذي لا يقل عن شعورهما في الانجذاب نحوه. إنه أشبه بـ«مصاص الدماء» القادم من الحكايات الخيالية الذي يغوي الجميع من حوله. وبالنسبة إلى «جونغ سو»، بخيال الكاتب (الخَصب) الذي يَحمله؛ ليس بالبعيد أنه يراه هكذا بالفعل.


قراءة الرواية ومشاهدة الفيلم أشبه بالإبحار نحو المجهول واللامعقول في ذهنية الكاتب « هاروكي موراكامي ». ولو أن الرِواية، بمجملها، عبارة عن 3 أو 4 مشاهد مُهمّة في الفيلم، وأن الأخير قام بتغيير طفيف في الأحداث والأسماء والأماكن تِبعاً للضرورة الدرامية التي حوّلت شَكل المعالجة من سرد ينشد الذاتية لشاب ياباني يقع في شِرك أفكاره إلى آخر «هجين»( يجمع الذاتية مع الموضوعية) في تناوله الصِراعات العاطفية والمادية والأخلاقية التي تواجه الشباب المعاصر في العالم و«كوريا الجنوبية» على وجه الخصوص.

إلا أن «لي تشانغ دونغ» يستكمل ما توقف عنده «هاروكي موراكامي» في بناء سردٍ متلاعب، يلتمس الشعرية في الجوهر من خلال رمزياته وقراءاته التحتية التي توسّع من مساحة التأويل في البحث عن المعنى. وهي ميّزة يُثنى عليها المؤلف الأصلي للرواية ومن بعده كاتب النص للفيلم، بحيث كلّما لجأنا إلى التفكيك بغرض التَحليل كلّما كان التركيب من بَعدها أكثر صُعوبة، وتحديداً بأن ما يطرقه من مواضيع وما يمنحها من طَبقات متغولة؛ يُمكن لأيِّ منها ضحد الأخرى دون اعتماد واحدة على حِساب الثانية. كذلك الفيلم يشهد في طياته انقسامات واضحة في الثنائيات المتقابلة: فقير- غني، ريف - مدينة، عمل- لعب، بناء(مزارع) - دمار(حارق للبيوت البلاستيكية)، حب - استحواذ، سلام - حرب، جوع أصغر( الحاجات الأولية للجسد) - جوع أكبر(الحاجات العليا والبحث عن الذات)، حتى المكان الذي يسكنه «جونغ سو» والواقع على المنطقة الحدودية التي تفصل الكوريتين :«الشمالية» و « الجنوبية» لا يُمكن إسقاطه من المعادلة؛ لما يشهده من انقسام غريب يعزز من رؤية «لي تشانغ دونغ» لعالمٍ لا نفهمه ولا هو يَفهمنا؛ حدود، تَقسيمات، حروب، عنصرية، جميعها تتصل في شبكة أسمها «المصير»، كاللقاء الذي جَمع «بين» و«هي مي» في مطار «كينيا» (شرق أفريقيا) وكان بسبب تفجير إرهابي قام بتأخير رحلاتهم ومكوثهم (فترة اللقاء والتعارف) في المطار!!.

تماماً مثل الأحجية التي تحدث عنها «جونغ سو» لـ«بين» أثناء حوارهما الذي استحضر رمزية الصِراع الأزلي بين الحقيقة والنسبية، وبين الأخلاق والمبادئ المجرّدة من أي اعتبارات أو عواطف، لما يوفره من أرضية خصبة تغذي الصِدامات النوعية بين الدول والطبقات والأجيال والأيديولوجيات على تعاقب الأزمان. كذلك، وجود «هي مي» الذي أتى تعبيراً عن الطبقة الوسطى للمجتمع الجزء ريفي - الجزء مدني، وما ينطوي عليه من ضغوطات تَفرض عليه العيش الغير المستقر والمحكوم بمغريات المادة والتوق إلى البحث عن الذات - أو ما بقي مِنها! - هو تبيان لحجم الهوة التي نَعيشها بين الشيء وضده، الذي عززته «هي مي» في رقصتها البريئة «من الجوع الأصغر إلى الجوع الأكبر».


إخراج «لي تشانغ دونغ» فيه شيء من الوقار والحكمة. لا يَلجأ إلى الإفراط في تَكوين لَقطاته من حَيث القُرب المبالغ في لحظات التكثيف السيكولوجي ولا البَعيد الساحق طلباً للتأمل المستطرد، بل يتوسط ذلك كلّه ويُمارس دور المُراقب والموثّق لتلك اللحظات التي تَجمعه مع أبطاله. وعلى الرغم من أن الفيلم يحمل عُنواناً ملتهبا يشعرك بالحرارة والتوجس لحدوث أمرٍ ما في أيّ لحظة، إلا أن أجواءه تكسوها برودة الشتاء؛ بهدوءها وظِلالها الكاتمة. والتوهج الحاصل في الفيلم ما هو إلا توهج مواضيع وأفكار وشخوص. كذلك التدرّج اللوني الذي حملته عدسة المصوّر «هونغ كونغ بو» هي في الحقيقة «تيمة بصرية» تعبر عن مراحل الاحتراق بتدريجاته اللونية في مشاهد يطغو عليها اللونان الأصفر والأحمر، إلى تلك التي ينتهي عندها بالأزرق والأسود، الذي يُشير فيه الأخير إلى مرحلة التبخر واكتمال الاحتراق والصدمة واشتداد القَتامة والحزن. وفي هذا الفيلم، يحدث اختفاء وتبخر للأشياء؛ سواء كانت مادية (فيزيائية) أم معنوية (روحية).

وفي الحديث عن دور الممثلين، فلدينا هنا ثلاثة أسماء، قدموا أداءاتهم بأسلوب لا يتّصف إلا بالروعة، على الرغم من أنها التجربة الأولى بالنسبة إلى الممثلة الصغيرة «جون سيو جون» إلا أنها فرضت جاذبيتها بالنسبة إلى ما تحتاجه الشخصية: بريئة، لطيفة، مسكينة، وحيدة، طموحة، لكنها  تحيد إلى الضياع أحياناً، الحاصل من َبحثها عن الحُب والحميمة بالقدر الذي تُجبر عليه لتنسحب إلى عالم المادية وإغراءات المال. أو كما ذكرنا سابقاً، إنها فتاة (نِصف ريفية - نِصف مدنية!) . أما الوجبة الأدسم، فقد قدمها الممثلان: «آن يو» بدور «جونغ سو» و«ستيفن ين» بدور «بين»، اللذان جسّدا بيئة الصِراع والتضارب والتضاد والاختلاف في كلّ شيء، وتحديداً الأخير الذي لم يُمارس جاذبيته بالنسبة إلى «جونغ سو» وحده، بل سيطر على المتفرجين من بعده؛ بهذا الأداء الساحر الذي يلفه الغموض والتوق الشديد إلى معرفة المزيد عن ما ينطوي أسفل تلك القِشرة الساكنة التي يعتريها البرود والتأنق في الحركة والنبرة والنظرة.


«لي تشانغ دونغ» في فيلمه السابق «قصيدة»، كانت البطلة عجوز ستينية تنتمي إلى الطبقة العاملة وهي وحيدة مع حفيدها الوحيد الذي تركته أمه صغيراً معها، لتعيل نفسها وإياه من المعونةِ المالية التي تمنحها الحكومة ومن عملها الجزئي كخادمة في البيوت، بالإضافة إلى أنها تُعاني من مرض «الزهايمر» وتسعى في أوقات فَراغها لتعلم كِتابة قَصيدة شعرية.

في فيلمه هنا «إحتراق»، المسألة لا تختلف كثيراً بالنسبة إلى بيئة الطرح، والذي يتناول حياة شاب عشريني وحيد، تركته أمه منذ أن كان صغيراً مع أبيه المضطرب نفسياً الذي يقضي معظم أوقاته في المحاكم بسبب مشاجراته المستمرة مع الناس نتيجة فقدانه السيطرة على أعصابه. والآن، بات الشاب يعمل في وظائف متفرقة وغير مستقرة ويُعاني من وحدة وغربة تلجئه بشكلٍ مستمر نحو المضي في كِتابة رواية.


في كلا الفيلمين هنالك عمل فني لم يُنجز بعد لفنان يشغله البحث عن المعنى والجمال الذي من أجله يَكتب. ولأن الكِتابة سواء كانت شِعراً أم نثراً هي وسيلة لاكتشاف الذات عند الإنسان، ومن أراد أن يبحث عُمقاً في حياته فما عليه سوى اللجوء إلى الكِتابة، نلحظ بأن الفيلمين عبارة عن رحلة اكتشاف للذات ووصول إلى الثبوتية لدى كلِّ من العجوز والشاب، اللذان يفرغانها في أعمالهم الفَنية التي تأتي نتيجة الكشف عن جوانب منسدلة من حياتهم وساقطة من اعتباراتهم، لدرجة أنهم لا يعون ماهيتها مع أنها أمور حياتية بسيطة. مثل «التفاحة» التي تحدث عَنها أستاذ الشعر في فيلم «قصيدة» ووصف رؤيتنا لها مئات المرات بأننا - فعلياً - لم نراها على الإطلاق. هنا الرؤية، ليس المقصودٌ بها البَصر؛ وإنما البَصيرة في فهم واستيعاب الأشياء ومنحها اهتمامنا بأدق التَفاصيل التي تغيب عنا على الدوام ولا ندري أنها ذات أهمية في اكتشافنا لذاتنا والبيئة من حولنا. تماماً مثلما حدث مع «جونغ سو» الذي تلاعب به «بين»  حينما أخبره أن «الدفيئة البلاستيكية» التي حَرقها كانت قريبة جِدا من منزله، لدرجة أن «جونغ سو» مع مراقبته للحي الذي يَسكنه منذ أن فضح الآخر نواياه، لم يَشعر بأن شيئاً إحترق. ولو تم حرق تلك الدفيئة فِعلاً؛ لكان حريقها يُثير الانتباه في الأرجاء وليس هو وحده.


«إحتراق» هو فيلم شعريّ الجوهر. يطرح أسئلةً وجودية حول الإنسان وموقعه أمام حواجز وفروقات هذا الكون، حول الخير والشر لكن من وجهة نظر مجرّدة بعيدة عن الأحكام والأعراف المسبقة. يضعها جميعاً في قالب رمزي يُشبه إلى حد كبير الأحجية التي يتناولها بين طياته، ويحافظ على خصوصيتها في سبيل أن يفتح مجالا للتفكير والتأويل في احتمالات حلها وإعادة ترتيبها بالكيفية التي تخلق الأشياء في أذهاننا وتكشف الجوانب المتوارية داخل ذواتنا. فلا يحتاج إلى أن تتوافق سرديته فيما بينها أو تنسجم بفعل إيقاع بنيوي منتظم، لأن النِصف الثاني منه يمحي تماماً نِصفه الأول بصورة قاطعة، وتُشبه إلى حدٍ كبير، نزع شريط الذاكرة من المتفرج. ليؤكد بذلك، على أنه لا يهتم بمنح النتيجة المُرضية بقدر ما يهتم بزعزعة الأفكار لاكتشافها. ولا يهتم بتقديم النصيحة بقدر ما يهتم بعدم إظهارها.

 تحياتي

الخميس، 23 أغسطس 2018

أكشن لا يتوقف في فيلم لا يلتقط أنفاسه - مراجعة فيلم Mile 22 2018




Mile 22 2018

•  إخراج :  بيتر بيرغ
•  التصنيف :  أكشن - جريمة - مغامرة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ½★★ (متوسط)


ينتمي فيلم «22 ميلاً» إلى أفلام التوتر والوتيرة السريعة، التي تبدأ من حدث بسيط ومباشر، ومن ثم تتصاعد بفعل إيقاع منتظم حتى وصولها الذروة التي ينتهي عندها الفيلم زمن عرضه. بمعنى، أنها لا تحتوي على دراما مركبة ذات إيقاع متنوع في السرعةِ والتباطؤ الناتجان عن فصول متعددة في الأحداث والحبكات الفرعية. وإنما من خلال استغلالها لحبكة رئيسية تتصف بالبساطة الشديدة وتلعب على خيط رفيع منها. يشحن من خلالها الفيلم مواقفه، ويمنح سياقها بضعاً من الالتواءات والتحولات في المشاهد الصاخبة والحامية في الوطيس؛ فيحافظ على سيرورة الحدث وتدفقه إلى مدة فيلمية معقولة تعمل على استمرارية ضخ «الأدرينالين» بمعدلاته المرتفعة عند المتفرجين. وفي المقابل، يتفادى التعامل مع عناصره الحركية وكأنها مجرد إسقاطات وهمية - كحال اللاعبين في ألعاب الفيديو - تبعاً إلى التهميش النازل بشخصياته والتسطيح الغامر لأحداثه.

وهذا ليس بالأمر السيئ، إذا ما كان فيلماً ينشد الذروة في الأكشن والحركة ومدته الزمنية قصيرة جداً وإيقاعه سريع كذلك. والناظر إلى عنوان الفيلم، يمكنه استنتاج أنه ينتمي إلى أفلام الطريق ذات الوجهة الواحدة، والتي تشاء لها الأقدار، في العادة، أن تعلق بزحمة المطاردات واشتباكاتها العنيفة.


يتناول فيلم «22 ميلاً» عملية النقل التكتيكية التي يقوم بها فريق الاستخبارات الأمريكية بقيادة الضابط المحنّك «جيمس سيلفيا» (مارك ويلبيرغ) بنقل عميل مزدوج عابر للحكومات يُدعى «لي نور» ( آيكو عويس) الذي يلجأ إلى السفارة الأمريكية في إحدى دول شرق آسياً( ربما أندونيسيا/ البلد الأم للبطل)، داعياً بأنه يحمل معلومات سرية عن موقع لقنبلة نووية تهدد أمن الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المقابل، يمنحوه لجوءاً سياسياً هناك. فيذهب الفريق برفقة العميل من السفارة إلى المطار، وفي طريقهم إلى هناك، تنفتح عليهم نيران جهنم من قبل الحكومات المحلية في سبيل استعادة ذلك العميل الخائن.

في هذه الأثناء نُطل بنظرةٍ فاحصة على طبيعة تِلك العمليات التي يتم تنفيذها على الأراضي الأجنبية – خارج الأراضي الأمريكية - والتي يتم متابعتها بجهود حثيثة من قبل وحدة عمليات وتخطيط عسكرية تُدعى «الأم» التي يترأسها العميل «بيشوب» (جون مالكوفيتش) وترتبط هذه المنشئة مع أقمار صِناعية وأجهزة مراقبة عالية المستوى والكفاءة. شبيهة بتكنولوجيا «عين الإله» التي ظهرت في أفلام سابقة، وتُعنى بمتابعة العمليات العسكرية على أرض الميدان بتفوق على المستوى البصري؛ من خلال تعرّفها على الوجوه ومراقبتها خطوط سير السيارات، بالإضافة إلى اخترقها الجدران ولوحات التحكم في السيارات والأبنية السكنية، ناهيك عن التكنولوجيا الحديثة التي تستخدمها الوحدة؛ من شرائح رقمية تُزرع داخل أجساد جنودها لمتابعة مستوى الإجهاد ومعدل خفقان القلب لديهم، بحيث تظهر على الشاشة بأرقام مئوية - كألعاب الفيديو التي تترجم مستوى الطاقة عند اللاعب إلى عدد صحيح في المئة - ومنها أيضاً ميكروفوناً داخلياً يربط صوت الجندي مع المسئول عن العملية في إعطاءه قرار التنفيذ من عدمه.


قليلة هي الأفلام التي تلتزم بالوحدة الزمنية التي يتطابق زمن عرضها مع زمن الحكاية. وهذا الفيلم، واحدٌ من القلة التي استثمرت خطوط سَردها من أجل الحفاظ على لُحمة زمنية واحدة؛ أي الفترة الفاصلة بين بداية الرحلة وانتهائها - إذا ما استثنينا المشهد التأسيسي الذي يبدأ في «أمريكا» على خلفية مداهمة لخلية إرهابية تقودها منظمة روسية. والذي سيرتبط خيطه - بعد 16 شهر - مع خيوط الحدث الرئيسي الذي يتبعه في الدولة الأخرى.

لكن في المقابل، يترهل النص من حيث عجزه على ربط المسبب مع النتيجة بصورة مقنعة وتنساب بسهولة قياساً لأحداثه، بحيث يقوم بتمييعها إزاء انشغاله بلقطات مبهمة ومنزوعة السياق تحدث في غمار الحدث الرئيسي؛ منها - لكي لا نحرق أيّة أحداث - العملية الروسية التي يقومون بها «جنرالات» من داخل طيارة نقل عسكرية لا نعلم ما إذا كانت تمتّ إلى أرض المطاردات في الدولة الآسيوية بصلة، سوى أن تفسيرها يؤجل إلى نهاية الفيلم، التي جاءت باقتضاب شديد، ومبهمة كذلك، نتيجة التواء رخيص يحدث آخر العملية بصورة مشوهة وغير متماسكة الأساس الكافي ليحملها، سوى إقحامها لرسم الصدمة على وجوه المتفرجين دون أن يلتقط الفيلم أنفاسه للبحث الحقيقي في الأسباب والدوافع.

فينتهي  الفيلم ضائعاً، دون أن يُغلق جميع مخارجه داعياً لاستكمال أحداثه في جزءٍ لاحق. وبهذا يفقد الكثير من أساسيات التجربة المتوازنة الأركان؛ من حيث القص الجيد للأحداث واعتلاء المنطق سدنة المواقف.


لكن على مستوى الترفيه، فإن التجربة في حد ذاتها رائعة، لأنها مليئة بالحركة والانتعاش، ومفعمة بالليونة والسُرعة المقترنة بليونة وسرعة الحوارات التي يُلقيها «مارك ويلبيرغ» كعادته في الوجه مباشرة، والتي اعتادها منذ دوره في فيلم «مارتن سكورسيزي» : «المغادرون» الذي رُشّح عنه لجائزة الأوسكار كأفضل ممثل مساعد، ولازمه في أفلامٍ لاحقة بدرجات متفاوتة مابين القوةِ والضعف. إلا أن طبيعة تلك الشخصية قد آتت أكلها هنا بشكل أفضل، من حيث أنها تنصهر مع شَخصية «جيمس سيلفيا» المبنية على خلل نفسي تعاني منه ويُدعى «الاضطراب ثنائي القطب». أي أنه: متقلّب المزاج، مختلط المشاعر، قذر في التصرف، سليط اللسان، حادة المراس، ويحمل كمية غَضب كبيرة تجاه الجميع إزاء ماضيه القاسي الذي نتج عنه فقدان والديه في سن مبكرة ودخوله معترك الحياة العسكرية. والذي يبدو واضحاً من خلال وضعه لربطة يد مطاطية يلفّها حول معصمه، لينتشها باستمرار من أجل امتصاص غضبه.

الفيلم من إخراج «بيتر بيرغ» الذي سبق وأن حقق أعمالاً تتدرج مابين الجيد والمتوسط («المملكة» و«هانكوك»). ومشتركة مع النجم «مارك ويلبيرغ» في تعاونهم الرابع بعد ثلاثة أفلام جيدة المستوى(«سفينة حربية»، «المياه العميقة»، و«يوم الوطنيون»). جميعها تتحدث عن الكوارث بشقيها: الإنساني والطبيعي. ويتّصف غالبها بالبُعد السياسي - العسكري الذي يستند إلى وقائع حقيقية تتبلور فيما بعد إلى احتفاء وانتصار للرجل الأمريكي الشجاع في وجه البيروقراطية في شتى أشكالها. على عكس فيلمه هنا، الذي يستند إلى خَيال الكاتب باستثناء أن مسامعه تسترق الواقع بصورةٍ أو بأخرى، وينتهي بصورة مخزية تنتقص من فرص احتفاءه بتلك الصورة. وإذا ما استخلصنا الرسالة التي حاول المخرج إرساءها بين السطور خلال ومابعد أحداثه، فإن فيلمه ينضم إلى فيلم «سيكاريو: يوم الجندي» من حيث طرحه شرعية اللعب بقَذارة في مناخ ملتهب تعيشه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم في عهد «دونالد ترامب» الذي يتّصف بالهياج السياسي وتفضيله عمل «الجنرالات» على عمل الساسة. وفتحه النيران على الجميع؛ في استهداف الحلفاء قبل الأعداء. إلا أن الفيلم لا يبرز ذلك على حساب الحدث الرئيسي هنا؛ تبعاً للذائقة الدرامية. وإنما كرسالة مبطنة تتخلله في لحظاتِ خاطفة، وتؤكده بعد انتهاءه.


لدينا هنا، أسماء كثيرة لممثلين، وجميعهم يسقطون من حيث الكتابةً السيئة لشخصياتهم و ابتذال حواراتهم. منهم «جون مالكوفيتش» الذي سبق وأن عمل مع «بيتر بيرغ» ولا زال مُحافظاً على وتيرة أداء فاترة منذ أن بدأ مشواره في دور اللامبالي، ولازمه في أعمال كثيرة دون المستوى. ولدينا «لورين كوهان» القادمة من عالم التلفزيون والقليل من السينما وتمتلك لحظاتها الناصعة بين تلوث الباقين بالنسبة إلى إمرأة تَفرض أنوثتها، لا جسدها، من خلال تجسيدها للأم والعاملة التي تتعرض للإرهاصات الجاثمة من قبل طليقها وبُعدها المستمر عن ابنتها، إلى أجواء عملها المحفوف دائماً بالمخاطر. بالإضافة إلى «إيكو عويس» الذي قوّضته عدسة «بيتر بيرغ» الخاطفة للحظات النشوة إزاء مشاهدته وهو يمارس مواهبه القِتالية بعد أن َشهدناها مع ثنائية «غاريث إيفانز» المشهورة : «الغارة 1» و «الغارة 2»، التي أضحت مؤخراً كلاسيكيات سينمائية ومثال يُحتذى في صناعة الأكشن والحركة اليوم.


يوظّف «بيتر بيرغ» أسلوب التكثيف جراء استخدامه كاميرا كتف يحملها المصوّر «جاكواس جوفريت» طوال الوقت، بحيث تهتز باستمرار، لإدخال التوتر إلى صلب الأحداث وعند الشَخصيات؛ أثناء احتدامهم مع المواقف الحرجة بلقطات قريبة وضحلة في الرؤية، فضلاً عن استخدامه القطع الحاد في التنقل بين اللقطات السريعة أثناء التشابك والشجارات العنيفة، وفي غرفة العمليات مع أجهزة الحواسيب والتنقلات العضوية من كاميرا تصوّر الحدث إلى كاميرا المراقبة داخل الفيلم في سبيل خلق روح التشويق والإثارة - كما هي أعمال «بول غرين غراس» في سلسلة الجاسوسية «جيسون بورن».

إلا أن ما نتج عنه من إسراف في استخدام تلك الوسائل هي فوضى ترهق النظر في تتبع حركة الشاشة لتكشف ما يحدث داخلها، وتبتر من رؤية صاحب العمل في خلق تجربة متماسكة من حيث الشكل؛ الذي يُعدّ ركيزة أساسية في هذا النوع من الأفلام. مما أدى إلى ضياع فُرصٍ ثمينة كانت أمامه ليصنع فيلماً متميّزاً؛ يَنضم إلى مجموعة أفلام من جنس: «سيكاريو: يوم الجندي» و«المهمة المستحيلة - السقوط» اللذان يَشتركان مع «22 ميلاً» في القالب العام من حيث الجِدية عند الأول والمغامرة عند الآخر.

تحياتي

السبت، 18 أغسطس 2018

رؤية المخرج وموهبة الممثل تنجحان في ما أخفق فيه النص - مراجعة فيلم The Equalizer 2 2018




The Equalizer 2 2018 - المعادل

•  إخراج :  أنطوان فوكوا
•  التصنيف :  أكشن - جريمة- إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★ (جيد)



عندما تحول المسلسل التفلزيوني «المعادل» - عُرض في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، وكان من بطولة الممثل البريطاني «مارك وودوورد» صاحب الـ 55 عام في الوقت آن ذاك - إلى عمل سينمائي من بطولة «دينزل واشنطون»؛ لم يكن ذلك التحول قائماً على استغلال تاريخ العمل الأصلي بمظلته الشعبية فحسب، بل كان تحولاً يستهدف الأساس ليعيد تقديم الشخصية بما يتناسب مع فكرة الانتقال بين الوسيطين: التلفزيوني والسينمائي، وما يُمكن أن يضفيه الوسيط الجديد، بعد أربعة عقود، من أساليب تعبيرية قادرة على أن تنعش شخصية «المعادل» بتفاصيل مشهدية ناضجة، وتحميه من فخي النسخ واللصق.

لكن ما يجدر ذكره هنا هو أن عملية التحول والانتقال تلك؛ لم تستبعد الخطوط الدرامية العريضة بالنسبة إلى ماضي الشخصية الرئيسية «روبيرت ماكال»: كرجل استخبارات متقاعد، يمتلك مهارات، ذهنية وجسدية، مرتفعة المستوى، ويناضل من أجل مساعدة المستضعفين من الناس وتحقيق العدالة فيما بينهم. لعله، بكل ذلك، يُكفّر عن ماضيه الوحشي الذي يحمل ذكريات أليمة إزاء الفاجعة الحاصلة من موت زوجته وما يتبعها من عَمله كجاسوس لصالح بلاده. بل أتت في سياق الضرورة الجمالية لاستنشاق بعض الألفة والحميمية للعمل التلفزيوني.


أما في الإختلاف الذي رسم ملامح العملين: هو أن المسلسل كان يُظهر «روبيرت ماكال» على أنه الثري الذي ينتمي إلى الطبقة البرجوازية؛ بملابسه الفاخرة ذات الماركات العالمية، وسيارته الباهظة في الثمن ذات المواصفات العالية، والأهم من ذلك كله؛ أنه كان يعرض خدماته الخيرية عن طريق وضع إعلان في الصَحيفة.

على عكس الفيلم؛ الذي نَقل الشخصية إلى مستويات أنضج على مستوى الكِتابة، بحيث أظهرته بمظهر الإنسان البسيط والمثقف، صاحب الموعظة الذي ينتمي إلى الطَبقة العاملة ويسعى لتقديمه يد العون إلى من هم حوله من البسطاء الذين على شاكلته.

والكِتابة في الأساس كانت تنشد الاستقلالية عن الأصل من حيث أنها كانت مبنية لتناول شخصية رجل يعيش في هذا العصر لكن بمواصفات عصرٍ آخر؛ عَصر لم يَفهم معنى التكنولوجيا ولا الموضة ولا التَرفيه الفوضوي ولا أغاني «الراب» السوقية. إنه بالفعل إنسانٌ زاهد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عطوف على الآخرين، غارق بين كُتبه وأفكار مؤلفيها. نواياه نبيلة، ولا يحمل ضغائن. ولا يمنعه التقائه بأعدائه من أن يعظهم ويمنحهم دروساً في الأخلاق والشرف والمروءة.


فـ«المعادل»، كشخصية سينمائية، تختلف أسباب ولادتها عن باقي الشخصيات البطولية التي عرفناها؛ التي تدور حول رهاناتها الشخصية ومصالحها المشتركة مع الغير، بحيث أنها «تناهض» تلك المفاهيم وتقدّم البطولة على طراز الحكايات الخيالية للأبطال الخارقين؛ من حيث سعيهم المستمر نحو تحقيق العَدالة بين الناس، وباعتبار أن القدرات التي وهبوا بها كانت لزاماً عليهم في أن يوظفوها في النصاب الصَحيح وأن تكون غايتها سامية ونبيلة وذات رِسالة أخلاقية.

باستثناء حقيقة أن العُمر بالنسبة إليها مجرد رقم، لا قيمة مادية له، والجسد ليس إلا هامش بالنسبة إلى حجم الدوافع التي تحملها وما يتخللها من نظرة إيجابية وشمولية في إصلاح هذا العالم. واختيارها موضوعاً للتناول والحديث، على مدار أربعة مواسم متتالية، ومن بعدها سلسلة أفلام سينمائية؛ كان جديراً بالمُتابعة والاهتمام، ولم ينعكس سلباً على تقبلها من قبل جمهورها إزاء ما تفتقره لأيٍّ صِفات «شكلانية» اعتادوا على رؤيتها عند باقي الأبطال؛ سواء في المظهر أو السلوك أو أسلوب الحَياة.

وبالأخذ بعين الاعتبار أن «روبيرت ماكال»، كرجل، بعدما وصل إلى مرحلة الكهولة من عمره، وقطع أشواطاً متقدمة في تكوين فلسفته الوجودية عن الحياة وما تبعها من سيل من المبادئ والأخلاق والصِفات الإنسانية التي انقرض وجودها منذ زمنٍ سحيق: كالحكمة والرحمة والنوايا الطيّبة. أضحى الآن يستثمرها لخِدمة الناس ونصرة المظلومين مِنهم، وينهض لحمايتهم وكأنهم رعيته وتحت حراسته. حتى وإن كان ما يفعله لا يعود عليه بالمردود المادي. فبالنسبة إليه، كلّما كان المردود معنوياً وروحانياً كان الأمر أسمى وأرقى، ويشبع حاجة ملحة في داخله ويحقق سكينته التي لطالما بحث، ولازال، يبحث عنها.


والحديث عن اختيار ممثل أسود بحجم ومكانة «دينزل واشنطون»  كان إستثناءً بالفعل، وفرصة ثمينة إزاء إستغلال جاذبية لون البشرة الذي تغير في العقد الأخير في السينما تبعاً لثقافة شعبية ومتغيرات مناخية وسياسية دفعت بالتحكم في لغة الصورة السينمائية وأساليب عرضها. والتي رسّخها الفيلم، بشكلٍ أو بآخر، عِندما تعامل «روبيرت ماكال» مع ثلاثة شخصيات من مختلف الأجناس والثقافات باعتبارهم أقلّيات، أو لنقل: أقل حظاً في المجتمع الأمريكي، فدافع عنهم باستبسال تحت وطئة الرحمة ونصرة المظلوم: كالجارة المسلمة التي تُعاني الأذية ممن هم حولها، والشاب الأسود الذي تسحبه نشاطات العصابات المنحرفة إلى أعمال القتل وتجارة المخدرات، ناهيك عن صديقه العجوز اليهودي الذي هرب من مذبحة «الهولوكوست» وابتعد عن أخته الكبرى التي لا يعلم عنها أية معلومات ويأمل بأن يراها قبل أن يفنى عمره .

يحكي الفيلم قصة «روبيرت ماكال» (دينزل واشنطون)، الملقب بالـ«المعادل»، بعد أن خرج من عباءة عزلته في الجزء السابق وقرر العودة إلى ميدان الإصلاح وتقويم الأوضاع ورعاية شؤون ذويه ومن هم حوله. ليعود مجدداً، وها هو الآن قد أمسى يقتسم يومه ما بين تقديمه يد العون إلى الناس والقصاص من المجرمين الذين يداومون على أذيتهم، وبين عمله كسائق خاص بالأجرة. فيحدث ما لم يكن في الحسبان؛ وقوع جريمة قتل لأحد الأصدقاء القدامى. فيذهب بعزمٍ وإصرار على تنفيذ انتقامه من المسؤولين عنها.


عندما باشر «واشنطون» بتأدية الدور قبل نحو 4 أعوام، بعد أن تحوّل المسلسل إلى مادة سينمائية على يد المُخرج «أنطوان فوكوا»، كان قد بلغ من العمر الـ60 عام!، أي أكبر من البطل السابق بخمسة. والآن، يعود مجدداً ليؤكد أنه لازال يتمتع بنضارة الموهبة التي تأبى أن تذبل أو تشيخ. لينضم بموجبه إلي فئة نخبوية من أبطال الأكشن اليوم، الذين باتوا في زمن «الأبطال الخارقين» عُملة نادرة، أمثال: «كيانو ريفز» ( جون ويك)، «توم كروز»(إيثان هانت)، «ليام نيسسون»(براين ميلز)..وغيرهم، ممن لازالاوا يحافظون على وتيرة أداء تصاعدية لا تأبه لمعايير الجَسد وتقاسيمه، فأعمالهم خير مثال على أنها مبنية على موهبة الممثل وجدّيته، وما بقي لها من متطلبات «شكلانية» هي نتيجة ثبات في الركائز السابقة، وتؤكد بدورها على استمرارية احتضانهم لرغبات الجمهور واكتساب احترامه، حتى وإن لم يعودوا كما السابق أبطالاً مغاوير، بأجسادهم المنحوتة، عندما كانوا عليها في بواكير أعمارهم.


الفيلم من إخراج «أنطوان فوكوا» الذي لمع نجمه مع فيلم «يوم التدريب 2001» الذي شاركه «دينزل واشنطون» العمل أيضاً وحصد عنه الأخير جائزة أفضل ممثل رئيسي في أوسكار 2001. ليعيد هذه المرة جمع أوصال الشراكة بينهما، بعد ثلاثة أعمال ناجحة، جماهيرياً ونقدياً، كان من بينها؛ «يوم التدريب 2001»، و«المعادل 2014» و«السبعة العظماء 2016»، لتتجدد دماء العلاقة بينهما ويحققان نجاحاً على مستوى الإدارة؛ من تناغم في الرؤية لدى المخرج مع الموهبة لدى الممثل. ويقدمان فيلماً حركياً، بمشاهد أكشن محبوكة ودموية وعنيفة، ذات إيقاع متين، وقدرً وافي من التشويق والاثارة. وكل ذلك، تبعاً لقدرة «أنتوني» على تقديم أفضل ما بالإمكان من خلال تحريره المعتاد للقطاته في مجال حدود وما بداخل الصورة التي يأسرك بها من خلالها لحظات حضور«دينزل واشنطون» الفارضة مدتها، والخاطفة منها. وفي المقابل، لا يتغاضى عن ركيزة أساسية تتعامل مع الفيلم كدراما إنسانية ورسالة نبيلة عن رجل يعيش ليسعد نفسه من خلال إسعاد الآخرين من حوله.

المأخذ الوحيد على فيلم «المعادل 2 » هو أنه يعاني من اضمحلال لرؤية النص في بناء دراما متينة وتوليف مشاهد مهمة وذات عِناية بردم الفجوات الزمنية في تركيب أحداثه، والتي كانت نتيجة استسهال وتسرّع في تقديمها على حساب التأسيس لحبكة ذات شأن أو شخصيات ذات معنى، بحيث ينشغل في ثلثه الأول مع عِدة متتاليات من المشاهد داخل حَبكات فِرعية غير واضحة في المعالم، تستدعي «روبيرت ماكال » لتحقيقه القصاص من الأشرار من جغرافيات مختلفة في العالم. إلى أن يقودنا، بعد فترة من الزمن ، إلى حبكته الرئيسية التي لا تختلف عن ما سبقها كثيراً؛ باستثناء أنها وُضعت هذه المرّة أسفل مجهر «الإطالة» في الزمن دون النَظر إلى ضرورتها من عدمه. وبهذا لم يتمتع النص بالحيوية أو التجديد اللازمين، بل كان فاتراً وكسولاً.


ومن أوجه القصور التي عانى منها النص؛ كانت الشخصيات الهامشية التي لا نستطيع تذكرها بعد أن نفرغ من مُشاهدته، وتَحديداً الجِهات الإجرامية التي تعامل معها النص كامتداد لإحصائيات «روبيرت ماكال» في اقتتاله مع العصابات دون تركيز فعلي على ناقوس يجلب الخطر. باستثناء الشاب «مايلز» الذي أداه الممثل الأسود «آشتون ساندر» - ظهر في فيلم الأوسكار «ضوء القمر 2016»- عندما جَمعته العلاقة الخاصة – الشبه أبوية - مع «روبيرت ماكال» إزاء ما يوفّره الأخير من حمايةٍ له من شِلل العصابات ومروجي المخدرات، وبتحفيزه الدائم على استثمار موهبته في الرسم وتحقيقه لطموحاته بعيداً عن مستنقعات الفكر الإجرامي. ولا ننسى المشهد الرائع في منتصف الفيلم الذي يعزز من أواصر تلك العلاقة ويؤكد على أن «دينزل واشنطون» يحافظ على مرتبته كأفضل ممثل أسود عرفته السينما، وأنه مازال أكبر من أفلامه!، التي يستحيل المرور بواحدٍ منها دون النَظر إليه بمعزل عن أيّة اعتبارات أخرى تشغل البال.


في النهاية، يظل فيلم «المعادل» فيلماً جيداً لأن مخرجه رصين الرؤية لما يقتضيه العمل من شكليات ومضامين؛ فيقدّمها بأفضل حال وأجمل حُلّة. ويجمع بدوره ما بين المتعة البَصرية إزاء مشاهدة «دينزل واشنطون» وهو يقوم بضبط ساعته ويمنح أعداءه عدداً من اللكمات والرصاصات، وبين «روبيرت ماكال» الشخصية ذات «الكاريزما» التي تجبرك على احترام فلسفتها في الحياة وتعاملاتها مع البشر من حولها؛ من خلال متعة مشاهدتها وهي تمنح الحِكم والمواعظ التي تستند بإقتباساتها إلى أدباء وفلاسفة مشاهير، فتشير بدورها إلى ثقافة البطل الرفيعة، والتي تمنينا لو أنها وظفت داخل نَص؛ ذو جودة أفضل مما كان عليه هنا.

تحياتي

الأحد، 12 أغسطس 2018

«جيسون ستاثام» يحاول ركل مؤخرة أضخم سمكة قرش في العالم ويفشل! - مراجعة فيلم The Meg 2018





The Meg 2018 - سمكة القرش الكبيرة

•  إخراج :  جون تورتيلتوب
•  التصنيف :  أكشن - مغامرة - إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★ (ضعيف)



ضمن سلسلة إخفاقات طويلة شهِدت على فشل المخرج «جون تورتيلتوب» في أن يظفر بفيلمٍ أو اثنين، على الأقل، يُمكن اعتبارهما ينتميان إلى فئة الجودة، بالنسبة إلى كم الأفلام الرديئة التي أنتجها طوال مسيرته، يُصرّ الرجل على استكمال سلسلة العثرات والمتاعب تلك بإضافة حلقة أضخم هذه المرة، والتي لم تعد تقتصر على حجم الكارثة الفَنية التي يداوم على فِعلها باستمرار؛ بل بواقع أن فيلمه هنا، بالفعل، يحتوي على أضخم سمكة قِرش في العالم.

هناك متلازمة حميدة نعاني مِنها؛ نحن رواد السينما والأفلام، دون استثناء، تُدعى «التَجديد» والتي مِن خلالها نأمل في الخوض بتَجارب منعشة ذات إثارة وتشويق في كلّ مرةٍ نجلس فيها أمام الشاشة. إلا أن «هوليود»، على سبيل الحصر، يتكوّن لديها رأي مغاير تماماً لتِلك الأعراف السائدة؛ وهو الأمر الذي بات يقودها إلى استبدال نزعة التجديد عند الجمهور بنزعة « التضخيم» عند المنتجين؛ باعتبارها حلول سَريعة تَضمن رَفدها المستمر لسوق الترفيه. فهذا العام شهِد فيلمين أو ثلاثة من نَفس الطينة التي لا تضع اعتبارات «التجديد» في بال صنّاعها بل يبدو أن «التضخيم» أضحى حلّالاً لأكبر المَشاكل التي تواجه إفلاسهم نحو إثراء الجوانب الفنية لأعمالهم أو حتى اعتبارها، من الأساس، شكلاً من أشكال الفن أو امتداداً له.

تلك الأفلام، كان من بينها فيلم «اهتياج»، على سبيل المثال، الذي تحولت فيه الحيوانات إلى أحجام شاهقة خرافية، وفيلم «ناطحة سَحاب» الذي فيه أطول برج تجاري في العالم، وكلاهما من بطولة نجم الغفلة «دوين جونسون». وهو ضخم أيضاً.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تسرب هاجس «التضخيم» هذا إلى شخصية بحجم «الرجل النَملة» الذي لا يتماشى مع فلسفة تصميم شَخصيته مبدأ «التَضخيم»، إلا أن ما شهدناه في فيلمه الأخير هو استهلاك مساحة كبيرة من زمن عرضه وهو بحجم الديناصور!. ويبدو، أن هنالك عِبرة واحدة يمكن أن نخرج بها من هذا الكم الهائل من الأحجام والأسنان الكبيرة؛ تفيد بأن مع كلّ تَضخيم يحدث في حَجم تلك الأفلام، يصاحبه، بطبيعة الأحوال، تقليص في عقول القائمين عليها، ومن بعدهم الجمهور، بالتأكيد.



يحكي الفيلم قِصة الغواص البحري «جونز تايلر» الذي يُعاني من إضطرابات جَسدية تبعاً لعوامل الضغط الجوي الذي يَصحبه أثناء غوصه إلى أعماق البحر الكبيرة، والذي قاده في يومٍ من الأيام إلى التخلي عن مجموعة من زملائه أثناء قيامه بإنقاذهم من سمكة قرش كبيرة، ليتقاعد مِن بعدها ويعتزل عالم البِحار ليتوجه إلى «تايلاند». إلا أنه ، وبعد فترة من الزمن، يطلب مساعدته مجموعة من الأصدقاء القدامى والذي عملوا معه سابقاً من أجل إنقاذ طاقم استكشاف عالق بين مضيق بحري، وأحد أفراد هذا الطاقم هو حبيبته السابقة، فيذهب «جونز» بعاطفته داخل مجموعة من المخاطر بين أجسام أسماك القِرش الضخمة؛ في سبيل إنقاذ الجميع.



وكما هي العادة، الكثير من المتاعب تواجه عَملية الإنقاذ؛ بحيث لا يسري كلّ شيء ضمن الخطة، وهذا مقرون بعِدة عوامل تنشأ من توليفة جاهزة لا يُمكن لصُناع هذه الأفلام - المتعلقة برُعب البَحار والتهديدات المستمرة من قبل كائناته - من أن يستغنوا عنها. مِنها وجود شَخصيات هامشية بوفرة والتي يستخدمها السَرد «كبشاً للفداء» في سبيل استمرارية التشويق مع الإبقاء على نِصاب الخسائر ضمن المعدّل المسموح، فضلاً عن اللجوء إلى اتخاذ قرارات غبية ومندفعة بسذاجة أصحابها تعمل على خلق مفارقة تهدم روح المَنطق وتقطع دابر الحكمة من سياق العَمل. الأمر الذي يستهلك بدوره المزيد من مخزون الشخصيات الثانوية السابقة والمعروف مَصيرها مسبقاً بالتأكيد، ناهيك عن البَطل الخارق الذي يمتاز بخصائص «سوبرمانية»، لا يُضارعها قدرات أحدٍ من البشر حوله، ويُجابه بها هجمات الكائنات من حوله بقلبٍ جامد ويدٍ من «تيتانيوم»!، ويحافظ على مَسافة آمنة بينه وبينها؛ بحيث كلما اقتربت مِنه وتصبح على وشك التهامه يتدخّل «المدد الإلهي» الذي يُبطل تلك الهَجمة مساعيها، وكل ذلك يحدث؛ إما بمساعدة حبيبته التي تَدخل من خرم الشاشة دون سابق إنذار، أو إسقاط شيء على «نافوخ» سمكة القِرش ليودعها في غيبوبة طويلة. وبأفضل الأحوال، يتعزز دور هذه المفارقات نحو لجوء السمكة (بذكاءها طبعاً) إلى تحويل مسارها من البطل إلى شخصية أخرى هامشية - حان وقت التخلي عنها - فتلتهمها على أضعاف المسافة التي كانت تفصلها عن البَطل الخارق! .


في خضمّ تلك الأحداث المتوالية نتعرف بشكلٍ عابر على شَخصيات عِدة؛ منها الرجل الثري صاحب الحملة الاستكشافية الذي أداه الممثل «رين ويلسون» بدور «موريس» الذي لا تَختلف جذوره عن باقي الأثرياء في الأفلام؛ الذين لا يُهمّهم سوى جَمع الأموال وإختبار الإثارة، حتى ولو كان على حِساب الأرواح، بالإضافة إلى العَلاقة الرومانسية التي تَنشأ بين البطل وعالمة البحار «سوين» التي أدتها الممثلة الصينية «برينغ بينغ لي» بكمالية لا يبتعد عَنها التَصنّع كما هي عَلاقة الحب الواهية التي تَجمعها مع البَطل أو كحال ابنتها الصَغيرة، التي لا بُدّ من حضورها بدور الطفلة الذَكية التي تُضفي بضعاً من اللطافة لأجواء الخطر، وهذا لا يُمكن إنتزاعه من الاعتبار لما ستضفيه من شَرعية على علاقة والدتها بالبطل وتكوينهم عائلة سعيدة في نهاية الفيلم؛ كما هو الأمر عند كثيرٍ من «الميلودراميات» المعلّبة التي شهدناها في السينما.


جميع تِلك العوامل مفروضة من حيث الضرورة في منح أحداث الفيلم سيرورة طبيعية ؛من أجل شحن مواقفه باستمرار، ولخلق إيقاع فيلمي يمتد بزمنه إلى الساعتين من العمر، حتى ولو كانت دون ضرورة درامية!، فعندما نذهب لمُشاهدة هذا النوع من الأفلام فإننا نسعى في المَقام الأول إلى رؤية أسماك القِرش وهي تلتهم الأخضر واليابس والبَشر والحجر على حدٍ سواء. لكن حتى هذا المبتغى يتأخر في تقديمه الفيلم لما يقارب النصف ساعة على بِدايته؛ إزاء محاولاته البائسة من تأسيس خطر حقيقي يخلق تهديداً تجاه شخصياته. إلا أن ما لا يفهمه الفيلم أننا جميعنا نَعلم ماذا سيحدث وكيف سيحدث وماذا سوف يُقال وكيف سيُقال، المُهم لدينا هو مناظر الدِماء (مصنف للصغار بالمناسبة!) وأسنان سمكة القرش الفتّاكة وهي تخترق الشاشة من شِدّتها، والتي عِندما تَضرب فإنها تمنح الفيلم بعض الحسنات، رغم وفرة السلبيات! . فعندما تبدأ أسماك القِرش في الهجوم من مسافة قَريبة من المتفرج، يصحبها، بطبيعة الحال، رهبة كبير لا يمكن إنكارها، وبالتحديد، عندما يشاهدها بواسطة عدسة «ثلاثية الأبعاد/3D » وعلى شاشة بحجم الـ «آي ماكس/ IMAX». إلا أن هذه المواقف، بأفضل الأحوال، لا تَصُمد سوى في مشهدٍ أو مشهدين، وما تبقى من زمن الفيلم عبارة عن سلسلة متعاقبة من مشاهد رديئة في التوليف؛ لا تسر النظر ولا ترضي البال.


لا يمكن إنكار حجم الكاريزما التي يضخّها ممثل بحجم «جيسون ستيثام» وتعزفك عن متابعة وترقب أحدث أفلامه! ، إلا أن حضوره هنا ليس بالشيء الذي يُذكر، كما كان عليه بالسابق، بل يعزز من نظرية وجوده كأداةً تَسويقية لفيلم بلاستيكيّ الصَنعة، وفي أفضل الأحوال تتساوى إيراداته مع إيرادات «البوب كورن» و «الأطعمة الجاهزة» داخل دور عَرضه!.

يرجح السبب إلى أن مساهمته، بالنسبة إلى رجل حركة ومخاطر، متوارية خلف ستارة المؤثرات البَصرية، والتي تقيّد من مساحة الاشتغال في ما يَبرع فيه أو يحب الناس رؤيته من خلاله، فهنا لا يتمكّن من منح جمهوره نشوة مشاهدته وهو يركل سمكة القِرش على قفاها مثلاً، أو يتبادل معها اللكمات وضربات السكاكين مع العُصي!، فهذا كلّه لم يكن من اختصاصه بل كان من اختصاص الطاقم البَصري على أجهزة الحواسيب من خَلفه، ودوره كان محصوراً في إجلاء التعابير على وجهه وكامل جَسده كما لو كَان في ميدانٍ حقيقي، ولكن حتى في ذلك يفشل؛ لأن الحيّز الذي يؤمه المَكان محدود للغاية، ولا يَسمح بالكثيرٍ من الإثارة؛ إزاء رؤية جَسده وهو يَتراقص كما عوّدنا سابقاً، بحيث لا يضفي بدوره روح المنافسة والزخَم كما كان من الممكن أن يَنجح فيه ممثل عملاق البُنية، اعتدنا مشاهدته وهو يُصارع الوحوش من بيئته، مثل: «دوين جونسون».


الجميع يهوي في هذا الفيلم؛ سواء كان على مستوى التمثيل أو مستوى الإدارة الكليّة، وهذا بالطبع عائدٌ لحجم الرِهان الذي يضعه صُنّاعه، ومن بعدهم المشاهدين في الذهاب من أجله. إلا انه وفي النهاية، يُعد فيلم «سمكة القرش الكبيرة» فيلماً صَيفياً لعُشّاق السِباحة والمياه ورؤية أسماك القرش وهي تهدد تلك المتعة، بالاضافة إلى الذين يَسعدون لرؤية الممثل «جيسون ستاثام» وهو خالعٌ لملابسه وبارزاً كامل عضلات جسده المنحوته وهو يتصدّى لكلّ ذلك، والذي يتنامى تدريجياً مع أصوات لعق «البوبكورن» وسماع خرخشاته دون الالتفات لما يتابعونه من هراء وابتذال.

تحياتي

السبت، 11 أغسطس 2018

"بول شريدر" في عقده السبعين يُقدّم مرثية غضب لهذا العالم - مراجعة فيلم First Reformed 2017





First Reformed 2017 - أول مصلح


•  إخراج :  بول شريدر
•  التصنيف :  دراما- إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★ (ممتاز)


يستأنف الكاتب والمخرج الأمريكي المخضرم «بول «شريدر» في فيلمه الأخير «أول مصلح» قضايا كانت قد أشغَلته منذ بداية مشواره السينمائي وسعيه المستمر من خلال أفلامه في التعبير عن هواجسه الذاتية التي تنزح باستدامة نحو البحث عُمقاً في القضايا الإيمانية لدى شخصيات مُعذّبة ومرهقة وتعاني من فَرط الشكوك والحيرة والامتعاض ممن هم حولها، وتتصارع داخلها نفسياً في مسعاها المستمر نحو الخَلاص من بيئة مضطربة وغارقة في مستنقعات القذارة والفساد. الموضوع نابعٌ بالأصل من أن «بول «شريدر» نفسه قد جاء إلى حُجرة السينما منذ أن نذَرَ نَفسه للانشغال في قضياها بَعد أن كان يلبث في حُجرة الكَنيسة وسلطة التعاليم الدينية، والتي، إن كان لَها الفضلُ في تصاعد هذه المَوهبة لأوج التأثير في ميدان الشاشة، فيعود إلى سر تعلّقه بتَقديمه نَقداً لاذعاً يفضّ عن مكنوناته من أجل سبر مفاهيمه عن الدين والحياة والإنسان. وسينما الرَجل كانت تبشّر بنبوءة لسينما النَقد والسخَط التي فجّرها منذ نعومة أظافره الإبداعية مع الكِتابة الأسطورية لفيلم «سائق التاكسي» الذي يُعدّ حتى الآن مَرجِعاً أساسياً في دِراسة الفيلم والكِتابة السينمائية في الجامعات والمعاهد المتخصصة في هذا المجال.

«أول مصلح» هو استكمال لمشروع «بول «شريدر» السينمائي الذي بدأه منذ نحو أربعة عُقود في تناول قضيا مناخية، لم تعد تقتصر على نَبرة السخط السياسي وَحده بل بل بات، بعد أن وَصَل الرجل إلى مشارف العقد الأخير من عُمره وأمسى بلغته الجافة يُعبّر عن ما يمقته، تناط بالمناخ والبيئة، والحياة الراهنة والقادمة على هذا الكوكب؛ الذي بات سكانه وساسته يغمسونه وأنفسهم في مستنقعات الجنون والدمار تحت كِنايات دينية وبرامج سياسية مِثالية وخِطابات توعوية خاوية من أي إصلاح حقيقي يهوى التغيير.

يُعيد «بول شريدر» في فيلمه هنا أمجاد السينما عندما كانت ذات شَخصية، والشاشة مُجرّد وَسيط شفّاف لا يتحايل ولا يُهاود، والأسلوب التسجيلي الذي بدأت في كَنفه السينما في الانبثاق، يسترجعه هذه المرّة كإطار مَتين يحمل دراما الفيلم بصورة أكثر تقشّفاً عن ما كانت عليه سابقاً، ويوطّد رؤيته عن طريق «التجريد» في معالجة موضوعه الشائك الذي يلجأ إلى تناوله هنا بصرامةٍ أكبر بعيداً عن أية محاولاتٍ في التبسيط أو التَجميل أو التعاطف. عَدسة ««شريدر» ثابتة وصورتها باردة، إطارها لا يتسع للكذب ولا يستثير العاطفة ولا يُفلتِر الكلام، لكنها تَضرب بيدٍ من حَديد فوق رؤوس المَعنيين من هذا السخط.، فالموضوع بالنسبة للرجل بات البَطل الحقيقي وهاجساً يشغله طوال الوقت، ورؤيته هنا لا تخرج عن كونها وسيلة حقيقية في فض بكارة الصمت والتخاذل، أما بالنسبة للمعالجة الجادة والمتزمتة، فهي بالتأكيد، رِسالته الكبرى.


يتناول فيلم «أول مصلح» الحديث عن كاهن يُدعى « إرنست تولر» (إيثان هوك) الذي تتغير معالم حياته ويتحول مجراها بَعد أن وَصل إلى مرحلة من الانهيار الروحي تجاه ما يَشهده هذا العالم من آفات إنسانية وبيئية وزيف سياسي وتخاذل إجتماعي، ليتفاقم ذلك كلّه مع دخول «ماري» (أماندا سيفريد) الإمرأة المتدينة والتي تلجأ إليه من أجل إيجاد حلول لقضايا إيمانية تزهق روح زوجها، العالم البيئي المتطرّف، الذي يَحمل نظرة متشائمة تجاه هذا العالم أيضاً؛ برغبته الملحة في إجهاض زوجته لجنينها من أجل تخليص هذا العالم من آفاته التي كانت نتيجة التكاثر البشري الغير محكوم سيطرته. ليدخل الكاهن بموجبه هذا المنعطف من الإصلاح بموازاة ما يُعانيه هو الآخر من اضطرابات راهنة، بالاضافة إلى ما يُعايشه من بيئة دينية مهزوزة الكَيان تفرض عليه الخنوع تحت تقاليدها دون النَظر إلى صوابها من عدمها.


لايزال «بول «شريدر» يَحترم النسق «النواري» في تأطير حكاياته الذي استعمله في كثيرٍ من أفلامه، والذي يعتني باحتضان مواضيع خانقة وبارزة في هذا النوع من الأفلام مثل: الخطيئة، الذنب، التعلّق بشبح الماضي، والصِدام مع وحش الواقع. وهو ملاذٌ آمن يسمح لصانع العَمل في الانسياق مباشرة إلى موضوعاته إزاء الوفرة في الخصائص الذي يفرضه هذا النوع من تيّمات درامية وما يحويه من أساليب تعبيرية مُناسبة لعكس الزَخَم النفسي الذي يواجه الشخصية الرئيسية، أو شخصيات العمل بصفة عامة، من حيث الاشتغال على العمق البَصري الذي تَفرِضه بواسطة عناصر تكوين تُعنى بضبط الضوء وحركة الظِلال وزاوية الكاميرا وحجم اللقطة وعُمق ميدانها.

نص ««شريدر» غير قائم على التَصاعد في الوَتيرة لكنه في المقابل يتوسّع من الداخل تاركاً مساحة كافية للتأمل بأفكاره المنتصبة أمام الجميع، صحيح أن أحداثه ليسَت ذات دَسَم درامي ولا تشويقي؛ من حيث التفاعل والانفعال، لكن في الوقت ذاته يَمتلك كَثافة الطَرح، وعِند استيعاب دوافع كلِّ من الشَخصيات واستبصار رؤية العمل كاملة سوف تَكمن روعة التَلقّي والتماهي مع كلّ ذلك، وتجد نفسك أنك أمام دراما تشويقية ذات لذة، ما بعدها من لذة! ، وتَحديداً بأن ما يَطرحه من موضوعات ذات شأن وأولوية قصوى، لا تقل أهمية عن ما نتناوله من مواضيع ثانوية وتشغل بالنا يوماً بعد يوم، فما يفرضه «شريدر» هنا من مواضيع راهنة وشائكة، كانت بحاجة إلى هذه الأسلوبية الجافة من أجل فَرضها على طاولة النِقاش والاسترسال في تَصعيدها إلى أن يَصِل صوتها الذي خَفت وقارب إلى الزَوال لرقعة واسعة من الجمهور.


«بول «شريدر» حاله كحال «دارين أرنوفسكي» في العام الماضي في فيلمه الجدلي «أم!» عِندما توعّد البشرية بإنذارها الأخير لما سوف يحلّ عليها من فواجِع إثر التساهل في تناول قَضايا البيئة والاستدامة الطبيعية. صَحيح أن المُعالجة التي قام بها «أرنوفسكي» زخرفية بَحتة وقائمة على ضخ الصَدمة أمام المشاهدين، إلا أن فيلم «أول مصلح» يُعالج بقساوة وتقشّف حد الجفاف، سَرده لا يُريد التأثير عن طريق فرض عواطف ساذجة، فقد انتهى الكَلام عِند الواعظين، وبات الآن يُخاطبك بعَقلِك وبتركيزك، لا بعاطفتك، لعلّك تَعي ما سيؤول إليه الحال مستقبلاً في ظِلّ العنجهية التي نعيشها في خضمّ الأيديولوجيات المدمرة كالـ«الرأسمالية» وذراعها الأيمن في «النيوليبرالية» اللتان وُلدتا من رَحم الوباء نفسه والذي لازالت أمراضه تتفشّى بين الأمم جيلاً بعد آخر، وتصنع ممالكِها على حِساب مُقدّرات الأرض وانتهاك حُرمَتِها والسَعي المستمر نحو قَطع الرِقاب الخارجة عن حدودها في سبيل الإصلاح أو اشتمام رائحته، والتَشبّث بمفاهيم بالية، مثل «الأمل»، الذي نشأ على مصارفه ما يُسمى بالـ«الحلم الأمريكي» الذي لا يوجد وسيلة لتحقيقه سوى القضاء على أحلام الأرض والحالمين بمُستَقبل أفضلٍ عليها.

لكن من يَهتم؟ العالم في نَظر «شريدر» لازال منشغلاً في تَحقيق لقمة عَيشه وعلى مبدأ « أنا ومن بَعدي الطوفان»، الجميع يتشبّث بطوق النَجاة لسفينة تَغرق، لايوجد وَقت لتَقليم أذرع المشتركين في هذه الجريمة الشَنعاء. حوارات القِس «تولر» المُطوّلة والتي يختزلها الفيلم مع أشخاص من مجالات مختلفة وذوي آراء متباينة يتفاوتون بتلقيهم الجاد للوضع الراهن؛ فمنها حواره مع العالم البيئي الذي انتَحر بَعد أن أعطى نَفسه فُرصة الخَلاص من فِكرة العالم المشؤوم الذي سوف يكون عليه بَعد عقدين آخرين مِن الزَمان والذي من أجله سيفرض عليه التضحية بجنين زوجته الآن لخِدمة قضيته الكبرى، على اعتبار أنه بذلك يُقدّم للاله قرباناً ليغفر له ولمن حوله، لكن إلى متى كان سيدفعه التحمّل في الانتظار؟ واللذين يقفون من زملائه من العلماء في وَجه الممارسات الشائنة بحق البيئة يُقتلون على الفور؟!، ثم من يدري عَنهم بالأصل؟ الإعلام؟ أليس هو نفسه من تُحرّكه تلك الأذرع؟ . ناهيك عن الحوارات التي قَسمَت ظَهره مع كبير القَساوسة الذي يُدير المجمّع الكَنسي كنوع من «البرستيج» والتشبّث في المَناصب وعِندما يطارحه القِس بتلك الهواجس وسؤاله بـ" هل سيَغفر لنا الله؟" يُعطي ظهره لجميع ما تم ذُكره ويَرمي الإجابة على شماعة إسمها «الأمل» التي لازالت تنهش في العامود الفقري للأمم والحضارات، الدينية بالتَحديد، ما لم يُصاحِبها وعي حقيقي بمقتضيات ما يعكسه الواقع البيئي من خطر قادم يُهدد البشرية . ثم إن ما كان يَهتمّ بِه «شريدر» هنا هو الإلقاء بنظرة فاحصة على حقيقة المؤسسات الداعمة في ظاهرها نحو التوجه الإصلاحي ولكنها أسفل ذلك كله تجهض جميع القوانين الهادفة إلى محاربة الهجمات التي تشنها الشركات الصناعية على البيئة ومن جِهتها تستمر في الضحك على «ذقون» المجتمع الدولي الذي يتشكل غالبيته من الشَباب بمختلف فئاتهم العمرية الذين باتوا يعانون من «فجوة ثقافية» و«أزمة هوية»، وأمسوا أكثر عرضة للانغماس داخل مستنقعات الفِكر الاستحواذي والاستهلاكي الذي يَضمن لهم السرعة في الإجابة عن تساؤلاتهم الوجودية التي لا توفّرها لهم مؤسسة الدين بسهولة، لذلك ينزلقون، بفضل عصر التكنولوجيا والعزل الاجتماعي والتغريب الثقافي، أسفل تلك المؤسسة ويتوجهون، بالتبعية، وليس بالبعيد أن تكون العدَمية محطّتهم التالية، نحو مؤسسات أخرى ذات رايات سوداء وأيديولوجيات مدمرة بحثاً عن هوية تجمع شتاتهم الذي انفصلت ركائزه وتشظّت بعد أن دُمّر ما يعرف باسم «مؤسسة العائلة».


يلتزم «بول شريدر» في إطار الصورة ذات القياس ( 1.37 : 1) التي تتوسط الشاشة، وتمثل بدورها انعكاساً لخياراته الفنية، بمساعدة المصوّر «أليكساندر دينان»، في رسم حدود الأزمة ومنحها الطابع «التوثيقي» الذي يعمل على نشوء علاقة مَكانية وزمانية مع المُشاهد ليلتمس من خلالها شِعرية الواقع ونشوة اكتشافه، وهذا باعتماده أيضاً على فَرض لقطات عميقة بَصَرياً أو ما تُسمى بالـ«Deep Focus» التي تعمل على تَدوين عناصر الكادر وربطها شعورياً مع أطروحات الفيلم وحالة شخوصه، كَتِلك اللقطة الثابتة التي تُظهر «كنبة» بين مصباحي طاولة؛ أحدهما يتّخذ شكل «العين» والآخر الشَكل المعتاد، ليمثلا عين مفتوحة وأخرى مغلقة وبينهما فَم يلتهم الجالسين على «الكَنَبة»، وكأنها ترجمة بَصرية لفكرة «المسيح الدجال» أو «الأعور الدجال» كما جاء في الأديان السماوية والتي تقضي بفِكرتها على مجيء هذا البلاء في آخر الزمان ليعيث فَساداً في الأرض، وما نَعيشه اليوم ما هو إلا بِداية لهذه النِهاية الشنعاء.

كاميرا «شريدر» عنيدة وثابتة، لا تريد الحركة، تعبّر بدورها عن ذاتية صانع العَمل في مراقبة هذا العالم بتثاقل وأسف كبير، حُزنه الشديد الذي يرافقه موجة غَضب عارمة ينعكس بوضوح على تكوين تلك اللقطات وتأثيرها الشديد في ابراز قوة المشهدية داخل هيكلية منتظمة تمزج ما بين الانجاز الكِتابي المتين مع الانجاز التنفيذي المبهر، ورغم أن حركة الكاميرا كانت محصورة في عدد قليل من اللقطات؛ في إثنتين أو ثلاثة على الأكثر، إلا أنه وفي كلّ مرة تمارس بها فعل الانتقال هذا، تنشأ بذاتها حركة جَمالية ومعنى ضمني يعزز من لغة الصورة في توصيل رؤية العمل؛ كالمشهد الافتتاحي الذي جاء بلقطة طويلة/Long Shot وبزاوية منخفضة/ Low Angle تقترب شيئاً فشيئاً من مبنى الكَنيسة الذي تمنحه هذه الديناميكية في التَصوير رهبة المَكان وما يحاذيها من رَهبة في الفِكرة.

موسيقى الفيلم كانت مقتضبة الحضور وشبه منزوعة، تاركة لشريط الصَوت في التدفق بأصوات الطبيعة والمَكان الذي يؤمه الكادر، لكن عِندما تَضرب، فإنها تضرب بغضَب عن طريق خروجها من أبواق متوحّشة وخانقة للموسيقار «براين ويليامز»، والتي كانت تترجم غضب وضيق القِس «تولر» كما في مَشاهد التجوال الليلية - سائق التاكسي ستايل - التي يقوم بِها ويراقب الشوارع وظلمة البيئة التي تَسكن سكّانها والتي يَبرز دورها أكثر فأكثر مع اقتراب النِهاية التي يتفاقهم بها شعور القِس بفقدان الإيمان والثقة في الناس من حوله.


يعود الممثل «إيثان هوك» إلى تصدّره مَرتبة متقدمة لأفضل ما قدمه في مسيرته الفنية من خلال هذا الأداء الذي يتّصف بالإجادة عن طريق نقل الحالة الذهنية والنفسية والجَسدية لكاهن يثقل كاهله التخاذل المجتمعي والصمت الإلهي، فضلاً عن الألم الجَسَدي إزاء إصابته بمرض «السرطان»، ناهيك عن علاقاته الكهنوتية التي يمارسها مع أناس يُريدون إصلاحاً من جانبه ولم يَعد قادراً على مَنحهم بركاته ونصائحه الإيمانية ، بالإضافة إلى ما يَتحمّله من زيف يتعامل به الناس مع الدين وأسلوب تلَقيه القائم على بِضعة طقوس وروتينيات وسياحة أسبوعية، ويتخذونه حسب الطلب كما هي الوَجبات السَريعة.


في النهاية، قد يبدو، استناداً إلى ما تم ذِكره، أنه فيلمٌ متشائم كما هي أفلام السويدي «بيرغمان» وتحديداً فيلمه: «ضوء الشِتاء 1963» الذي يتقاطع مع هذا الفيلم في كثيرٍ من تيّماته ، إلا أن ما يرومه «بول شريدر» ليس هذا بالتأكيد، فهو في الحَقيقة عبارة عن مرثية غَضب يحملها الرجل تِجاه ما يذهب إليه جنون هذا العالم، وعنوان فيلمه هو خير مِثال على وضع السؤال الضمني" ياترى : "من المصلح الأول؟" أو "من سيتسابق لتحقيقه؟". لكن، ورغم أن ما يَحمله الرجل من نَزعات انتقامية وغاضبة كان قد تبناها وعبّر عنها في كثيرٍ من أفلامه السابقة، إلا أنه وفي أحلك الأوقات التي يَقع فيها بشِرك تلك النزعات، يَرمي بذراع التفاؤل ويلتمس شعور السعي نحو التغيير وإن كان بأبسَط الأشكال وأقل الدوافع، وهو اختبار إيماني يجول عِند كثيرٍ ممن ترهقهم هذه المواضع وتِلك القَضايا، والذين يقبعون أكثرهم عِند فئة العُلماء ورِجال المعرفة والدين والثقافة - عندما سطّر هواجسهم سابقاً الروسي النابغة «آندريه تاركوفسكي» في فيلمه «المتعقب 1979» - فبحُكم داءهم للمعرفة وبحثهم عن سبيلٍ للخلاص من عفونة مياه صَرف مجتمعاتهم، إلا أنهم، بشكلٍ أو بآخر، يتعرّضون، لمنعطفات تحيدهم عن المسرى الصحيح إزاء ما يتلقوه من تيارات الشَد العَكسي من السلطات والأيدي المتنفذة من أصحاب لغة المال والدَم، وقبلهم جميعاً، «الجهل».


تحياتي