السبت، 21 أبريل 2018

مراجعة فيلم Amarcord 1973

" فيلليني يتذكر " ..

Amarcord 1973 - أنا أتذكر

•  إخراج: "  فيدريكو فيلليني "
•  التصنيف : كوميديا - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★★





لم يأتي على السينما قامة فنية قامت بالتعبير عن ذاتها بالشكل الذي إبتدعه " فيدريكو فيلليني " عن نفسه ، إنه واحدٌ من القلة الذين إستطاعوا من أن يؤُرخوا حياتهم من خلال أفلامهم ، بوساطة تعبيراتهم البصرية التي هي أشبه بإمعان النظر في ذاكرة كلٍَ منهم المحمومة الجوانب : العاطفية والثورية والناقمة والساخرة ، فاتخذوا من تواترها مِنصات ذهنية إعتلوا فوقها بمِهنيتهم العالية وقاموا بترجمتها أمام مُتفرجيهم برفاهة قانية . إن تجارب " فيلليني " السابقة قادتني للعودة إلى المُخرج الروسي " آندريه تاركوفسكي " في كِتابه " النحت في الزمن " عِندما صاغ نظريته السينمائية المُدعاة بـ" تحنيط الزمن " ، التي كان مفادها أن الممارسة الفيلمية تُعنى بإلتقاط الزمن وطبعه على الشاشة  ، حيث يُمكننا أن نحتفظ في إيقاع الزمن أو تحنيطه إستعداداً لتخزينه ، يلعب من خلاله المخرج دور النحات الذي يقوم بأخذ قِطعة رُخامية ويُزيل عنها الزوائد لكي يصنع قالباً جمالياً ، لكن هذه المرة من خلال النحت في زمن الصورة ، وهذه هي المُقاربة التي يُمكن الإشتغال بها مع " فيلليني " من خلال أعماله عِندما قام بتحنيط ذِكرياته وأحلامه وذاته كُلَية على شريط سينمائي دوار ، فهو من أكثر الفنانين إستحضاراً لذكرياتهم وتأطير أحلامهم على مشابك الشاشة . وفيلمنا " أنا أتذكر " هو إنجاز من هذا القبيل . فمن أراد أن يعرف من هو ذلك الـ "فيلليني" المُخضرم ، فعليه بمُشاهدة أفلامه ، التي إعتُبرت في زمنها وما لحقها لُغة سينمائية خاصة ، كما هي حِرفة النحاتين ، تربط الواقع مع الأحلام في قالب شخصي تام  .

إن الأسلوبية التي إعتمدها " فيلليني " في سبر أغوار مفاهيميه عن الأفلام ، كانت نتاجاً للمُفارقات التي رصدت تلك الموهبة إتجاهها وتأثرت بعوامل إجتماعية وبيئية صقلت من قدراتها . ففي الفترة التي أعقبت فيلمه الظاهرة " الحياة حُلوة " ، كانت حياة " فيلليني " أشبه بمرحلة مخاض رُفقت بإرهاصات مُتراكمة ، دفعته بشراسة مدوَية نحو القاع ، عاشها مُلاحقاً من أقلام الصُحف وألسنة الساسة و سخط رجال الدين وإزدراء الأقربين منه ، عِندما نقل صورة " إيطاليا " وطبعها أمام جمهوره على شاشة نقدية لاذعة ، مسَ بها كرامة شعبٍ كامل تعرى عن حقيقته الكامنة وكشفت عن إضماراته المعيبة . فيُحكى أنه بعد أن قام بحضور عرضه الأول في إحدى الصالات وهو خارج منها ، مرَ بجانبه أحد الرجال وبصق على وجهه وقال له : " لقد مرغت وجه إيطاليا بالوحل !  " ، ويُذكر أنه في أحد الأيام أيضاً كان ماراً بكنيسة وجد مكتوباً عليها عِبارة : اللهم إهدي فيلليني " ! . .تلك الفترة لم تمر مرور الكِرام على حياته ، فقد أضحى عُرضةً للخِطابات المُشينة بذنبه وخطيئته من جِهة ومن مُطالبات مُعجبيه بتقديم عمل إبداعي آخر من جِهة أخرى . لكن " فيلليني " هو مِثال صارخ على الفنان الجاد في تناول قضاياه وتحقيق رؤاه وطموحاته في كسر حواجز الأحكام الخارجية ، فبعد كل تلك المصاعب قام بإخراج فيلمه العبقري " 8 و1/2 " أو بمعنى مواز : " حياة فيلليني ونصف " ! ، الذي تحدث به عن تلك المُعاناة التي عاشها والتثاقلات المُناطة بكرامته وجودته كفنان حرَ يعبر عن ما يهوى التعبير عنه بإستقلالية ، وما جذبه من مسؤوليات لاحقة أثقلت من كاهله وأفقدته روح المُبدع وسمة الالهام ، حيث إستطاع من خلال فيلمه ذاك أن يُعيد صياغة تلك المُنغصَات جميعها إلى عمل إبداعي إستمد طاقاته الناضحة من صِداماته السابقة .

في ظل ما ذكره لساننا ; يُمكننا أن نكوَن صورة أولية عن طبيعة ذلك الفنان المنشود من خلال أسطرنا السابقة وعن أسلوبيته في تقديم رِوايته الخاصة التي تأبى أن ترضخ تحت أي سٌلطة تُعنى بما هو صحيح وما هو خاطىء وإنما بما هو حقيقي وواقع ، وفيلمه " أنا أتذكر " هو أفضل الصور إجادة عن كيفية تحويل ذِكريات إنسان محمومة ومرئيات مُقلَمة إلى سرد بصري يهوى جمع النوادر في صندوق فني واحد ، يسعى من خِلاله أن يستمد فُصوله الدرامية من فصول صانعه الحياتية التي مرَ بها في بلدته الأم " ريميني " جنوب إيطاليا ، وهو ما يُمكن إعتباره و" فيلليني " نفسه يعمد إلى إعتباره بأنه فيلم ينتمي إلى أفلام السيرة الذاتية  .




يتناول الفيلم ، الحائز على جائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي عام 1973 ، في مُحكم فُصوله الدرامية حِكاية " فيلليني " وذِكرياته المُجتزئة عن طفولته في بلدته الأم " ريميني " خلال ثلاثينيات القرن الماضي ، ولو أن فيلمه لا يحوي ذكر مباشر لـ " فيلليني " ، أو إستحضاره لبطولة فردية ، وإن كانت تلك الأخيرة موجودة فهي باهتة ، يرجع بذلك إلى الأساس الذي صادق عليه في إعتماد سرده من خلال أن يصب جام تركيزه على ديناميكية تلك الذكريات وترتيبها داخل عقله ، تلتقفها أسقف الشخصيات وهالاتهم من عدسات حدقية مُختلفة ، تعبَر عن الواقع المُعاش سالفاً بصورة أكثر شاعرية ، وصقله بالكثير من مُحفزات الذاكرة من مشاعر لاهية وجادة وقاتمة وناصعة على تناقض الجوانب ، وما صاحبها من أحداث توالت على أرض تلك البلدة ، وعن طبيعة حياة أهلها وشخصياتهم القاطنة جوفها وأطرافها ، وما إنعكس عليهم من تأثيرات مناخية للجو السياسي والإجتماعي  .

يهوى " فيلليني " في أفلامه أن يُناقش المسائل الشائكة في حياة مُجتمعه " إيطاليا " عن طريق شبكاته المُتداخلة في تكوين مرساة إنطلاقه ، التي تُحدد توجهاته المُختلفة ومآلاته اللاحقة ، حيث لا يُضمر من التعبير عن تلك الهواجس التي يعيشها بين مجتمعه الفاقد للأمن والحب والمصداقية مع نفسه ، ومع من هم حوله ، وكلها في رحلته الخاصة في البحث عن الايمان الذي يستمد منه أمله المتبقي ، فلا يرتكز على رمزية واحدة ولا قاعدة وحيدة في تشكيل نظرة ذلك المجتمع ، إنما من خلال التزاحم الذي خلقه تكاثر الرموز المُنهالة على رأسه  ، جعلت منه أكثر طواعية للممارسات التجريبية بحقه ، فمنعته من تشكيل رأي خاص به أو نظرة فاحصة لأوضاعه ، وهذا ما سبب لـ " فيلليني " الارهاق في تناول تلك الموضوعات لصده المباشر من مناوئيه من تلك المُستنقعات ، فلا يتوقف عن نقد جِهة على حِساب الأخرى ، وإنما ينصرف إلى صنع جلبة كاملة في ذلك الحقل ، فنراه يضع فِكرة الكنيسة ماثلة بإعتبارها رمز ضريبي أضحى يدفعه الفرد بغية تكفير ذنوبه وأمسى الكاهن بدوره كالموظف الذي يصرف بركاته على وجوه مُرتاديه دون إرادة إيمانية راسخة ولا قولبة دينية تنشل أفراد مُجتمعه من غيبوبته . إنها الحياة التي تناولها ولا زال يتناولها في أفلامه ، عِندما أصبحت الرموز الدينية كالأصنام بلا روح ، ينظر لها الفرد نظرة المُقايضة أو المصلحة المُشتركة لكن بلا روح  .

ولا ينسى " فيلليني " أن يحُطَ بظله على الرموز السياسية والتي تمثلت بالفاشية الراجلة بقدمها على أراضي إيطاليا ، سعياً منها إلى إعادة تدوير حضارة من الإذعان الكامل نحوها ونحو أحلامها الخافتة ، التي أقنعت المُتعاطفين معها بمُستقبل التطور العرقي والإزدهار العالمي  ، بحيث أصبح الموطنون ينزلقون أسفل سُلطة الرب والدين السابقة مُتجهين نحو سُلطة السياسة والأحلام الأرضية في سبيل مُستقبلٍ مُشرق ! ، إنها اللعبة الكونية في عيون " فيلليني " ; إنتقال من سُلطة إلى سُلطة دون سؤال أو فرضية لمنطق الإجابة ، مُجرد مراحل متتابعة لا تفرض منطق الإدراك والوعي وإنما منطق المُصمم لذلك المضمار ! . جميعها مثلت مُنعطفات حادة في الواقع الإيطالي تحت سلطة الفاشية ، والواقع الأوروبي بصفة عامة ، إنه واقع الفٌقدان الكامن في الأمن الذاتي والمُجتمعي والتغريب الثقافي على أوجه مُغايرة ، جعلت من ولاءاته كنقرة زر في إستقطاب طاقاته وبذوره الوطنية مُجتمعة ، شخصياته في ذلك المضمار فاقدة للحاجات الرئيسية في حياتها وتسعى لتعويضها في مطمع الأشياء وإن إختلفت مصادرها .




يُمكن إعتبار فيلم " أنا أتذكر " هو من أفضل إنتاجات "فيلليني " ، نظراً للطبيعة السردية في إيراد الحِكاية ، التي إعتمدها من خِلال إستغلال تقسيم فٌصوله ، وتكثيف حضور شخصياته ، بحيث يمتنع عن تكوين بُطولة أحادية على حساب الحدث ، فجعل فيلمه مدجناً بالأبطال والشخصيات ، وعلى الرغم من إستعارة " فيلليني " المُستمرة للـ" الكرتونية " في حِياكة شخصياته ، والـ " الباروك " في مُعالجة روايته ، و " التجريد " في إسقاط لوحاته ، تبعاً لنظرته التهكمية تجاه ما يحتقر ، إلا أنه ، وبقدرة قادر ، يقوم ببث الروح الانسانية في هالاتها ، فلا نرى واحدة تهوى صعود ظهر الأخرى ، جميعها تعمل داخل نظام واحد وحضور موازي يسع الشاشة ولا يطفو عليها . إنه المنهج " الفيلليني " الذي يُبرز نفسه في كل تحدي يُقدمه كالإصبع المُنتصِف في مرأى مُناهضيه . ناهيك عن إستخدام الألوان الطبيعية وأسلوب " السينما الحياتية " في تنظيم لقطاته وتسارعه في إستحضار الإلهام وفتح باب الإجتهاد لدى مُمثليه ، فلا نرى ضعف ولا وهن ولا فقر في ميزان إخراجه ، نرى فقط سحر ، إنه السحر الذي إعتاده " فيلليني " في مُحاورة مُشاهديه ، جميعها علامات إبتكرها  ليعكس ذِكرياته وطموحاته ورسائله بنفحته الشاعرية الخاصة ، والتي إن قادته إلى المُبالغة أو بعض التكثيف ، فهي بنهاية المطاف تُعبَر عن شغفه لبلده " إيطاليا " الذي أبى أن يخرج منه إلى مسالخ هُوليود ، التي رأى بها تقويضاً للفنان وعرقلة في مسيرته ، وهو فنان يهوى الإستقلالية كما هو الطائر الذي يطير بحرية دون قيود .



وعلى الرغم من إحتواء فيلم " أنا أتذكر " على مجموعة من المُقوضات التي تلتف حول مُجتمع بأسره ، إلا أنه يبقى فيلماً عن الحميمية المُطلقة لذكريات المُخرج الشابة ، في كنف العائلة وحميميتها حتى وإن إنتهت بصُراخ وقِتال ، ومع مُجتمع الكنيسة وطلبه الدائم للغُفران الذي لا يعي فيه سوى أنه حُجرة إستحمام ، تُنظفه من ذنوب لا يعي مقصدها ، أكان يلمس أعضاءه التناسلية أو يتغزل بثديي إمرأة ومؤخرتها ، سوى أنه يحفظها عن وجه قلب ، إلى صورة الشارع وتهافت الناس على تأديتهم لتلك الطقوس الجمعية وإحتفالاتهم وغناءهم المُستمر ولهوهم الدائم . " فيلليني " لا يتهاون في الإسراع نحو إلتقاطه عيون صغاره وشبابه وشيوخه ، ومنظورهم الترويحي عن الحياة ، فلا يسع الشاب سوى النظر إلى مُؤخرة فتاة القرية التي سحرت الرجال بأنوثتها الطاغية وجِنسيتها المُثارة أمام أعين مُعجبيها ، وكأنها الأمل المنظور ، فيراها الجميع كما يرونها بالافلام ; نجمة سينمائية ، وهي الأخرى ترى نفسها كما هي ضائعة في الأفلام بحثاً عن الحب الضائع ، عن المودة المُفرطة من سكبها تجاه من تُحب لكنها لا تلتقيه و تتمنى أن تلتقيه وتمنحه حُبها . هذه هي شخصيات " فيلليني "  يا أعزائي ; دائماً تُعاني من خلط رهيب في مشاعرها الجنسية والعاطفية والدينية والحياتية والسياسية والاقتصادية ، فلا تُفرق بين ما هو نزوة وماهو علاقة ، وما هو إيمان وماهو إذعان ، وهذا ليس ببعيد عن مُجتمع مُغلق على ذاته يعيش إنطوائية خاصة تفرض عليه أسلوب معيشي أولي ، لا يفرض الكثير من سجالاته الداخلية ولا عن حياته في كنف الحرية  ، إنها حياة مملوءة بنفحات البساطة والسجية المُفرطة ، تنضوي على فئة الغلابى التي تأبى بأن تنضم إلى مُشاحنات فِكرية وحُرية إجتماعية تُفضي إلى إنسلاخها عن مُعتقداتها ومُقدساتها البالية ، لا تجد بها سوى هرطقات فلاسفة مجانين ، ترى ماهو مرئي فقط أو ينطوي على مُعطيات ملموسة ونتائج فورية .



في النهاية ، إنه ومن الصعب الحديث عن فيلم نُحبه خشية أن لا نُعطيه حقه ، تبعاً للذائقة اللغوية التي تمنعنا من ترجمة ماهو محسوس إلى ما هو ملموس ومقروء ، وفيلم " أنا أتذكر " هو فيلم من هذا النوع ، الذي لا يُسرد بالكلمات ، وإنما يُصان بالمُشاهدة . هو أفضل فيلم لـ " فيلليني " بنظري ، وهو الفيلم الذي شكل من خلاله الثالوث المُقدس لأعماله : " الحياة حُلوة 1960 ، ثمانية ونصف 1963 ، وأنا أتذكر 1973 " . هذا الرجل كنز سينمائي لا ينفذ ، ويفرض بأسلوبيته دراسة شاملة وبحث مُضني عن معاني الحياة بأنماط تجريدية وكوميدية وشاعرية وشعرية وجميع الأدوات الذِهنية التي تُساعد الفنان على الإندفاع بطلاقة ، فهو من أكثر المُخرجين تدريباً لذهنيتهم في تصفية منابع الإبداع والأبتكار لديها ، فمنذ فيلمه الأول : " أضواء مُغايرة 1951 " وهو يتحدى نفسه ويتحدى العالم ويمشي على ظهره مشية رجل السيرك ، الذي لا يُريد سوى أن يبحث عن سعادة تُغلف وُجوه مُتفرجيه ، ولكن دون أن تستخف بهم .


تحياتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.