الاثنين، 25 يونيو 2018

" المرأة في هوليود " : من الورَعِ إلى الزندقة ! - إستعراض نقدي - مراجعة فيلم Ocean's 8 2018




Ocean's 8 2018 - الثمانية أوشن


•  إخراج : " غاري روس "
•  التصنيف :  أكشن - كوميدي - جريمة - سرقات
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي½★★



لما يزيد على قرنٍ من الزمان مثَّلت الأفلام حضورًا إرشادياً وثقافياً طاغياً ؛ بيد أن المواضيع الشيّقة التي تُحرّكها ماكينات الإعلام كالـ : ( النزاع الروسي – الأمريكي ، الإسلام – الإرهابي ، الحرب العالمية الثانية ، والمحرقة اليهودية...الخ ) كانت ، ولازالت ، مواداً خصبة تتناولها الدراما في مختلف الأشكال والألوان ، وكانت « صورة المرأة » أحد تلك الإرشادات والمواضيع الشيّقة التي تناولتها السينما وتغيّرت وتبدّلت على مدار عُمر شاشتها ، الأمر الذي جعل نقاد سينمائيون ومحللون نفسانيون أيضاً من أن يتتبعوا مراحل تغيّرها وتطورها في الذهنية السينمائية الحاضرة والغابرة ، وما تشكلت عنها من سلوكيات ومواقف تعاكست مع صورة المرأة الحقيقية والتي أثبتت دراساتهم أنها بعيدة كلّ البعد عن ألسنةِ التلفيق والتكذيب المعهودة . فصدحت المقالات والمؤلفات النقدية التي تُترجم تلك الصورة المتباينة والتي تبدّلت مع مرور الوقت بفضل التداخل الحاد من الشبكات الاجتماعية والسياسة المتحكمة في أساليب إنتاجها ولغة تعبيرها بالنسبة إلى كيان المرأة وحضورها العضوي داخل الأوساط المؤسساتية - السينمائية تحديداً ، كالذي تناولته الناقدة السينمائية والناشطة الشهيرة في مجال تساوي الجنسين « مولي هاسكل » في كِتابها « من التبجيل إلى الاغتصاب » من نقد سيكولوجي واجتماعي عن النساء في هوليود ابتداءً بما نسميه بالعصر الذهبي للسينما ( ما بين الأربعينات والخمسينات ) وإنتهاءً بفترة السينما الفضّية ( مابين الستينات والسبعينات) ، وما يليها من فترات لاحقة . فشرعت « هاسل » بمؤلّفها ذاك بتفنيد المغالطات التي أنتجت صورة المرأة على الشاشة ، وأن ما عُرض أمام الجمهور بوصفِها مخلوق جدير بالتبجيل (التقديس) المتمثل بحضور ممثلات مثل « إنجريد بيرغمان » بواسطة تقنيات إضاءة تجعلهنّ يتوهجنَ بالفتنة والتألّق المزيفان ما هي إلا « كذبةٌ كُبرى » تعزز من دونية المرأة أمام الرجل باعتبارها تمتلك خياراتٍ أقلّ بالمقارنةِ معه ، ولاعتقاد راسخ بأنها حالة ذهنية مُعاكسة تفيد بأنّ هنالك حاجة ماسّة للرجل من أجل الارتقاء بالمرأة إلى مرتبة سامية ؛ ذلك أنه أمرٌ لا تستطيع القيام به من تلقاء نفسها ! .

لكن مع مطلع الستينات والسبعينات فقد تناولت «هاسكل» تلك الصورة الحديثة بعد أن تبددت وتطورت وعكست الصورة الحقيقية للمرأة باعتبارها كائن طبيعي تمتلك ما يمتلكه الرِجال من مقومات ، باعتبار أنها لم تعذ ذلك الوجه البريء الذي يحتاج حماية أو  قوامة أو حُضن الرجل الدافىء لينتشلها أو يُقدّسها . فتحولت المسألة ، على ضوء ذلك ، إلى تصوريهنّ عاهرات وأشباه عاهرات ، منبوذات وعاجزات عن التعبير عن مشاعرهن . سكِّيرات ساذجات وحمقاوات ، لعوبات، غريبات الأطوار، وعوانس  للجنس جائعات ، وذُهانيات باردات عاطفيٍّا .

ولا يمكننا إغفال يومنا هذا الذي لم يتخيّل للكاتبة أن نصله عندما تحولت سيادة المرأة من ثنائية القطب إلى أحادية القطب وأضحت تُنافس الرجل باستقلاليتها وعدم التعامل معها كوجه بريء ينشد الحِماية . والفيلم الدنمركي الناطق بالانجليزية : « شبق » أو « Nymphomaniac للمخرج الدنمركي » لارس فون ترير » ، هو خير مثال على تلك الأحادية التي تتعامل مع الرجال وكأنهم شرذمة أمامها ، فإستطاع الكاتب من استصاغتها داخل توليفة مناسبة بابتداع - حتى لو لم تكن صحيحة مئة في المئة . الفيلم مدته الزمنية طويلة : 5 ساعات ، و يُناقش باستطراد الجانب السيكولوجي والفسيولوجي لشبق امرأة مهووسة بالجنس . ولا يسعنى سوى القول بأنه فيلم يصعب على الفرد تحمّل مشاهده القاسية وجرأته المطلقة لوحده ، فكيف أمام شاشة السينما ومع باقي الجمهور؟! .

" نُقطة تحوّل  "

لا يُمكننا إسقاط حقيقة أن كلّ ذلك برز وإنبثق عن بكرة أبيه مع حركات « تحرير المرأة » التي عززت من الدور التقدمي للمرأة في تلك الميادين ومسّكتها ، ولو شكلياً ، عجلة القيادة . بغض النظر عن ما يرزح أسفل تلك الطموحات الواهية من أجندات عالمية مارست جميع أشكال الشذوذ ضد المرأة باسم الحرية والعدالة الجنسية وماتم استغلاله في مجالي التجارة والإعلان ، فجميعنا نعلم أن الشذوذ الأوروبي وابن عمه الأمريكي لم يتركا مكاناً في جسد المرأة إلا وانتهكاه واستثنيا فتحتي منخريها من المُعادلة !! ، وكلّ ذلك عاد على الرجل بالمنفعةِ أكثر من السابق ، فهو الذي تنتهي ، بطبيعة الأحوال ، الأمور لصالحه ( ذلك الحيوان المسعور الرجل الذي خرجت المرأة عن مقاليد سلطته ) !! . لذلك ، من يراقب الساحة العالمية - السينمائية خاصة - يرى حقيقة أن العلاقة التشاركية بين المرأة والرجل قادت أرجلها سابقاً إلى حربٍ باردة ، أما الآن ، إلى مُدمّرة ( إذا شاء الكريم ) . لعلها ، في نهاية المطاف ، تُمهّد الطريق أمام تيارات الثنائيات الجنسية ( أيّ المثليين ) في صعودها وتقلدها مرابط السلطة . فبالوقت الذي اعتبرنا أن مثل هذه الأحوال كانت حلماً عسيراً أو محض تكهنات في سبيل تحقيقها ، باتت الآن واقعاً مفروضاً ويجب التعايش معه أيضاً .

المقدمة الطويلة لفيلم ، لربما يكون فيلماً عادياً أو أقل من ذلك ، أهمُّ عند الكاتب من مراجعته ، التي سوف يتناولها في العنوان القادم . ذلك أن المُعضلة الرئيسية التي تواجه أفلاماً نظيرة عند تقديمها الحضور البديل للرجل هي في حقيقة الأمر تستهدف الشكل لا المضمون ، ويكون التناول الدرامي سطحي لا جوهري ، وفيلم « الثمانية أوشن » لا يختلف كثيراً عن تلك « الفورميلا » ، لأنه ، ومع تقدم سير الأحداث نكتشف أنه لا يدور في فضاء السرقات وتبادل الأدوار وحده بل ينطلق من عُقدة فصام إسمها « الذكورة » ، التي تُواجه جميع النساء اللواتي يَتُقنَ إلى ركل الرجال من أمامهم بشتى الطرق ، حتى لو كُنَّ غير قنوعاتٍ بما يَفعلن . وهذا ما يُعيدنا الى مراسم الفضائح والحركات التي قامت بها نساء « هوليود » مؤخراً بعناوين مثل الـ « أنا أيضاً » والتي إنتهت بحملة « تساوي الأجر » ، التي تتجه إليها « هوليود « بجدية هذه الأيام . ونحن نعلم بأن المسألة غير عادلة بكافة موازينها ؛ ذلك أن المعيار الأساسي في تقاضي الممثل أجره أضحى حسب جنسه ، وليس موهبته ولا مساحة دوره ولا حتى بطولته ، فتخيّل معي أن النجم « ليوناردو ديكابريو » سوف يتقاضى الأجر الذي تتقاضاه « مارغوت روبي » في فيلم « كوانتين تارانتينو » القادم ، لمجرد أنها امرأة ؟! .



" تجربة باردة .. تفتقر إلى حرارة الأصل "

تدور قصة « الثمانية أوشن » حول فريق سرقة مكوّن من ثمانية لصوص من النِساء ، شكّلته « ديبي أوشن » شقيقة « داني أوشن » (جورج كلوني) - الذي عهدناه مع السلسلة الأصلية ، بعد خروجها من السجن مباشرة بعد أن خططت طوال سنين حبسها لأجل القيام بسرقة متجر للجواهر يُدعى « ميت غالا » خلال حفله المقام سنوياً في مدينة « نيويورك » والذي سوف يعرض « عِقد ماسي » تبلغ قيمته حد الـ 150 مليون دولار ، والذي سوف ترتديه لكي تُقدّمه العارضة المغرورة والساذجة «دافني كلوغر» (آنا هاثواي) . فيذهب الفريق بخطته من أجل الإيقاع بـ « دافني » ومن ثم الحصول على ذلك العِقد عنوةً .

لا يُمكننا الشروع بالحديث عن هذا الفيلم بمعزلٍ عن مقارنته بثلاثية « ستيفين سوديربيرغ » الأصلية ، باعتبار أن هذا الجزء ليس منفصلاً عنها بل يُعدُّ امتداداً لعالمها . وكما نعلم أن فلسفة الثلاثية لا تتخذ منحى الفشل في تنفيذ العملية ، لأن النجاح مضمون وهذا ما لا شك فيه . لكن ما يُميّز عملية السرقة والحِكاية ككل هو عدة عوامل مُجتمعة تُبرز جاذبيتها المعهودة ضمن تناغمها داخل نظام هيكلي كامل ، والمتمثل بالعوامل الآتية : الخِطة ، الفريق ، والصراع .

الحديث عن الخطة لا يكتمل من دون إلصاقه مع ضرورة وجود الصِراع ، كلاهما يتشاركا حلقة التجديد والابتكار عند صانع العمل ومنها تنطلق الدراما الفعلية ، لكن فيلمنا هنا يفتقد للأصالة في الأولى وللتحدي في الأخيرة ؛ بيد أن الفيلم جاهد بإبقاء نفسه بعيداً عن أيةّ تضحيات جديرة بالمحاولة ، ولم يخرج عن قوقعته من أجل تقديم منحى مُغاير عن الذي شهدناه سابقاً ؛ سواء كان في الثلاثية السابقة أو بأفلام السرقات بشكلٍ عام . ذلك أن الخُطة تسير بمجرى سلس لا تشوبه حفريات ولا تُعيقه منعطفات ولا تواجهه تعقيدات - كما هو على المُخطط كما هو التنفيذ . وبذلك ينتهي الفيلم إلى فصل ثالث يختزل ثلاثة التواءات لا ضرورة درامية من حدوثها ، ولأسبابٍ عدة ، كان أولها : أفقدت الفيلم استقلاليته التي كان من الأفضل أن تُبعده عن أي صراع نمطي مبني على الجنس ، من خلال انتقاله إلى انتقام شخصي يعزز من تلك النظرة المريضة والتي تفضي بجوهرها إلى إقصاء الذكورية المهيمنة . ثانياً : كان هنالك عضو جديد تم الاتفاق معه في الخلفية من قبل « ديبي » دون علمٍ من باقي الفريق وجرت العملية بمنأى عن الكشف عن هويته ، مما يقودنا إلى التباس تعجبيّ : ما إذا كان أعضاء الفريق (المفترض بأنهم أذكياء) يعلمون ما كانوا يفعلونه طوال الوقت أو حتى سبب وجودهم هناك ! . ثالثاً : في الوقت الذي تمتنع به « ديبي » من إقحام أي عنصر ذكوري في الخِطة إلا أننا نكتشف في نهاية الأمر أنها طلبت يد العون من عضو سابق في فريق الرجال من السلسلة السابقة لأجل القيام بتنفيذ مهمة على هامش العملية الرئيسية . الأمر لا يتعلق بما إذا كان هذا الحدث يهدف إلى شرعنة وجود الفيلم وتأكيد انتماءه لأصول الثلاثية السابقة من عدمه ، بل بواقع أن الفيلم عندما قرر اللجوء إلى البديل النسائي فإن الغاية محكومة بمقتضيات هذه الفِكرة وليس بالتخلي عنها ، ولو جزئياً ، من أجل إضافة صدمة لا حاجة لها سوى أنها تنشد الحميمية المُفتقدة بغياب الجانب الذكوري ! . لأنه في هذه الحالة لن يستطيع الفيلم من أن يصبو إلى طموحاته ، ولو بضعاً منها .

لكن ، ودون الخوض في أحداث الفيلم كاملةً كي لا ننزع فتيل إفساد المتعة لدى الاكتشاف ، هنالك أمر لا بُدّ من ذكره ، ألا وهو المكان الذي تتم به عملية السرقة . إذا ما عُدنا إلى أحداث الفيلم الأول من السلسة السابقة ، نجد عندها أنه تم تصويره في مدينة « لاس فيغاس » ، التي لم تكتفي بحضورها العضوي الجامد وإنما شكلت حضوراً درامياً فاعلاً ، بأجواءها الصارخة والفاضحة التي لا تضمر فيها الرذيلة نواياها ، فاستطاعت من أن تعزز جنون وجرأة العملية ومنها أضافت أجواء مستعرّة بقدر ماهي ممتعة وتستطعم لذة الانتصار على تلك الحفنة من أصحاب الأموال الأثرياء الذين لم يتنصلوا من عدسة « سوديربيغ » المحمومة بالاحتقار والسخرية من رأسماليتهم المقرفة ، فاستطاع من أن يرسم نظرات الازدراء على وجوه المشاهدين ، تحديداً عند نظرهم إلى وجه الممثل المخضرم « آندي غارسيا » ، وقام بتحويلها إلى عاطفة تجاه اللصوص فأضافت بدورها شرعية أخلاقية تجاه عملية لا شرعية . بعكس هذا الفيلم الذي تدور أحداثه الباردة بين أبنية « نيويورك » الضيّقة والمزدحمة بالعامة والألوان الطبقية المختلفة ، بحيث لا تُتيح لنا الاهتمام بمناخ السرقة ولا استعطاف يناط بالسارقين جراء سرقتهم من جهة لا ندرك ملامحها الدرامية .



" شخصيات باهتة .. مظهر بدون محضر "

طاقم التمثيل يمتلك أعلام مُضيئة ، كان على رأسهم « ديبي أوشن » ( ساندرا بولوك ) الآنف ذكرها سابقاً ، التي تقتسم القيادة مع صديقتها « لو » (كيت بلانشيت) ، وتؤدي الأخيرة دور صاحبة « حانة « في الضواحي ، ويبدو أن لها باع كبير في النصب والاحتيال على الزبائن ، بالإضافة إلى باقي الأسماء البرّاقة مثل « ريحانا »، « سارة بولسون » ، « هيلينا كارتر » والجميلة « آنا هيثاوي » . لكلّ واحدة منهم بالطبع مهمتها الُخاصة والمرسومة مسبقاً من قبل « ديبي » . بحيث لم توفّر الأخيرة دقيقة من وقتها بعد خروجها من السجن حتى انصرفت مباشرة نحو تشكيل هذا الفريق اللامع من الخارج ، والباهت من الداخل ! ؛ ذلك أن افتقاد الكيميائية بين أعضاء الفريق هو انهيار كامل في العامود الفقري في الحِكاية ، وكفيل بنشوء حواجز باردة مع المُشاهدين مما يجعل من اهتمامهم بشخصية بعينها أمرٌ مشكوكٌ فيه . على عكس شخصيات السلسلة الأصلية الذين كانوا يشكلون سيمفونية في الجنون والعته ، رغم تباين صفاتهم ، إلا أن التناغم كان سيد الموقف واستطعنا من الولوج إلى علاقاتهم المتقاطعة ، ليس داخل العملية وحدها ، بل بخارجها أيضاً . أما هنا ، فيقتصر وجودهم داخل العملية فقط ودون حضور بارز بحجم البروز في أسماء وأجسادِ كلٍّ منهم . لذلك لاحظنا أنه فيلم صُنع ليؤدي غرضه كمعرضٍ للأزياء تُعزز شهرته الأسماء الكبيرة فقط . وتحديداً بالنظر إلى كم الأسماء الهامشية وشخصيات لا علاقة لها بالحكاية كانت متواجدة دون دواعي حقيقية ، سوى استكمال لفعاليات العرس النَسوي الهوليودي .

كان من الأولى تنسيب مهمة الاخراج إلى « إمرأة » لعلها تُضفي نوع من الهوية إلى الفيلم ، وليس مُجرد حفنة من النِساء يؤدينَ أعمال الرجال . لكن ، وعلى كلّ حال ، « الثمانية أوشن » ليس بالفيلم السيء على الإطلاق ، لأن مُخرجه « غاري روس » قام بالاحتفاء ، ولو بالقليل ، من صورة « سوديربيغ » الأصلية وجاهد باستعادة جزء من روحها من خلال تحرير لقطاتٍ تُقارب تلك التي عند الأخير ، فقام بضبط إيقاعه بشكلٍ جيد بحيث لا يبتر من رؤية السلسة وأجواءها العامة ولا يقطع دابر الأمل من الحصول على جزء مستقبلي يتعلم من عثرات سابقه . لكن ، وبالرغم من أنه فيلم لا يُمكن أن تمرّ به لحظة ملل واحدة أو تكسر قاعدة الترفيه المصنوع من أجلها والمدعوم بحضور ممثلات جميعنا نُفتن بالنظر إليهنّ دون أن يتلفظنّ ببنس ِ شِفه ، إلا أنه حقيقة ، لن يتمكن من إقناعك كفاية أو يجعلكَ راضياً على الذي يحصل أمامك ، وخصوصاً أنها أجواء ، جميعنا نعلم بأنها مفتعلة ومعلّبة وأقرب إلى السذاجة والتنميط .


تحياتي


الأحد، 17 يونيو 2018

ديناصوراتٌ مهجّرة وبشرٌ بلا مبادىء ! - مراجعة فيلم Jurassic World: Fallen Kingdom 2018



Jurassic World: Fallen Kingdom 2018
- العالم الجوراسي : المملكة الساقطة

•  إخراج : " خوان أنتوني بايونا "
•  التصنيف :  أكشن - مغامرة - خيال علمي - إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي★★



أكتبُ هذا المقال مُدركٌ لحقيقة أن العملية أصبحت روتينية في الحديث عن هذا النوع من الأفلام : فأذهب لكي أشاهده مُستبصراً لما ستؤول إليه أحداثه ، راسماً حدود مستواه الذي سيكونه ، ومن ثم أخرج ، كالعادة ، منزوع الخاطر، فأشتمه تارة وألعنه تارةً أخرى . أمر غريب لا أفهمه ورُبما لا أريد أن أفهمه ، بيد أنني أعتبره إجراء غير صِحي في العزوف عن مشاهدة هذا النوع بالتحديد ، ولاعتقاد راسخ بأن الفضول أو لنسميها المُواكبة لما يُستجد من حولنا كبشر هو ما يثير لدينا الرغبة في اكتشافه وليس ما يتعلق بمكنون ما نُفضله على عدمه . لذلك تدفعني الرغبة المُلحة دائماً و " سينيفيليّتي " تالياً إلى مُشاهدة كافة الأشكال والأطوال من الأفلام ، والذي أمقته قبل الذي أعشقه .

لكن على المستوى العملي في تناول الموضوع ، فإنه لا يُخالجني شك بأن الهوّة حاضرة وشاسعة في السينما اليوم ، كانت ولا زالت الحد الفاصل بين ما يرتاده المشاهدون وبين ما يَستحق الارتياد . ونابعة ، بالأصل ، من ثقافة راسخة تفيد بعدم اعتبار السينما ثقافة حتى ! ، بل مُجرّد ملهاة ليس إلا ، وتتناسى أن المتعة لا تتعلق بما هو ترفيهي فحسب بل بما هو جمالي وحقيقي ونابض بروح فنية رفيعة . نحن لا نريد أفلاماً مثل « العراب » لنصل الى قمة الهرم الجمالي ، ولا من نوع « الشخصية المتشظية في الأروقة المتصدية !! » ، لكن ما نريده هو متطلبات التجربة الرئيسية والتي تبتعد عن السخرية المباشرة من المُشاهد ، ولا أعتقد أن المشاهد العادي كان أم المتمرّس يرضى بأقل من : « أفاتار » لـ « جيمس كاميرون » و « فارس الظلام » لـ « كريستوفر نولان » كأمثلة مشهورة على الثقافة الرفيعة ، لكي لا يظنّ عزيزنا القارئ أننا نصطاد في الماء العكر ، ويُسيء الظن عند سماعه لمصطلح « ثقافة » بأنه التناول الرتيب والممل للمادة الفنية . لكن ما نصبو إليه حقيقةً من سطورنا السابقة هو ثقافة الصورة وما تحتمله من مضامين تجذبك إلى آفاق أوسع من تلك الضيّقة التي تحاول الأفلام النظيرة في تناولها وتدمير عقولنا بها .

لذلك باتت الأعمال الرديئة تطغى بترفها وغدقها ، الخاوي من الداخل ، على الأعمال الثقافية ذات القيمة الفنية والجمالية الرفيعة والتي أمست محلّ شُبهة في صالاتنا ، فأصبحنا نُشاهدها كبصيصِ من الأمل على مواقع القرصنة ، متلصصين بهاته الطرق الغير مشروعة والتي ، للأسف ، يُمكن أن تعودّنا ، لاحقاً ، على فُقدان لذة التجربة في محراب قاعة السينما . لكن على الجانب المضيء ، فإن القضية قد بُتّ في أمرها سابقاً ، والمشاهدون ( العاقل منهم ) قد وعوا لحقيقتها جيداً ، بل وأمسوا يُعبّرون عن امتعاضهم منها بتوصيفها بـ « التجارية » ، على أقلّ تقدير ، باعتبارها لغة حضارية وسيطة تضمر الشَتيمة و قذع اللسان . صحيح أن ذلك المُصطلح أضحى حاضراً بين المواضبين والمتمرسين منهم ، لكنه لا ينزع ، بأيّ شكلٍ من الأشكال ، خاصية أن تكون فنية من عدمه ، فالمسألة بطبيعة الأحوال تتعلق بما إذا كان الفيلم ذو قيمة فنية رفيعة أو ذو قيمة فنية رديئة .

يُعيدني الحديث إلى عبارة قالها المُنتج الهوليودي « صامويل غولدوين » : " إن الفيلم لا يُصنع من أجل توجيه الرسائل . وعلى من يريد إرسال رسالة أن يذهب إلى مكتب البريد مباشرة " . عبارة ساخرة ، نعم ، لكنها آتت أُكلها ثماراً ، وفاضلت الترفيه على حساب التثقيف . رُبما لم يعش السيد « غولدوين » عمراً كافياً ليشهد أن ديناصورات السينما اليوم باتت بهزّة واحدة تُطيح بالرسالة مع ساعيها وتسحب بطريقها مكتب البريد أيضاً ! . لكن عبارته بقيت حيّة باعتبارها من أكثر العبارات صواباً وتحقيقاً لنبوءة من عصر القاذورات الذي لا يحمل مكاناً للنظافة فيه . وها نحن الآن أمام عمل آخر ، لا يختلف عن سابقه أو نظيره أو لما بعده ، ويطبع القذارة على صباحه ، بل وتعود عليه بالدولارات أيضاً ( تخيل؟) .


يحكي الفيلم قصة الديناصورات القاطنة على جزيرةٍ تدمرّت قبل ثلاثة سنين إثر اندلاع فوضى قادت إلى « إهتياج » أصاب تلك الديناصورات ، وخلّف ورائه الكثير من الضحايا والخراب والخسائر المادية ، والآن هي على شفى بُركانٍ ضخم يُهدد استقرارها ويضرب مضاجعها الآمنة . فتسعى في سبيل إنقاذها المنظمات الناشطة في حقوق الحيوان ( أو الديناصورات ) والتي تعتمد مصادر تمويلها على جمع التبرعات من رؤوس الأموال الثرية ، وفي الوقت ذاته تسعى رؤوس الأموال تلك والمُتمثلة برجال الأعمال والعصابات والشخصيات المرموقة إلى استغلال الديناصورات تجارياً من أجل تلبية مصالحها المادية والاستفادة من برامج هندستها الوراثية من أجل استنساخها وصنع المزيدٍ منها . فتذهب « كلير ديرينغ » (برايس دلاس هاورد) بعد أن أصبحت مديرة لإحدى تلك الجمعيات إلى جمع التبرعات من شخصية ثرية لاسترجاع الديناصورات من تلك الجزيرة ويتطلّب مسعاها ذاك مُساعدة من حبيبها السابق ومروّض الديناصورات « أوين غريدي » ( كريس بات ) ، ليقع « كلير » و « أوين » داخل مؤامرة تعُرضهم للخطر الواقع بين محاولاتهم في إنقاذ تلك المخلوقات وبين صدّهم لبطش وخيانة تلك العصابات .

ثلاثة سنوات ، هي الفترة الزمنية التي مضت على مجزرة « الحديقة الجوراسية » في الفيلم السابق « العالم الجوراسي » - على الجِهات المُنتجة إعادة النظر في ما يخص عنواين هذه الأجزاء والتفريق بين ما هو حديقة وماهو عالم ! – بعد أن قامت تلك الديناصورات بالتهام البشر وهضمهم داخل أمعائها الدقيقة والغليظة (جزء ذهب مع التبرّز وآخر مع التبوّل . والآن ؟ ..باتوا ، بحمد الله ، سماداً يُغّذي الأرض ! ) . يعود الأمر مجدداً ليدور في حلقة مُفرغة من السذاجة والتنميط المكرر ، لكن هذه المرة ليناقش قضية خاسرة بالفعل ، تُبرز النتوءات الفاضحة لضعفها وغباء القائمين عليها : فالإدعاء الكاذب بضرورة حِماية تلك الديناصورات من بُركانٍ يُهدد الجزيرة وحياتها ، ما هو إلا إغفال متعمّد لحجم الخسائر البشرية الفادحة في الجزء الماضي ، و إسقاط لقيمة الانسان أمامنا كمتفرّجين ( لنعتبر أن أطفالنا هم الغالبية ) واستسهال في تناوله . هنا ، لا نشاهد حقوق إنسان ولا تظاهرات مُجتمعية مُناهضة ولا حتى ملفات ، لم تُغلق بعد ، لقضايا قام برفعها الأهالي الذين فقدوا أبناءهم بين فكوك تِلك الديناصورات ، لكننا نرى بدلاً من ذلك جمعيات حقوق الحيوان تدلف برجالاتها من أجل ديناصورات مفترسة ( ما إن تلحظ بشري إلا وهو قابعٌ في جوفها ) !! . فكم هي الحقارة التي وصلت إليها الإنسانية بأن تستخفّ بقيمة الإنسان وفي المقابل توفرّ حِماية لهاته الحيوانات الفتّاكة وتؤمّن ملجأً كي يأويها ؟! . أضحى الإنسان بلا مبادئ ، مُجرّد أموال وأرقام تتحكم في مسرى حياته ، كما هي السينما اليوم باتت تتحكم بها هذه الأعمال الرديئة وتفتح أبوابها لأسنان تلك الديناصورات .


لا تحتاج هذه الأفلام الكثير من الكلام ، فلا يمكن الحديث هنا عن السيناريو مثلاً ، لأنه شبه معدوم : الشخصيات لا تُبنى بشكل واضح المعالم أو مكتمل الأبعاد أو تحمل رمز خطابي في البطولةِ والمروءة ، وللحظة ما تظن أنها سقطت سهواً في معمل المؤثرات البصرية ، فأصبحنا نراها مُجرد « بكسلز » متحركة لا تُغذيها روح بشرية ولا تغلفها هالة من الجاذبية . والأمر ينطبق أيضاً على القابع معظمها في المنطقة الداكنة ، أي « الأشرار » : الشخصيات الشريرة كثيرة في هذا الفيلم ، تُدركها من قبل أن تتلفظ أوّل كلماتها وتعي أن نهايتها بين أسنانِ أحد الديناصورات . أما في الحديث عن الإنجاز الإخراجي فلا يُمكن أن نصفه إلا بالتقوقع والاستسهال ، وتحديداً عند الحديث عن مهمة مُسندة إلى المُخرج الاسباني « خوان آنتوني بايونا » الذي عهدناه مع أفلام جيدة ، مثل : « المستحيل » و « وحش ينادي » . نحن نعلم أن المُخرج في هذه الأعمال لا يمتلك سيادة تامة على شغله وأنه ينتهي بطبيعة الأحوال في التنفيذ على خارطة عمل جاهزة ، لكن على أقل تقدير يُمكن للمخرج أن يفرض بتلقائية بعضاً من بصماته ، لكن هنا ، وبالرغم من اشتغاله على التكوين البصري كما في أفلامه السابقة من حيث الأماكن الداكنة وأجواء الرعب القوطية ، إلا أنه لا يُمسك بتصاعد متين للإيقاع كالذي ولّده « ستيفن سبيلبيرغ » في الفيلم الأصلي ، ولا يمتلك القدرة على امتصاص أداء جيد من ممثليه ، سوى دفعهم باستمرار نحو الجري طوال الفيلم دون غاية ، مما يجعل من اهتمامنا بما يحدث أمراً مستحيلاً . صحيح أن هنالك لحظات شد وتوتر وإثارة وكثيرٍ من الدمار والخراب والأشلاء المتطايرة قام بالتقاطها بعناية ، إلا أن أغلبها لا يصمد أمام سذاجة توليفها الدرامي ، والتي يخضع معظمها لعنصر « اللحظة الأخيرة » : فتاة يطاردها ديناصور فتذهب لتختبئ في حُجرةٍ ما لكن عندما تذهب لتغلق الباب عليه ، يتعطل الباب وتحاول قدر المستطاع في إغلاقه فلا تستطيع ، حتى يقترب منها الديناصور ويُلامس مقبض الباب فيُغلق بسهولة ( بقدرة قادر ! ) . النكتة ليست هنا ، بل بحقيقة أن الباب الصغير منع ديناصوراً بحجم البناية من أن يُدمره ؟! . تاريخ السلسة ظُلم ، عندما تم تصوير معظم مشاهد هذا الفيلم داخل أماكن ضيّقة .

هناك اعتقاد سائد يفيد بأن المنطق هو أن لا نبحث عن المنطق في مثل هذه الأفلام ، لكن في الحقيقة إن ما يرفع من اهتمام المتفرج تجاه ما يشاهده ، هو مدى التحدي المصاغ أمامه ، والذي يحمل حلّ المعادلة الصعبة ويحمل جواب السؤال الأزلي : يا ترى ، ما الصورة التي سوف ينتهي عليها الحدث ؟ ، فيضع العقل التحليلي في محنة تؤخر من إُدراكه للخطوات القادمة . وفي حالتنا هنا ، وبدون حتى أن نُشاهده ، سوف نُدرك حقيقة أنه صُنع ليمهّد لفيلمٍ آخر - تم تحديد موعده مسبقاً ليعرض سنة 2021 . ثم إن ما يثير القرحة أكثر فأكثر ، أنه وعلى الرغم من وقوع قدر هائل من الهزات الأرضية ومناطحة الشخصيات لأجسام تلك المخلوقات ، إلا انه لم يؤثر في أبطالنا ( حفظهم الله ) أية إصابات ولم يُرزَقوا بأية خدوش فاهية على السطح ! . فأيّ منطق نريد أن نؤجله هنا ؟ وهل بقي هنالك منطق أو حتى خيال يُحترم في هذه الأفلام ؟! .


تحياتي

الأربعاء، 6 يونيو 2018

حلول وحدود بديلة في السينما - مراجعة فيلم Unsane 2018



Unsane 2018 - جنون

•  إخراج : " ستيفن سوديربيرغ "
•  التصنيف :  رعب- إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي★★★



في الوقت الذي يسعى من خلاله مُخرجون كِبار أمثال : « كوانتين تارانتينو » ، « بول توماس أندرسون » ، ومؤخراً «كريستوفر نولان » مع فيلمه التجريبي « دنكرك » ، إلى أن يُحافظوا على الإرث السينمائي في ميادين تخليق الصورة السينمائية ووسائل عرضها على الشاشات بأعلى المواصفات وأضخم المعدّات ، والداعم أغلبها لتقنية الـ «70 ملم »  الخاصة بالشريط السينمائي الدوّار ، لما تملكه من قُدرة على توليد صورة سينمائية ساطعة في الوضوح وعُمق بؤري عالٍ في الدقة . والمصحوبة بجهود مُبتكريها ، الذين سعوا في الماضي من أجل الوصول إلى أعلى درجاتٍ من السحر والجمال اللذان تخلقهما التجربة السينمائية وما يتبعهما من تماهٍ يحصل مع المُشاهد بشكل يتفوق على أيّ وسيط مرئي آخر . يأتي على النقيض تماماً ، صُناع أفلام ، عصريون ، يتناولون الأمور من موقع الشد العكسي لتلك التيارات الباحثة عن الجماليات ، وينهضون بضرورة تحقيق الأفلام بصورة أكثر عملية وواقعية لظروف العمل عن طريق ما هو مُتوفر من تِقنيات بسيطة و سهلة التناول في الوقت ذاته ، بحيث تفرض بدورها وِئام حقيقي بين ما تُقدمة من جودة وإنتاجية عالية وبين ما تفرضه الميزانيات المحدودة من تحديات صعبة تواجه المبدع صانع العمل .

فيلم « جنون » الذي قام مُخرجه بالوقوف على قراراتٍ صعبة قادت ، بمهنيته العالية ، إلى تصوير فيلمه بالكامل بواسطة كاميرا هاتف : « Iphone 7 Plus » دون استخدام أيّة معدات رقمية « ديجيتال » مُساندة ، هو مثال صارخ على هذا النوع الذي يكسر القواعد الكلاسيكية في سبر مفاهيم التخليق الصوري في السينما وحاجتها إلى تِقنيات لا يصلح الشروع في العمل إلا بواسطتها ، وينصرف نحو استثمار المُعطيات المتوافرة أمام صانع العمل من أجل تحقيق مشروعه السينمائي واستمراره في مسعى طموحاته .

مُخرج الفيلم « ستيفن سوديربيرغ » الذي عاد مؤخراً من تقاعده العام الماضي مع فيلم « لوغان لاكي » ، بُطولة كلٍّ من : « تشانينغ تاتوم » و « دانيال كريغ » ، وبميزانية مُتوسطة تحمل فلسفة الأفلام المُستقلة . يعود بعد أن أدار ظهره إلى استديوهات « هوليود » قبل أربعة أعوام عقب عرض فيلمه « أعراض جانبية » ، على خلفية مشادّات إبداعية بينه وبين جِهات الإنتاج إزاء هيمنة تلك الأستديوهات على المناخ السينمائي وتقويّضها من حُريات المبدع وفُرص اجتهاداته التي يبغى في الوصول إليها أو تحقيق جزء منها ، فلا ترى فيه سوى موظّف يُشرف على تلك العطاءات التي تفرضها وتقتسم أرباحها فيما بعد . حيث صرّح سابقاً : "أسوأ تطور في صناعة الأفلام خاصةً في السنوات الخمسِ الماضية هو مدى السوء الذي وصلته مُعاملة المخرجين" . وأضاف : " أصبح الأمر فظيعاً بالطريقة التي يقرر بها الأشخاص الذين يمتلكون الأموال بأنهم يستطيعون أن يندفعوا في تلك الصنعة ويُهيمنوا على جميع مُخرجاتها ، وأستغرب من حقيقة أن المُخرج يُلام دائماً ويقف بوجه المدفع أمام تلك الجهات على إعتبار أنه يعمل بطريقة لا تتوافق مع ميول الجمهور ، ويتناسون بأن المُخرج ، في يومٍ من الأيام ، كان ينتمي إلى هذا الجمهور ".


" سينما عصرية تتناول موضوع عصري  "

رغم أن البُطولة في هذا النوع من الأعمال يتم تنسيبها مباشرة إلى مُخرج العمل في المقام الأول ، إلا أننا لا نجد ضرراً من التعريج على المواضيع الدرامية التي يتناولها ، ونحن هنا بصدد الحديث عن قضية مهمة تُدعى بـ « التحرش الجنسي » الذي يواجه المرأة في شتى مناحي حياتها العملية كانت أم الاجتماعية ، وهي قضية في الأصل تم اعتمادها مؤخراً بتوصيف الـ « شائكة » بالنسبة إلى الغرب الهوليودي ، تحديداً ، عندما تكاتفت الأيدي النسوية وخرجت من عباءة الخوف حاملة معها شعارات رنانة مثل : # MeToo  تصدح في الأرجاء وتشجب المنابر الإعلامية والأبواق السياسية ، بعد أن كانت ترزح رُعباً وصمتاً أسفلَ سُلطةٍ من الرجال المُتنفذين والشخصيات البارزة في مجال الصِناعة . لذلك قد يجد عندها نُقادهم مادة كتابية مُثمرة ، أما نحن فنكتفي بالقشور المُهمّة .

يتناول الفيلم أحداثه شخصية « سوير فالانتين » ، وهي امرأة شابة وعاملة تسكن في مدينة « بوسطن » الأمريكية وتعمل هناك كمحللة بيانات في مصرف بنكي ، وهي بعيدة عن والدتها القاطنة في مدينةٍ أخرى . تعيش « سوير » حياة على أعتاب ماضٍ قاسٍ يحمل تخوّفاً من شاب يُدعى « ديفيد روسل » الذي كان يُلاحقها ويترصدها بين الفينة والأخرى طلباً لحبها وبغية حصوله على قلبها في نهاية المطاف ، فيتشكل لديها ذلك النوع من الهواجس والاضطرابات المُصاحبة لها في أيّة علاقة جديدة تلِجها ، فترتسم صورة ذلك الشاب في كلّ مكان تقصده . ولأجل التخلص من تلك الكوابيس قامت باللجوء إلى مُستشفى الأمراض النفسية في مدينة « بنسلفينيا » يُدعى « هاي لاند كريك » ، من أجل القيام بفحص سريري عن طريق دكتور مُختص ، فتصطدم مع حقيقة أن المُستشفى أمسى يحتجزها رغماً عن إرادتها ، ولأسباب مُبهمة ، لتتفاجىء فيما بعد أن ذلك الشاب أيضاً يعمل ممرضاً هناك ، وتبدأ من عِندها المأساة الحقيقية في مُواجهته وصدّها له والهروب من مطارداته المستمرة ، من جهة ، وإثبات سلامة صحتها النفسية والذهنية أمام إدارة المُستشفى من جهةٍ أخرى .


" إستكمال لا استحداث .. إنتعاش لا اندهاش "

لا يُمكننا القول بأن عمل المُخرج ينتمي إلى المدرسة التجريبية أو اعتباره « سينما طليعية » بأيّ صورة ، ذلك أنه يفتقر إلى مناخ الحقل من أجل التجريب . هناك أمثلة كثيرة يُمكن إسقاطها على تجارب سابقة قامت بإختزال تجربة الكاميرا البسيطة : « بلير ويتش بروجيكت » ، « ريك » ، « بارانورمال آكتيفيتي » ، « كلوفارفيلد » ، والعديد غيرها ، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني وما يُحاذيه من تطور تكنولوجي ساهم في رفد السوق العالمية بمعدّات حديثة وسهلة التناول - مسألة وقت ليس إلا . وعلى أساسه ، تنطلق الرؤية الفعليّة لهذا العمل من حاجة صانعه الملّحة لما تعرّض له من ضغوطات اقتصادية أكثر من اعتبارها أهداف مخبريه بحتة تُقدم رؤية مُغايرة للأعراف السائدة أو تخرج على التقاليد المُتعامل معها في كواليس الإنتاج ، سواء تلك التي على مستوى السرد أم على مُستوى التكوين . فالفيلم يفتقد للأصالة من باب أوليّ : الحبكة تقليدية والسرد خطي والأحداث نمطية ، وفي كثير من الأحيان يتوجب عليك وضع المنطق في دُرجٍ ومن ثم إغلاقه ، ثم إنه لا يمتلك تعرّجات أسلوبية ولا قراءات سفلية بعينها تُبرز من خلالها منظوراً صلباً للموضوع الراهن أو تقديم مُعالجة غير مألوفة . أما من ناحية التكوين فالعناصر ذاتها : من حيث تصميم الكوادر وإدارة المُمثلين وزوايا إلتقاط الكاميرا وفلسفة المونتاج ، فلا ترتسم على مخارجه أية نبوءة لأنماط فنية ترتاد آفاق جديدة .

لكن على الجِهة المُقابلة ، ودون إجحاف يمكن أن يُسيء فِهم سطورنا السابقة ، يقف هذا الفيلم أمام تحديات واجهت المُخرج وتمثلت كالشوكة في خاصرته : من حيث الحاجة الماسّة إلى أسلوبية جادة من أجل إخضاع جميع عناصر التكوين السابقة التي عملت بسلاسة مع الوسائل التقنية المُتقدمة من كاميرات ووسائل إنتاجية تقليدية ، وحصرها هذه المرّة داخل إطار الشاشة في الهاتف الصغير ! . لأن الفيلم في هذه المواقف يحتاج إلى صياغة دقيقة وحساسة ، أكثر من اللازم ، من حيث تصميمه لزوايا التقاط الكاميرا وتعيين الإضاءة المُناسبة وحركتها وقدرتها على إضفاء قيمتها التعبيرية الخاصة بعيداً عن استئنافها داخل غُرفة المونتاج ، ذلك أن ما توفره الكاميرات الضخمة من إمكانيات كبيرة تُساعد العمل المونتاجي على سد الثغرات في الإضاءة ومرشحات اللون ، لا توفره كاميرا الهاتف في أفضل الأحوال ، لذلك وجب أن يكون العمل الحقيقي في خِضّم العمل الميداني أثناء التصوير وليس ذلك الذي يقبع في مراحل إنتاجية لاحقة . فكانت النتيجة مُبهرة وصائبة في تحقيق غاياتها ، بحيث جعلت من الصعب إدراك حقيقة أن ما تم عرضه أمامنا ما هو إلا مجرد عمل الكاميرا في الهاتف المحمول . رُفِعت القُبعة .


أما في الحديث عن الأداءات التمثيلية فنحن أمام موهبة قوية وساحرة وقبل ذلك كله ، ناضجة ، تُدعى : « كلير فوي » ، استطاعت من تقديم شخصية « سوير فالانتين » برفاهة عالية تنضح من قدرتها على تقديم ألوان تجسيدية تدرجت ما بين التمكّن والإجادة ، ومن ثم استطاعت التأرجح بأريحية في تقديم انطباعاتٍ تعبيرية مُختلفة داخل المشهد الواحد . « كلير فوي » التي شهدناها مؤخراً مع مسلسل « التاج » الذي تم عرضه على شبكة « نتفلكس » ، لا يفصلنا الكثير عن إمتثالها أمامنا مجدداً في «أكتوبر » المقبل من خلال دورها في فيلم « أول رجل » ، حيث ستظهر بشخصية «جانيت آرمسترونغ » : زوجة « نيل آرمسترونغ » ، الذي يؤديه النجم « رايان غوزلينغ » أيضاً بقيادة إخراجية كاملة تسلّمها أصغر شاب حامل للأوسكار : « داميان شازال » ، الذي شهدنا معه في السابق طفوح في المواهب المُساندة ومقدرته على تتويجهم منصات الترشيح الأوسكارية باستمرار ، وليس بالبعيد أن نشهد ترشيحاً لهذه الموهبة في أوسكار العام المقبل ، لأن ما أنتجته حتى الآن يفيد بأنها قد نضجت فنياً .

« جنون » هو إنجاز آخر يُضاف إلى موسوعة « ستيفن سوديربيرغ » المُتميزة ، لأنه عمل يُثير الإعجاب والاحترام ، ويلزم حضور صانعه كسينمائي حُرّ ، لا تُقيّده عراقيل ولا تُرهِصه ضغوطات ، وفيلمه هذا خير دليل . بيد أنه يعكس تجربة ناجحة تُعيد النظر في الاعتبارات عند بعض صُناع الأفلام المتواضعين كانوا أم المنبوذين : من يتوانون أمام المُعوقات التي تحول بينهم وبين تحقيقهم لمشاريعهم الفنية  . وكلّ ذلك من أجله النهوض من براثن الحسرةِ والانهزام و تحقيق إنجازات جريئة وأساليب جديدة وبتمويلات منخفضة الميزانية تُتيح لهم القدر الأكبر من استثمار الطاقات الإبداعية المتجددة ، وتُكافح بدورها العديد من تلك الأفلام الباهظة في الثمن والميزانية ، ما إذا قارنّاها مع أفلام تمتلك نفس المستوى لكن بميزانيات مُنخفضة  .


تحياتي

-----