السبت، 28 يوليو 2018

"قِطعة كلاسيكية من الزمن الغابر":عودة إلى سينما العراقة وهيبة الخطَر - مراجعة فيلم Mission: Impossible - Fallout 2018








Mission: Impossible - Fallout 2018 - المهمة المستحيلة - السقوط


•  إخراج :  كريستوفر مكواير
•  التصنيف :  أكشن - مغامرة - إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ½★★★★ (ممتاز)


يمثل فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة - إذا ما فكّر «توم كروز» فيما أفكّر! - التي بدأت عالمها السينمائي قبل نحو 22 عاماً على يد المخرج الأمريكي «برايان دي بالما» بَعد أن كانت تُعرض على شكل حلقاتٍ تلفزيونية لمسلسل يحمل نفس الاسم بدأ مشواره هو الآخر في منتصف الستينات من القرن المنصرم وإنتهى في مطلع التسعينات؛ فترة التأزّم الحاصل بين المعسكرين الشرقي والغربي :«روسيا» و«أمريكا» أو فيما عُرف بمصطلح «الحرب الباردة» ، وقت ما نشأت هذه السلسلة في خضمّ تلك الأحداث، وما لحقها، على أساس عِدة عوامل - بعضها مَناخي سياسي والآخر ترفيهي هروبي - ساهمت في إنجاحها العريض بين الأوساط الجماهيرية واستمرت إلى يومنا هذا في تقديم المَزيد من تلك الحميمية المفتقدة التي تضخّها دماءاً جديدة في أجساد معجبيها.

كلا العالمين :التلفزيوني والسينمائي اهتديا، ولازالا، إلى مرجع روائي واحد خَطّه الكاتب والمؤلف «بروس غيلر» وجعل كلٍّ منهما ينتمي إلى وِجهة النظر نفسها من حيث الاشتغال على التركيبة الشكلية ذاتها واستغلال الخطوط الدرامية العريضة التي تقضي بضرورة إنقاذ العالم مِن التَهديدات الأمنية؛ الحاصلة بين الحكومات من جهة والمنظّمات الأرهابية من جهةٍ أخرى، التي لا يَقدِر على التصدي لها سوى أجهزة عسكرية غير موثّقة في السجلات الحكومية وتَعمل بشكل غير رسمي في الظِل؛ كما هي منظمة «MIF » هنا التي يترأسها مدير الاستخبارات الأمريكية في السر ويضع استراتيجياتها ويموّلها بميزانيات خارج الحِسابات ومن ثم يُسنِد مَهامها الميدانية إلى قائد عملياتي محنّك مثل «إيثان هانت»؛ تم تدريبه على أعلى المستويات العسكرية و الإستخباراتية، ومن هذه الفِكرة تنطلق دراما الحِكاية وجاذبيتها في استقطاب المناصرين لاستمرارها؛ من حيث جهودها المبذولة باستمرار على حياكة مشاهد أكشن وحركة ضخمة واستثمار مساحات فضفاضة لألاعيب العقل والذكاء وباستخدام شتى الأدوات التكنولوجية في التنكّر والتلاعب والمقامرة على مصائر البشرية، فضلاً عن الممارسات التجاوزية التي تقوم بها الجِهات الرسمية في الكواليس لتثير الجَلَبة في هذا العالم، فهو سبب كافي ليثير جانب الحَماس عند المتفرّج في اختباره على الدوام.


على طول عمرها، تعرضت هذه السلسلة من الأفلام إلى كثيرٍ من التجريب في سبيل صياغة أساليب استثنائية تضمن لها الاستمرارية والعطاء، وكذلك من مقدرة أبطالها على ترجمة التعبير المَجازي «المستحيل» إلى «الممكن» بصورة جدية بعيدة عن نطاق الخزعبلات. وإذا ما عدنا إلى هذه النقطة فنجد عندها أن كل عمل من هذه السلسلة كان ينطوي على رؤية مُغايرة لما سلفه، عائداً بدوره إلى واقع أن الممثل «توم كروز» هو أحد أهم المنتجين والقائمين على مراحل الإنتاج والإعداد في أرض الميدان، وعلى ضوءه تُنسَب إليه مهمة إختيار المخرج المناسب والأسلوبية المناسبة في تمكين رؤيته، وبالنظر إلى عَمله الدائم مع  أسماء بارزة في هذا الوسط؛ كان من بينهم : « برايان دي بالما» و« جي جي آبراهام»، إلا أن التعاون الأبرز كان مع المخرج الحديث « كريستوفر مكواير» الذي قام بإخراج الفيلم السابق «أمة النقابة» واستمر، تجاوزاً للبروتوكولات، ليفرض بصماته الإبداعية على هذا الفيلم أيضاً.

يتتبع فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» فريق الإستخبارات المَركزية السري «MIF» بقيادة «إيثان هانت» (توم كروز) بَعد قيام الجماعات الإرهابية التي تنتمي إلى منظمة «النقابة» التي قام بإسقاط قائدها «سولومون لين» (شون هاريس) في الفيلم السابق بسرقة ثلاثة رؤس نووية من أجل بيعها في السوق السوداء، فيذهب «إيثان هانت» وفريقه من أجل الحصول على تلك الرؤوس النووية بواسطة وضع خطة لمنع وقوعها في الأيدي الخاطئة، لينطلق بعدها ضمن مطارادات ومخاطرات بالجملة في سبيل إنقاذ العملية والحصول على الرؤوس الحربية تلك، إلا أن الخطة، وكما هو المعتاد، لا تسري في نصابها الصحيح.


من بين جميع هذه الأفلام سواء كان على الصَعيد الحصري بالسلسلة أو الخارجي مِنها، فإن «المهمة المُستحيلة - السقوط» يُعد واحداً من بين أكثر الأفلام إجادة وأكثر تميّزاً بل وأكثر تحدياً يُمكن أن يطرحه صنّاع سينما الأكشن اليوم، بعد أن أزاحت التكنولوجيا عن كاهل الجميع عناء الخروج من «خُمّ» الأستوديو واكتئاب الشاشة الخضراء ليتعرضوا، ولو قليلاً، لأشعة الشمس الطبيعية!، فهذا عائدٌ بالطبع إلى جدّية رجل إسمه «توم كروز» الذي سرعان ما انخرط في الصناعة وتعلّم فوائد الجمع بين «البزنس» و«الفن» في تناول تلك المعضلة وعكسها لصالحه؛ عن طريق وضع خطط تعمل على إنعاش هذه السلسة وتغذيتها من جميع الجوانب المَشهدية الحيّة والاجتهاد على سد ثغراتها بفلسفة :"الرؤية أكبر من التِقنية" والتي تستند بأسلوبها إلى السلَف من السينمائيين في انتهاجهم العمل اليدوي والحضور العضوي في ميدان المُخاطرة، ضامنين بذلك حصول أعمالهم على المكانةِ الأبرز بين أعمال أخرى انتهجت الرقمنة (الحرمنة) ومؤثرات الحاسوب في توليفها بأفكارٍ مسلوقة وتسلقنا معها.

لذلك، يُعد «توم كروز» هو العجلة المحرّكة وراء العديد من الأعمال المثيرة للفضول والدهشة في هذه السلسة، وكلّ ذلك من أجله أن يصنع هوية مستقلة في سينما هذا النوع، أو على الأقل بالنسبة إليه كممثل يهوى المجازفات وصِناعة الخَطر، حتى ولو كان على حِساب حياته ومستقبله المهني، إقتداءً بما سلفه من عظماء المخاطرين في السينما، أمثال : «باستر كيتون» و«هارولد ليلويد» و«جاكي تشان»، الذين ليس بالضرورة وضعهم رغبات الجمهور صوب أعينيهم كأولوية قُصوى وعلى أساسه يشرعون في التضحية بحيواتهم!، بل بواقع الاستماتة ليبارزوا أنفسهم وليتفوقوا عليها في سبيل الارتقاء إلى مستويات أعلى من «الممكن» وأقرب إلى «المستحيل»، كحال «توم كروز» هذه الأيام التي نجح من خلالها في أن يعلو كعب نظرائه من ممثلين، لن نقول أصغر عُمراً ! ، ولكنهم ذوي بُنى جسدية أفضل وقامة أطول، لازالوا عاملين تحت تخدير الشاشة الخضراء ولاسيما الذين ينخرطون بأعمال مثل «الأبطال الخارقين» التي امتهنها الممثلين لكي تغطّي مصاريفهم الشخصية والتي لا توفّرها أفلامهم المستقلة أو التي تقبع خارج هذا النوع أو تفكّر خارج الصندوق. لذلك، وإذا ما لاحظنا في العقد الأخير على إمتناع السيّد «كروز»  عن تقديم أداءاتٍ أوسكارية أو أعمق تجسيدياً، فهذه السلسة وما قدمته برفقته كفيلة بوضع الأوسكار في الدرك الأسفل من الاعتبارات، فإذا ما كانت جائزة الأوسكار تُعدّ معياراً يغربل مقاييس النجاح والفشل في كنف التحديات والمبارزات التمثيلية، فإن ما يُقدمه «توم كروز» هنا عبارة عن مبارزة ضد الموت؛ أي احتمالات مثل الفشل حاضرة وليست ببعيدة عنه.


هذا ولم أذكر بعد دور السينمائي البارز بين أقرانه في الكِتابة التشويقية المتلاعبة «كريستوفر مكوايار» الذي عاد مؤخراً للوقوف خلف العدسة في تعاونه الثالث والناجح مع «توم كروز» ليترأس الفيلم من نواحيه الفنية والتِقنية ويُقدّم وجبة دسمة في التكوينات البصرية الأخّاذة التي أعادات لسينما الحركة هيبتها من بعد مبدعين أمثال : «ويليام فريدكن» و«مايكل مان» وغيرهم، في العودة إلى نُصوصه المنعشة والمتلاعبة التي يُغذّيها بسيلٍ من الإلتواءات والحوارات المرحة والايماءات المتخابثة كما عهِدناه مع أول سيناريو له في فيلم «المشتبهون المعتادون» الذي حصد عنه الأخير جائزة أفضل نص أصلي في أوسكار «1996» .

قدرة «كريستوفر مكواير» كامنة في الحصول على أفضل سرد لحكاية تحمل تعرّجات كثيرة وإلتواءات بالجملة؛ صحيح أنها لا تملك طبقاتٍ متنوعة وقراءات متغولة للحدث، فالمَشهدية خطّها واضح، إلا أنها متعددة الأوجه وكثيرة التقلبات، وفي الوقت الذي تَعي تماماً إلى أين سيقودك الحدث تكتشف حينها أنك مُخطىء. في السنوات الماضية كان عمل النَص يلعب دوراً تكاملياً حسَب ما تستطيع توفيره أدوات الذَكاء التي يُمكن إستخدامها كمادة درامية تُغذّي الحَدث، لكن في هذا الفيلم النَص هو البطل الرئيسي، من حيث الجرئة في تقديم خطوط سردية مزدوجة، تتقاطع مع بعضها البَعض بشدة، لكن ليس لتخميد الصِراع أو إنهاءه بل لتضخيمه وتعقيده. يتضح ذلك جلياً من خِلال حياكة «مكواير» أحداث متنوعة تنشأ في أماكن وبُلدان مختلفة، ناهيك عن العدد الوفير من الشخصيات الفاعلة والتي تضمن مكانها في اللعبة الكبيرة؛ مِنها الشخصية الرئيسية«إيثان هانت» الذي يجابه مع فريقه خطر المؤامرة الكبرى ويتصدى لها بكل ما أوتي من قوة رغم التكالبات المثارة ضده، وشخصية «إيلسا فيشر» (ريبيكا فيرغسن) التي تعمل مع الإستخبارات البريطانية في سبيل إثبات ولائها الذي إنصهر مع أحداث الفيلم السابق وتحاول جاهدة هنا في الهروب مِنه عن طريق تقاطعها مع أهداف «إيثان هانت» في إفساد العملية ويدخل الصِراع بموجبه في منطقة المشاعر واختبار الوازع الأخلاقي وموثوقية العواطف!، أما في الحَديث عن الدور المزدوج لـ «أوغَست وولكر» الذي لعبه (هنري كافيل) فهنا تكمن المُشكلة الكُبرى أمام «إيثان» الذي يحاول الحياد عن الوقوع في شِرك تلاعبه والمحاولة في تنبؤ أفعاله طوال الوقت!؛ تحديداً بأن (هنري كافيل) يُدرِك تماماً دوره  هنا ويحاول أن يُقدم أداءً شريراً مزدوج الإيحاء ويثير الريبة دائماً، لكن في الوقت ذاته يتنامى كلّ ذلك تدريجياً في علاقة ديناميكية بنكهة كوميدية تجمعه مع «إيثان هانت» ويقدّمان لنا أجمل اللحظات عِند التقاءهما وتحدّيهما المستمر لبعضهما حتى وإن انتهت بمُجرّد نظرات عابرة، ناهيك عن باقي التقاطعات التي يَحمِلها ماضي «إيثان» مع زوجته «جوليا» (ميشيل موناغان) والتي يتَصادف وأن تدخل اللعبة عنوةً عن إرادة «هانت» ليدور الأخير في دوامة لا تنتهي من الأحداث الملتوية التي تتطلب منه القيام بقرارات أكثر صعوبة.


لكن هذا ليس كلّ شيء، هناك معضلة أخلاقية تواجه «إيثان هانت» من جانب الشر القابع في شخصية «سالمون لين» التي وإن كانت الحلقة الأضعف من حيث التأثير إلا أن وجودها كان ضرورة لا سبيل من تحييدها؛ من حيث مكاشفتها لـ«إيثان هانت» ومحاولتها لزعزعة إيمانه في القَضية التي يتبنّاها منذ أن إختار هذا الشكل من الحياة.

"لايوجد سلام كبير إلا بمعاناة كبيرة... فكلما كانت المعاناة أكبر كان السلام أكبر"، «سالمون» يُخبر «إيثان». عبارة نمطية على طراز كثيرٍ من عبارات بالية شَهِدناها سابقاً، لكن بواقع حضورها في قلب الدراما في الفيلم يُمكنها أن تكون سِلاحاً ذو حدين يعكس بدوره صِدام المبادئ بين الرجلين كنموذج للصراع الذي يَحدُث في هذا العالم، وعلى اعتبار أنهما خرجا من رحم القضية نَفسها التي ناضلا من أجلها وخدما بلادهما على أساسها، إلا أن الأول سرعان ما تبددت مبادئه وتحولت إلى صورة مُعاكسة بَعد أن كَشف زيف تلك المبادىء وزيف السياسات التي تبنّتها وغَسلت بها دماغ الأكثرية نحو الابتعاد عن أي تغيير جذري لحال هذا العالم وإنما باللعب بجنون لإدارة الصِراع وتوسيعه دون حَلّه. ولاعتقاد «سالمون لين» بأن الدمار والخراب اللذان سوف تنتجهما حرب نووية على المحك وتلتهم الأخضر واليابس كفيلة بإعادة النظر في وحدة البشرية من جديد، ولعلها تنشلهم من مستنقعات الجنون التي يغمسون أنفسهم بها يوماً بعد يوم، ولهذا يُسهم دور المقولة بالسير في نصاب الدراما الصَحيح الذي لا يُمكن لأخلاق «إيثان هانت» من أن تَفهمه؛ كيف لا، وهو طوال الوقت يُعطي الأولوية لحياة الآخرين على حِساب حياته وتقديم حياة الفَرد على حِياة الجماعة!، إلا أنه وفي الوقت ذاته تختبر هذه العِبارة «إيثان» في نقاط ضَعفة وتضعه أمام منعطفات مدوية تفرض عليه التخلّي، ولو جزئياً، عن تلك المبادئ والسير عكس التيّار في سبيل خدمة قضيته الكبرى.



صَحيح أن تتبع هذا الكَمّ الهائل من الخُطوط والتقلّبات صَعب المَنال، إلا أن أحداث الفيلم بقوة ضخّها لوتيرة الفيلم وتسارعها في الإيقاع تسعَى جاهدة بأن تُنسيك عبث البحث عن خط يجمع ذلك كله. يرجع هذا إلى مَقدرة «كريستوفر مكواير» على تمكين إيقاعه وتكوين لقطاته بحذر ودِقّة. فلن أتحدث عن أيّ واحدٍ من مشاهد الأكشن كان الأفضل!، فالأمر يَختلف في هذا الفيلم عن باقي أفلام السلسلة، فإذا ما كان كلٍّ واحدٍ منها في السابق يُراهِن على مَشهدٍ أو إثنين ليبقيهما في ذِهنية المُتفرّج فيجب القول بأن كلّ مَشهد من مشاهد هذا الفيلم يُمكن فصله على حِدة وتصنيفه داخل «بورتريهات» مستقلة تستدعي الشرح المطوّل والاستطراد في براعة تكوينها وعمقها البصري الذي ساهم أيضاً في إصقاله المصوّر «روب هاردي» بلقطات شاهقة وبانورامية حامية الوطيس تَحبِس الأنفاس؛ كما هو المشهد الخلّاب القادم من أعلى السماء بقفزة الـ HALO المدوية من طائرة نقل تجاري على إرتفاع 7000 متر قام بِإلتقاطها من عَدسة IMAX واسعة تحوم حول «توم كروز» في الهواء الطلق، وعلى جانبيّ الطائرة وداخل قُمرة القِيادة في المطاردة الجوية الأخيرة التي تخدش ذاكرة المتفرّج بجرأتها وجسارة القائمين على تنفيذها، إضافةً إلى مابَقيَ مِن مَشاهد في المُطاردات الأرضية في المدينة الباريسية وزواياها الضيّقة وشوارعها وأماكنها العريقة مثل «قوس النصر» و «برج إيفل» وغيرها مِن مواقع التصوير التي تُداعب العينين.


في الحَديث عن الأبطال؛ دَعني أذكر بطلاً آخر لعِب دوره بورقة الجوكر التي حسمَت رؤية الثُنائي «كروز» و«مكواير» في الرَفع من وتيرة اللحظات الحساسة؛ ألا وهي موسيقى الإسكوتلندي «لورن بالف» التي هي أشبَه بموسيقى «هانز زيمر» في فيلم «صعود فارس الظَلام» من حَيث الأبواق المتوحشة والطبول الغاضبة التي تعمل على إنقباض مُستمّر في القفص الصدري. الموسيقى هنا عامل درامي يلعب بوضوح بعيداً عن دوره في بهرجة المَشاهد، بسببٍ أو بدون سبب، كما هي الحال عند أفلام نظيرة، بل كانت تعزف في أوقات محددة وتُنتزَع في أوقات كثيرة. روح الموسيقار «داني إيلفمان» في الفيلم الأول كانت حاضرة، لكن بَصمة «لورن بالف» كانت الحاسمة، فاللعبة هُنا تَختلف في حِساباتها من حيث المبدأ والهَدَف وتَضرب في مواقيت دقيقة لا تعبث على الاطلاق، وهذا ما يُمكن أن تلحظه في الشريط الصَوتي الذي لم يكُن غائباً عن الحدث بل كان لاعباً رئيسياً فيه؛ مَشاهد كاملة كان يُنتزَع منها شريط الموسيقى ليسنح الفرصة أمام شريط الصَوت في التدفَق بداله ويُضيف بدوره زَخماً صادر من كسر العِظام أثناء المشاجرات والاصطدام بين دعامات المركبات وضرب النار والرصاص، فهنا تَبرز جمالية التوقيت والموائمة بين النَزع والإضافة في خدمة الإيقاع وتناغمه وعدم الحِفاظ على وتيرة واحدة رتيبة.


فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» عبارة عن قِطعة كلاسيكية من الزمن الغابر، تُعيد أمجاد العظماء من أرباب السينما الحقيقية التي صُنعت بأدوات حقيقية و مخاطرات وشيكة؛ كمَشهد المطاردة الذي قام به «توم كروز» بنفسه بسيارة «بي أم دبليو» الذي نُزِعَ عنه الغشاء الموسيقي وصمَد أمام أصوات المُحرك والعجلات واستسلم لخنقة شوارع «باريس» الضيّقة وتدافع زحامها المروري والسكاني، فضلاً عن التوتر الناشىء عند «إيثان هانت» من ملاحقة متعددة الأطراف في مدينة متعددة المنافذ!. يذكّرنا هذا المَشهد بتُحفة الأكشن الكلاسيكية «الوسيط الفرنسي 1971» الذي أخرجه الأمريكي «ويليام فريدكن» والتي إحتوت على أشهر مطاردة أسفل سِكة حديد في مدينة «نيويورك» التي قام بها الممثل المخضرم «جين هاكمان»، وهو الأمر الذي يقودنا إلى حقيقة أن هذه الأفلام كانت ولازالت مَنبع التَجديد ونقطة المَرجع التي يَجب على صُناع الأفلام العودة إلى أحضانها لكي لا تَقتلهم فيما بعد عفونة الاستوديوهات المغلقة وأجواءها الكاتمَة للأنفاس والتي يزداد زيف ما تقدمه يوماً بعد يوم.


تحياتي

الاثنين، 23 يوليو 2018

دراما مأساوية؛ تتوجه بالخنقة لا بالخضّة - مراجعة فيلم Hereditary 2018


 


Hereditary 2018 - وراثي


•  إخراج :  آري آستر
•  التصنيف :  رعب - دراما - غموض
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★ (ممتاز)


في مطلع هذا الفيلم يبدأ المشهد الافتتاحي بلقطة من نافذة داخل غُرفة مُطلّة على كوخٍ معلّق في الخارج - لقطة بسيطة والمشهد برمّته بسيط، لكنه مُهم في استبصار أسلوبية الفيلم التي سوف يسير عليها لاحقاً - تبدأ حركة الكاميرا في الابتعاد قليلاً عن مستوى النافذة لتتوسع في الإطار تدريجياً، ومن ثم، تَشرع بالحركة محورياً في فضاء الغُرفة، بعدها تقِف تماماً وتلتقط مُجسّم هَندسي لمنزل يبدو أنه المنزل ذاته الذي تسير فيه أحداث الفيلم، إلا أنك تلحظ أن هُنالك شيء غريب يحدث في زاوية إحدى الغُرف؛ تقترب الكاميرا شيئاً فشيئاً ويزداد الأمر غرابة ورُعباً في المقابل، هنالك ظِل أسود داكن اللون يمكنك رؤيته لكن لا تدري ماهيته سوى أنه يُشبه شيء قريب من«الجاثوم» أو ما يُسمى بـ «شلل النوم» فوق شخص نائم - تكوين بصري أخّاذ وأصلي جداً- تستمر حركة الكاميرا تلك في التقدّم من مُستوى الغرفة ويتفاقم معها القلق والتشكيك بطبيعة ما تشاهده: هل هو حقيقة أم مُجرّد وَهم؟ وعلى هذا الحال، إلى أن نصل إلى مُستوى الغرفة كاملة، حينها نكتشف بأنه كان مُجرّد آلة تصوير قائمة ينسدل عليها غِطاء أسود اللون!. إنها لقطة غريبة بقدر ماهي مُرعبة ومقلقة، تُحيلك إلى وضع من الترقب والتشويق إلى ما سوف يحدث، وتوضّح على الهامش بأنك أمام فيلم لعوب ومباغت وليس بالهيّن، قادر على أن يتلاعب في إطار الصورة وحركتها ليخدعَك، ويُحاول أن يُنتِج رُعباً ليس بالضرورة أن يتوجه بالخضّة؛ وإنما بالخنقة التي يثيرها بواسطة عاملي : التوتر والشعور المُكثّف بالريبة.

" تغيير بسيط في الشيفرة "

«وراثي» هو فيلم عن وِراثة المأساة، نعم، لكن عنوانه هذا لا يقتصر على ما تعكسه «تيّماته» الدرامية داخل النَص، وإنما بواقع أنه يرِث أنماط سينمائية جاهزة في سينما الرُعب قادمة من مُختلف الأجناس التي سبق وأن حظيت بها الشاشة العريضة؛ أي أن الشيفرة الوراثية ذاتها حاضرة وغالبة في أكثرِ المَشاهد، للحظة تظن أن كلّ واحدةٍ منها عبارة عن نُسخة طِبق الأصل عن نموذجٍ آخر، إلا أن ما قام بِه المخرج لضمان عدم وقوعه في فخ الاستنساخ هو قدرته على إعادة ترتيبها ضمن أسلوبية تجعل من تَجربته تظفر بهوية مستقلة؛ أي مجمّعة من هويات عِدة لكن تبدو متناغمة فيما بينها على اختلافها؛ بحيث لا تحتاج الكثير من الخِبرة لتعي أن ما تشاهده هنا قد سبق لك وأن اختبرته في كثيرِ من الأفلام، من حيث: البيت المَسكون، الشخصيات المضطربة بَعد حادثة أليمة، التهديد الشيطاني، السلوكيات المشبوهة، الماضي الأليم...إلخ، لكن ما يُهّم حقيقة هو وُقوف مُخرجه بصرامة نحو توظيف معطياته بمهنية عالية بالنسبة إلى تجربته الأولى مع أفلام روائية ضَخمة بهذا الشَكل، وتحديداً بأنه فيلم ليس بالهيّن كما أسلفه لساننا؛ إنه بالفعل فيلمٌ طويل؛ يمتد بزَمنه إلى حدود الساعتين وعشرُ دقائق، وهو الوقت الكافي أمام صانع العمل لكي يطرح ويُعالج موضوعه، وفي الوقت ذاته يحقق النتيجة المرضية من وراءه.


هذا ويقودنا إلى إن الفيلم المتميّز لا يحتاج بالضرورة إلى أصالة الفِكرة كي يصِل إلى مراميه أو أن يُحقق مبتغاه في جَذب التقدير والإشادة، وإنما من مقُدرة صانعه على خلق رؤية شاملة مضبوطة الأركان؛ يختار على أساسها طاقمه المُناسب للمَهمة المنشودة ويحدد أولوياته بجدّية كبرى وينطلق مباشرةً في مضمار التنفيذ دون مماحكات تحول بينه وبين تحقيق تلك الرؤية. ولا يكفي موهبة ناضجة مثل المُخرج « آري آستر» سوى أن تَجلِب المرشحة لجائزة الأوسكار «توني كوليت» ذات الوجه العجائبي في تقاطيعه وتعابيره الصارخة كي تُقدّم أداءً حسّياً يسحب نطاق نظرك ووجدانك إلى نبرة الفَزِع والألم والانكسار لدى امرأة فقدت من هم حولها وتستعد إلى أن تَفقد المزيد ، وليس بالبعيد أن تفقِد نفسها في نِهاية المطاف؛ فقد أمسَت مُهددة ومُعنّفة، يترصّدها الحُزن وتنهال على رأسها المَصائب الجاثمة من كلَ صوبٍ وحدب، ولا يسعها سوى أن تُمسِك بهاته الوتيرة وترفعها حد السَماء، لكي تعي حينها أنها قدّمت الأداء النسائي الأفضل لهذا العام.


«يناير» الماضي شهِد أول عرض لـ «وراثي» في مهرجان «صندانس» السينمائي الذي حاز فيه على إعجاب شريحة واسعة من النُقاد الذين منحوه - الغالبية مِنهم - العلامة الكاملة باعتباره أنه أفضل فيلم رُعب شاهدوه منذ فترة طويلة. يتمحور فيلم «وراثي» حول حياة عائلة بعد وفاة جدتهم و الأوضاع التي آلت إليه هذه العائلة التي يبدو وأن لها ماضي أليم في المآسي والنشاطات الروحية، فنتتبع الأم «آني» (توني كوليت) التي تعاني من «إضطراب الهوية الانفصالي» الذي أودعها بعلاقة سيئة مع أبناءها ومع والدتها التي تحمل تجاهها مشاعر سيئة على خلفية أعمال قامت بِها وجلبت الفواجع إلى العائلة؛ مِنها انتحار كلٌّ من والدها وأخوها الصغير، ومن ثم نتعرف على الطِفلة «تشارلي» (ميلي شابيرو) التي تحمل تقاطيع وجه مُرعبة؛ شبيهة بطائر «البوم» وارتباطها الوثيق مع جدتها على عكس العلاقة السيّئة التي تربطها بوالدتها، إلى أن نصِل إلى الشاب المراهق «بيتر» (أليكس وولف) الذي يداوم على تعاطي الحشيش والمخدّرات وعلاقته السيئة التي تجمعه أيضاً مع والدته، لتبدأ بعدها الكوابيس والظلال الراجلة على أرض ذلك المنزل في التأثير على كُلٍّ من فيه وما تحمله من أجواء مشحونة بالقلق والخوف اللذان يقودان في نِهاية المطاف إلى فواجع أكبر تصيب كلّ واحدٍ منهم.



" دراما متينة لا تهزَ الشكل المخيف للحِكاية"

في حالة النص لا يُقدّم «آري آستر» أيّ جديد، ولو أن العامل الدرامي في الحِكاية كان نافذاً على حِساب الرعب في حد ذاته، والذي يقودنا إلى حتمية النظر إليه من هذه الزاوية دون الأخرى؛ التي تتضائل من جانبها تدريجياً استناداً إلى ما انشغل به النص من معالجة محكمة في التأسيس لقواعد السرد وبناء الشخصيات وتشبيك العلاقات وتطوير الدوافع مع الابقاء على عناصر مثل: الصدمة والترقّب والغموض محتشدة في ذهنية المتفرج.

فِكرة الفيلم تتفرع إلى عِدة محاور يتخذ مسرى كلٍّ منها وجهته إلى أن يلتقيا في خانةٍ واحدة، أهمّها؛ المحور الأول الذي ينطلق من الماضي الذي عاصرته عائلة «جراهام» والذي يبدو أنه كان كابوسياً قاتماً ويحمل تاريخاً أسود في هذا السياق، وهو ماينعكس جلياً على شخصية الأم التي تُعاني من اضطرابات داخلية؛ تجمع مابين السير ليلاً مروراً بأحلام اليقظة وإنتهاءً ببعض الذُهان إزاء الفاجعة التي تُصيب العائلة بعد وفاة والدتها والذي تُلحقه سلباً على زوجها وأبناءها في نِهاية الأمر، ويكشف عن حجم «اللامشاعر» الذي تحمله تجاه وفاة والدتها وقادها قسرياً إلى اللجوء إلى جلسات علاجية مُختلطة، ليس للتخفيف من حُزنِها، بل لتقنع نفسها بضرورة التنفيس عن مايُجهِد تفكيرها الذي سبق وتصادم مع علاقتها بأبناءها وسبب حواجز نارية فيما بينهم. المحور الثاني يتعلق في علاقة الأم مع أبناءها لكن من منظورهم الشخصي، وهي علاقة تنافر قائمة على إزدراء مُبطّن يحملونه تِجاه والدتهم؛ «بيتر» يحتقِرها لأنها سبق وأن قامت بسلوكيات مَرَضية كادت أن تنتهي بقتله أثناء مسيرها ليلاً وكوابيسها التي تلحقها وتتجسّد بصورتها وهي تُضرِم النار في جسده، وهذا بالأساس قابع من شعورها المُبكِر أثناء حملها بِه وسعيها المستميت نحو التخلّص منه عن طريق الإجهاض الذي وقفت له في المِرصاد والدتها المتوفاة والتي أصرّت بدورها على مجيئه إلى هذا العالم( لدواعي خاصة)، وهذا الشعور سرعان ما تفاقم في انتقاله إلى العلاقة التي تجمعها مع الفتاة الصغيرة التي إن لم نتكهَن في صورتها الخارجية فهي أقرب إلى المَسخ المقموع من بيئة الأم الحاضنة بعد أن سلّمتها إلى الجَدة كالقُربان تعتني بِها، لعدم اقتناعها بفكرة الانجاب في هذه العائلة المأساوية ؛ الأمر الذي دَفعها إلى تكليف والدتها في الاعتناء بها بدلاً مِنها. إذاً، وفي هذا السياق من السَرد؛ نحن أمام فيلم عن دراما مأساوية متأصلة في جين العائلة وليس مُجرد سرد لواقعة غريبة تصيبها.



"كيف تحزن وأنت خائف؟.. البكاء على حافة الفَزَع ! "

في تجربته الأولى مع أفلام روائية طويلة لا نجد عِند «آري آستر» عَثرات المخرج في البِداية على الإطلاق، نراه يعي السرّ تماماً في إخراج لقطاته في أنقى صورة وفي أبهى حُلّة، لا يلجأ كثيراً إلى عامل الخضّة / «Jump Scares» بل يعتمد على تغذية الصورة بمرئيات داكنة يُضفي عليها بعض الاضطراب والذٌعر وبدورها تمارس إيقاعاً داخلياً لا يدركه المتفرّج مباشرة بل يتسلل خِلسة ويصرعه في الوجه مباشرةً!، لقطاته تتوزّع مابين «الكلوز أب»/ Close-Up على وجهي : الأم «آني» وابنها «بيتر» ، و«الكاملة / Wide Shot في رسم حدود الخَطر الخارجي؛ في الأولى يُجيد «آرين» بمساعدة المصوّر « بول بورزلسكي» رسم انفعالات الشخصيتين في إطار الصَدمة ورد الفِعل، أما في الثانية يخلق منظوراً واسعاً لكادرات المكان وماتحمله الظِلال في إحكام المصيبة الخانقة على العائلة، وإذا ما عُدتَ إلى المشهد الأول الذي تحدثتُ عنه في البِداية ستعلم أنك أمام عمل يعلم ما يُريد تضمينه لرؤيته وما لا يريد تضمينه لتخيّله! . في اللقطات القريبة ؛لا يحضرني سوى استذكار وجه «توني كوليت» المتبسمر أمام لقطات تَحبِس الأنفاس ويتوقف فيها الزمن قليلاً في تصاعُدٍ مستمر في وتيرة الموقف على الرغم من أنه ليس من الضروري أن يكون مَشهداً حاميَ الوطيس، بل يرجع إلى قُدرة «توني كوليت» في المَقام الأول في فِهم شخصية الأم الهَلِعة التي لا حول لها ولا قوة في حِماية أولادها وفي الوقت ذاته لا تستطيع إحكام السيطرة على ما يجري من حولها(رُبما هذا السبب الرئيس في انشغالها بعمل المجسّمات لتهرب من الواقع الأليم الغير مسيطر عليه!)، ومن ثم إلى فِهم طبيعة الاستجابة للنشاطات الخارجة عن إطار المعقول والطبيعي، فإذا ما عُدنا قليلاً إلى الوَراء في تتبع استجابة الشخصيات في أفلام الرعب النظيرة نَجِد عِندها الافتعال والعبثية وعدم الإقناع، وطياش على السطح لا ضرورة مِن حُدوثه، أما هُنا يكفي أن يتوقف قلبها عن الخَفقان لتعي هول الموقف ودكانته ، فهو فيلم ليس عن « كيف تخاف» وحده، بل « كيف تحزن وأنت خائف» أيضاً.



" إشكال بسيط أو ضخم.. أنت الحَكَم"

رغم أن ما يشمله الفيلم من تَجربة شديدة القوة والتأثير، إلا أن الحديث يقودني إلى إشكالية تحدث في نِهاية الفيلم - تطمّن لن أحرقها عليك لكي لا أفسدَ مُتعتَك – تَضَعُكَ داخل مُفارقة عويصة عِند استجابتك لها!، نعم هي غَريبة وقد تبدو منطقية وصائبة لكن بقدر ذلك كله كانت غير مناسبة ولاضرورة من إختيارها مَشهداً خِتامياً لهذا الفيلم تحديداً !؛ هذا لا يعني أنها أتت من الفراغ أو كانت منزوعة السِياق أو سقطت بالـ«باراشوت» على أرضية الأحداث؛ الفيلم كان طوال الوقت يُمهّد لحدوثها دون أن تعلَم، ويُمكنك مداركة واستنباط أسبابها من داخل الفيلم وهذا ليس بالإشكال العظيم. الإشكال الحقيقي هو تحوّل الفيلم من حِكاية قائمة على تعزيز الرعب بحوادث قريبة إلى الواقع ونجاحها بإقناعك عن إمكانية حُدوثها في أيّ وقت وأيّ زمان إلى حِكاية تنشد «الميثولوجيا» التاريخية والطُقوس الدينية تَرجع الى العصور الكلاسيكية القديمة ويتم إيرادها بشريط صوتي يتحدث ويستطرد في شرحها. قد يجِد عِندها البعض امتداداً طبيعياً لدورة الحكاية الميثولوجية المتعلقة بتاريخ العائلة؛ إبتداءً من عصر وإنتهاءً بآخر، إلا أن الانتقال المباغت بهذا الشَكل يدعو إلى النفور والضحك في الوقت ذاته، وأن ما ساهم « آرين» في بِناءه في الساعتين السابقات؛ أعتقد أنه هدمه في الخمسة دقائق الختامية!، فبدل أن تخرج مِنه وتُفكّر ملياً بمواضيع ما تناوله تخرج مِنه وأنت مختصم و عاجز عن التعبير عن مدى أسفك - أو ربما قهقهتك .


تحياتي

السبت، 14 يوليو 2018

«دوين جونسون» يناطح السماء في سبيل إنقاذ العائلة - مراجعة فيلم 2018 Skyscraper




  Skyscraper 2018
-
ناطحة سحاب

•  إخراج :  روسون ثيربر
•  التصنيف :  أكشن-  مغامرات - جريمة - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي½★★


إنه واحد من سلسلة متاعب كثيرة واجهت «دوين جونسون» في العقد الأخير على بداية مسيرته (مهمته) السينمائية في سبيل إنقاذ العالم وتصديه الدائم لأيّ خطرٍ مُقبِل من قبل أعداءه؛ سواء كانوا حيوانات ضارية تلهث وراء فريستها أو بشرٌ أشرار على مبدأ : "طالما أحقق مصالحي فليفنى العالم من بعدي". في أفلامه لا يختلف كثيراً ما إذا كان الخطر بشرياً أو حيوانياً فكلاهما يتشاركان عدم الأهمية ذاتها ما دام أنه سوف يكون المُنقذ والمخلّص في نهاية المطاف. تلك المهمة أمست وظيفة «دواين جونسون» الشاغلة هذه الأيام، وما يليها، هي أشبه بتمارين رياضته الأصلية « المُصارعة» بسيناريوهاتها الراسخة وأساليبها المترددة، إلا أن هذه المرة يمارسها على شاشةٍ أكبر وجمهورٍ أعرض. لكن في واقع الأمر، وإذا ما أراد السيّد «جونسون» في يومٍ من الأيام أن يُنقذ نفسه وينقذنا من قوالب أعماله «الميلودرامية» الرخيصة، فما عليه سوى أن يُنعش تحدياته كممثل ويفكّر خارج الصندوق أو أن يعتزل هذه المِهنة من الأساس.

هذا لا يعني أن أفلامه في المُجملِ سيئة، فلازلتُ أتمتّع بظهوره على الشاشة حاملاً معه مابقي له من جاذبية أيام ما كان مصارعاً سليط اللسان ومديد الحوافر، وإنما تتأرجح مابين أن تكون مقبولة أو غير مقبولة؛ أي تقبل رشوتها أو لا تقبل. وفي حالة فيلمه هنا «ناطحة سحاب»، ولحسن الحظ، ينجح في أن يَرشيك لتقبل بما يطرحه صراحةً أمامك وما يمرره خِلسةً من أسفلك، وبالنظر إلى أن سخافة ما ينشده لكي يبني عليه أحداثه لا يقع بفخ الاستفزاز كما كان عليه فيلمه الأخير الهائج «إهتياج»، فهنا المسألة أقلّ حساسية في تلقي فوضاها، وتمنحك قدر وافي من الترفيه المقترن برهاناته المتواضعة التي يتقبلها أي مُتعقّل يعي تماماً كيفية تلقي الأجناس المختلفة من الأفلام، فما عليك في هذا الفيلم سوى أن تأخذ عبوة «البوبكورن» الساخنة خاصتك والجلوس مُسترخياً أمام عملٍ يُداعب عينيك ونجواك بسخونة أجواءه.

- ملاحظة غير مهمة : بعد مُتابعة أعمال الممثل تبيّن أن أفلامه التي يحلق بها شعر وجهه غالباً ما تكون أسوأ من تِلك التي يحافظ فيها عليه، أي أن نزع الشعر من على وجهه قد يساهم في نزع جزء غفير من ذكاء أفلامه. الله أعلم .


يتناول فيلم «ناطحة سحاب» قصة العميل الفيدرالي المُتقاعد «ويل سوير»(دوان جونسون) الذي دُعيَ من قِبل صديقه «بين» (بابلو شراير) إلى الصين كي يوقع على عقد عمل في الإشراف على تهيئة نظام الأمن والسلامة لأكبر ناطحة سحاب في العالم، والمتواجدة حالياً في مدينة «هونغ كونغ» الصينية، فيقوم بجمع عائلته والذهاب إلى ذلك المبنى كي يقضوا فترة إنجاز العمل هناك، ليتعرض المبنى فيما بعد إلى عملية اختراق من قبل عِصابة إجرامية بقيادة العميل المرتزق «كورس بوتاه» (رولاند مولر) الذي يُشعِل النار في أحد طوابقه الذي تقطنه عائلة «ويل»، فيذهب الأخير نحو محاولات مميتة ومخاطرات بالجملة في سبيل إنقاذ عائلته ومن ثم المبنى المُحاصر من أيدي تلك العِصابة .

لايقضي هذا الفيلم الكثير من الوقت ليدخل في صلب موضوعه، يؤسس شخصياته؛ بحيث يضع الأسود في جهة والأبيض في جهة، تعي ملامح كلّ منها جيداً وإلى ما سوف تؤوله أحوالها بالطبع، فهذا النوع من الأفلام يهتم في الرحلة لا بالوصول، وعلى هذا الأساس، ينطلق الفيلم من هذه الفكرة مُوفراً ثرثراته الجانبية لأهدافه الأسمى والمتعلقة بمُغامرات «ويل سوير» داخل المبنى وخارجه، يتقاسمها المجهود البدني من قِبل فريق المخاطرات مع البصري من قِبل فريق المؤثرات، الذي ينتهي الأخير بقفزة بهلوانية يقوم بها «ويل» هرباً من الموت، يصل مداها إلى 100 متر شرقاً على ارتفاع يصل إلى « كيلو متر » في الهواء الطلق (أسفل السماء بقليل). لا يتحملها «باتمان» في عزّ شبابه، فما بالك بالذي إحدى رجليه مبتورة!!.


مخرج العمل وكاتبه هو «روسون ثيربر» الذي قام بأخراج أفلام كوميدية، بوليسية،ورياضية شهيرة مثل « نحن آل ميللر » و «الكرة الخادعة»، و«إستخبارات مركزية» كان آخرها وهو من بطولة مشتركة بين «دواين جونسون» أيضاً مع الذات المُقزّمة منه «كيفين هارت». «ناطحات سحاب» هو الأكثر جدّية وحركة من بينها جميعاً، يتمكن «روسون» من أن يُلزِم إيقاع فيلمه بمتانة دون إسراف في تصعيد وتيرته وتفريع أحداثه، وإنما ينقلك من صِراع إلى آخر بسيرورة طبيعية ودون إلتواءات تُجهِد من عامود سرده الفقري (الذي بالكاد يحمل أحداثه الأساسية). نصه مُغرق بالكليشيه والأفكار المعلّبة؛ أنت تعي ماذا سيحدث وكيف سيحدث وماذا سيقال عنه وكيف سيتفاعل الجميع مع الموقف، لكن في الوقت ذاته تتشوق إلى رؤية ذلك كلّه. شخصياته كرتونية؛ إما أسود أو أبيض، لكن في الوقت ذاته غير مثيرة للشفقة أو تستشيطك غضباً كما هي الحالة عند أفلام نظيرة، ولعلّ أكثر شخصية لم يستغلها «روسن» في فيلمه كانت «بين» التي أداها الممثل «بابلو شراير» الذي حافظ على جاذبيته من أيام المسلسل الأسطوري «السلك». هذا الممثل يمتلك قوامة جيدة صوب شخصيات أكثر دكانه وأكثر حضوراً .

هذا لايعني إقتراب «ناطحة سحاب» من فيلم «بروس ويليس» الشهير «موت بصعوبة»، ليس لأن الأخير يُعتبر تُحفة زمانه، بل لأن المفارقات بينهما كبيرة وشاسعة ولا تستحق النقاش إلا إذا كانت تحمل صِفات متنحية عن الأصل تشحذ النِقاش، وفيلمنا هُنا، أبعد مايكون عن اعتماده موضوعاً للتحاور حتى. لكن في النهاية، هو فيلم صُنع للترفيه ولعق «البوبكورن» ليس إلا، فلا تنتظر الكثير مِنه ليحقق ما لا يستطيع أن يعدك به تاريخ ممثله أو ما تملكه موهبة مُخرجه.


تحياتي

الأحد، 8 يوليو 2018

لا جديد يُذكر ..مسحتَ المتعة من بعدك يا "ثانوس" ! - مراجعة فيلم Ant Man and the Wasp 2018






Ant Man and the Wasp 2018 - الرجل النملة والدبّور

•  إخراج : " بايتون رييد "
•  التصنيف :  أكشن- كوميدي - مغامرات - خيال علمي
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي½★★


يأتي «الرجل النملة والدبّور» في الحلقة رقم 20 من مسلسل عالم «مارفل» السينمائي الذي بدأ منتصف العقد الماضي وقام ببناءه «كيفن فييغ» الرئيس التنفيذي لاستديوهات « مارفل» استكمالاً لما أسسه الأب الروحي للقصص المصوّرة «مارتن غودمان » في ثلاثينيات القرن الماضي واستمر إلى يومنا هذا الذي لم يتخيّل للأخير أن يصِل إلى ما وصلته شخصياته الكرتونية التي صممها وأفلامها حديثاً التي أعيد كِتابتها في الهيمنة على إيرادات السينما العالمية. عشرُ سنوات ولازالت «مارفل» تُطبِق على أفواه المنافسين لها بعاملي التجديد والابتكار اللذان لاينفكّان حتى يستنفذان طاقة السوق الترفيهية، فهو الأمر الذي خلق سيطها وأتبعها بمدد العاشقين والمخلصين لإرثها الذي صنعته وساهم بدوره في تطوير القائمين عليها نحو خُطط متجددة تستوعب متطلبات ذلك السوق كلّ عام، فإذا ما أردنا تقسيم عمر السينما إلى فترات، فإن آخر عشرُ سنوات يُمكن اعتمادها كنقلة نوعية لمنتج البطل الخارق داخل عالم ممتد يؤازره أبطال آخرين في الهمّ ذاته.
   
إنّ ما يُميّز هذا العالم عن غيره هو النسيج المتنوع الذي يخلط جميع الأشكال من الأبطال بكافة أطوالهم وأحجامهم، فإذا ما كُنا نعتقد أن مَهمّة الرجل الخارق في السابق كانت تقتصر على إنقاذ الأرض فحسب، انقلبت المعادلة رأساً على عقب في العقد الأخير عِندما قامت «مارفل» بجعل تلك المَهمة محصورة في أفلامها الضخمة فقط، أي «المنتقمون»، و إذا ما عدنا إلى لغة الأرقام بعدد تلك الأفلام، نجد عندها أن أربعة أفلام من أصل 22 فيلماً آخرين تقتصر مهامهم على حيّزٍ محدود وأقرب إلى الرهانات الشخصية للبطل الخارق المنفرد بنفسه، لا تُشكّل فارقاً أمام ما تفرزه الأفلام المنفردة تمهيداً نحو استقبال الخطر الأعظم، فهذا ما جعل مِنها أعمالاً أكثر خصوصية وأكثر تأثيراً في الجمهور من سابقه، وهذا بالطبع ما يرجع إلى التأني والتدرّج الذي تسلكه تلك الاستوديوهات في رسم خُططها من أجل تحقيق رغبة الجمهور برؤية كلّ من الشخصيات تُبنى على حِدة وتسمح للتفاعل مع أبعادها بأريحية أكثر من السابق، بحيث عِندما تقوم بجمعهم مرة أخرى داخل فيلمٍ أضخم نستطيع حينها أن نعي ملامحه الفنية كاملةً، بدلاً من أن التخمة التي تُصيبنا أثناء مشاهدة هذا الكم الهائل من الشخصيات والأحداث، فهذا الحُلم الذي نجحت بتحقيقه في الوقت الذي فشلت «دي سي» بإنجازه، عِندما تعثّرت في نقل شخصياتها المرسومة والمدفونة داخل أغلفة قصصها المصوّرة إلى صورة حيّة بارزة أمامنا على الشاشة العريضة.



«الرجل النملة» أحد نتاجات سلسلة التَطوّر الكبيرة التي قامت بها هذه الشركة، فكان من بين الأبطال الذين انشقّوا عن «فورمة» البطل الخارق النمطية والتي عهِدناها سابقاً في توقها إلى إنقاذ العالم لدواعي أفلاطونية مثالية نحو اصلاحه، بل على العكس تماماً، هي شخصيات أبطالها واقعيين متصالحين مع ذواتهم، وتواقين إلى العيش كما يعيش باقي البشر مِثلَهم، بين سعيهم نحو تحقيق الطموحات في الحياة واغتنام فُرَصها من أجل تأمين حياتهم وحياة عائلاتهم. يرجع هذا كله بالأصل إلى ذكاء تصميم شخصية « الرجل النملة» في الهامش الصغير والحيّز الضيّق أمام هذا العالم الكبير الذي تناطه الوُحوش الفتّاكة والأشرار الشرسين، أمثال «ثانوس» وغيره، الذين لا يَقدِر على تجاوزهم أعتى الأبطال الذين نعرفهم، ناهيك عن تناغم ما تفرزه الشخصية من خصائص فكاهية وحميمية وما يضفيه الممثل «بول رود» الذي يقودها من تِلقائية وباع كبير له في سينما الكوميدي والدراما العائلية، وهو قِران لطيف استطاع أن يُنجب «كاريزما» غير مسبوقة أمام المُتفرّجين أيّام الجزء الأول،عندما صدر قبل ثلاثة أعوام وحقق نجاحاً مدوياً لمجرد فكرته التي أعيد إنعاشها كإضافة نوعية إلى هذا النسيج المتنوع من الأبطال.

هذا العام شهِد عودة بطل آخر اسمه «ديدبول» الذي يُشارك «الرجل النملة» الفكاهة والهزل كمرجع اساسي في تصميم كلّ منهما . القصة عِند الفيلمين لم تكُن من أولويات صُناعِها، وبالعودة الى أجزاء كلّ منهما الأولى نجدها أكثر تواضعاً مماهي عليه الآن، ومحصورة بين حائطي؛ الترفيه الحاصل إزاء الجمع بين الكوميديا مع الأكشن، والمحور الذي تدور فيه القِصة الرئيسية وتمتد في اتجاه واحد لا ينشغل كثيراً في إعطاءها أبعاداً مختلفة أو طبقات متنوعة . لكن في العودة إلى الأجزاء التالية هذه السنة نجد أن قصص كلٍّ منهما كانت تتطلب التشعب والتضخّم كمتطلب إجباري يضيف بعض الشرعية لإعادة تقديم هذه الشخصيات من جديد. إلا أن هذا التشعّب لم يسعف الفيلمين نحو تقديم تجارب منعشة على صعيد البِناء والتطوير في كلٌّ من شخصية «ديدبول» و« الرجل النملة»، بل زادهما تُخمة وافتعال لا داعي من حُدوثهما. لكن في المُقابل، ولأن «مارفل» تحفظ خط الرجعة مع جمهورها، ولا تُخاطر بإفساد متعته، فإن التكثيف الذي خلقته من إضافة الكثير من التوابل الكوميدية والدموية في الحركة و الأكشن ساهمت في إنجاح فيلم «ديدبول» وإنفاذه أمام الجمهور دون النظر إلى ما يُحيطه من عيوب. على عكس فيلم «الرجل النملة والدبّور» الذي لم يُسعفه ذلك كلّه أمام افتقاده لقوة العناصره الروائية وتقليص في شخصية «الرجل النملة» وجمودها أمام متغيرات هذا العالم السينمائي الذي أصبح فيه الأبطال الذين كُنّا ننظر لهم بزاوية واحدة بِتنا الآن ننظر لهم بزوايا متعددة، والقول ينطبق على شخصيات مثل : آيرون مان، كابتن أمريكا، ثور..الخ، بعد أجزاء كلٍّ منهم الثلاثة. ليس لأن «الرجل النملة والدبّور» فيلم سيء، هناك الكثيرون سوف يُعجبهم هذا الفيلم، وهذا ما لا شك فيه، لكنه يُصيبك بشعور من الفراغ بعد أن تفرغ من مشاهدته إزاء تسطيحه لمعالم الشخصيات وأحداثه الهامشية التي لم تُغذّيها الكوميديا أو الحركة الكافية لجعلها تعلق معك وأنت خارج منه، بحيث تخرج ولا تشعر بالرغبة في تذكّر شيء. مشاهده منسية إلى حدٍ ما.



تدور قصة «الرجل النملة والدبّور» في الفترة الزمنية اللاحقة لأحداث الحرب الأهلية التي حصلت بين فريقيّ «آيرون مان» و «كابتن أمريكا» في ألمانيا بعد انشقاق الأخيرعن الحكومة ومنظمة «المنتقمون»، وقبل هجوم «ثانوس» على الأرض في أحداث فيلم «المنتقمون: الحرب اللانهائية« الأخير، بعد قيام المباحث الفيدرالية بفرض الاقامة الجبرية على «سكوت لانغ» (بول رود) إثر مشاركته «كابتن أمريكا» تلك المهمة الغير قانونية والتي جعلت من الأخير محظوراً من قبل بلاده، فقامت بفرض تلك العقوبة ليقضيها داخل منزله ولمدة 3 سنوات. في هذه الأوقات يسعى الدكتور «هانك بام» (مايكل دوغلاس) مع ابنته «هوب بام» ( إيفانجلين ليلي) في استعادة والدتها «جانيت بام» (ميشيل فايفر) التي لازالت عالقة في البُعد الكمّي عن طريق بوابة تفتح على جسر عبور بين العالمين، فيطلبان مُساعدة «سكوت» (الرجل النملة)، وخصوصاً بأن سبق له وأن ذهب إلى هناك في أحداث الجزء الأول.



أكثر اللحظات إمتاعاً تلك التي يبدأ عِندها الفيلم حركته في المطاردات والاشتباكات التي لا تقف عِند التحوّل إلى الحجم الأصغر عند كلا البطلين، بل أن كل موقف كان له فلسفة خاصة من حيث الحركة والحجم اللذان يتأرجحان من خلاله؛ صحيح أننا رأينا ذلك كله في أحداث الفيلم الأول، لكن هنا، كانت مساحة اشتغاله أوسع وقادرة على توظيف أفكار أنضج؛ أوقات يصبح فيها «سكوت» بحجم حوت البحر وآخر بحجم جراد السماء، شيء ينفذ من خُرم الباب وآخر يتدحرج على حافة سكين، تتحول الأبنية الضخمة إلى لعبة متحركة، والعكس كذلك؛ سيارة لعب صغيرة تتحول إلى سيارة كبيرة تعمل على الوقود !!!، هنالك مشهد فُكاهي يتحول فيه «سكوت» إلى حجم فتى بالابتدائية شبيه بذلك المشهد في منتصف «ديدبول» عِندما تنمو قدماه من جديد بعد قطعهما؛ مشهد مذهل وفُكاهي جداً . يعود بفضله على قدرة المخرج «بايتون رييد» في جمع شتات فيلمه مابين الكوميدي والخيال والحركة مستنداً إلى خِبرته الطويلة مع أفلام ومسلسلات الدراما الكوميدية الخفيفة التي اشتغل عليها بقوالب بسيطة تجمع طيش المراهقة وبداية النضج في مرحلة منتصف العُمر، وهذا يتضح من خلال العلاقة التي تجمع «سكوت» مع حبيبته «هوب» بمشاركة الأب « الدكتور هانك بام»، بعلاقة ديناميكية سلسة وتلقائية، ناهيك عن العامل الابرز في الممثل (مايكل بينا) في شخصية «لويس» صديق وشريك «سكوت» في عمله، الذي سرق الأضواء من الجميع بخفة ظله وروحه المرِحة، مما يُؤكد على رجاحة اختيار المخرج المناسب في الفيلم المناسب، والذي استطاع من خلاله أن يُكسب الفيلم جزء غفير من خِبراته ويُضيف عليها في جعل كل ما يقع بيده من أدوات فنية؛ من ممثلين إلى طواقم تقنية وتكوينات بصرية لذيذة ومنعشة، مادة يستثمرها في المتعة والترفيه .


سيناريو الفيلم الذي قام بكِتابته خمسةُ كتّاب كان من بينهم «بول رود» نفسه، قائم على عملية إنقاذ «جانيت بام» من البُعد الكمي العالقة فيه، إلا أن الخُطة كالعادة لا تسير في اتجاه واحد بل تتعرض إلى تداخلات من جِهتين مختلفتين تُريدان الاستحواذ على ذلك المُختبر الذي فيه البوابة العابرة إلى العالم الكمي؛ واحدٌ من قِبل «سوني بيرش» (والتون غوجينز) الذي يعمل تاجراً في المعدات التكنولوجية في السوق السوداء، الذي يتفق مع الدكتور «هانك بام» وابنته على أن يبيعهم جِهاز يعمل على تحفيز فتح البوابة ويُدعى «المُكوّن» - الذي لا ندري ماهيته حتى الآن ! - فيعرضّ «سوني بيرش» على الدكتور «هانك» مشاركته أعماله من أجل تحقيق الأرباح المادية المشتركة وبطريقه يكتشف سرّ ذلك المختبر، إلا أن الأخير يرفض ذلك العرض قطعياً، مما يقود بدوره إلى استنفار «سوني» وقيامه بعمليات مطاردات سعياً منه نحو الاستحواذ على ذلك المُختبر عنوةً، وفي الوقت الذي يتقاتل فيه الاثنان على المختبر لا يعود هنالك اهتمام في «المُكوّن» أو تبيان أهميّته كما كان عليه سابقاً، مما يقودك إلى استفهام تعجبيّ : ما إذا كان له حاجة، إن لم يتم استخدامه طوال الفيلم ؟!، وفي الوقت ذاته، نسأل عن الحاجة الملحة نحو إقحام وسيط يقوم بتوفير أدوات تكنولوجية بسيطة مثل «المُكوّن» لمُختبر ضخم تم إعداده بتقنيات ومعدّات لا تستحملها قدرة السوق السوداء أو تسمح به الحكومة في المرور من خلالها؟!، فما هذا «المكوّن» الذي عجِز عنه الدكتور «هانك» بكامل قدرته على توفير تلك المعدات الضخمة وجعلته يلجأ إلى تاجر يعمل بنظام العصابات؟!، لا أجوبة منطقية يوفرها الفيلم. مما يقودك إلى حتمية القرار بحقيقة أن إقحام هذه الشخصية في هذا الموقف وهذا الزمن،دون دواعي درامية، يبرهن على مدى قصور كُتّابه الخمسة في خلق صِراع حقيقي يُحرّك الماء الراكدة في حبكة هذا العمل .



هذا ويقودنا إلى الجِهة الأخرى من صِراع الأبطال أمام تيار الشد العكسي والمتمثل بالشخصية «غوست» التي كانت ضحية تكنولوجيا الكم، وقادت إلى وفاة أبويها وقامت بتشويه بُنيتها الجينية؛ بحيث أضحت تستنزف طاقة جسدها وتعمل على تحلله بسرعة إذا ما لم توفّر مصدر الطاقة الموجود في المختبر، والذي يُبقيها على قيد الحياة ويُبقي خلاياها مُتماسكة. لكن على الرغم من الوضوح الذي تقدم به النص خطوة إلى الأمام إزاء تقديم هذه الشخصية، بالكاد نعي ملامحها، يتراجع من منواله خطوات إلى الوراء في حصر حضورها بإطار من السذاجة وعدم الإقناع وتحديداً بأن حضورها يكتنز داخل البذّة التي ترتديها وانفعالاتها مفتعلة وغير حقيقية، مما يحول بينه وبين التعاطي معها بجدية أكثر إزاء معالمها المُسطّحة وعواطفها الباردة، التي لا تحفّز تعاطفك معها ولا حتى اهتمامك بها، سوى وجودها كإضافة إلى سلسة العوائق المفروضة أمام الفيلم، والتي كان من الأفضل تجنّبها كي لا توقعه في مصيدة الاستسهال التي وقف عليها صناعه في نهاية المطاف ليقنعوك بضرورة عمل جزء جديد من هذه الحكاية . لكن في المقابل، وإذا ما أردنا النظر إلى النِصف الممتلىء من الكأس، فإن هذه التوليفة الكاملة من عمل مُبسّط كهذا كان عملاً ضرورياً على صُنّاعه تمريره عنوة أسفل اعتبارات النقد والنقاد؛ بيد أن الجمهور العريض لا يبتعد كثيراً عن خروجه من زخم «المنتقمون: الحرب اللانهائية» وثِقل الخطر القادم من قبل «ثانوس»، بحيث بات الآن بحاجة إلى عمل خفيف الظل يروّح عنه الخوض بتحدي جديد لا طائل من لحاقه، وبالنظر إلى أن هذا الطور من عالم الأبطال الخارقين قد شارف على الانتهاء فعلاً، فننتهي بواقع أن لا حاجة ملحة نحو تقديم تعقيدات إضافية وأشرار جُدد لا يسمنوا ولا يُغنوا من جوع.


تحياتي



الأربعاء، 4 يوليو 2018

«خيول أصيلة» : تجربة تدفع بالمخيّلة - مراجعة فيلم Thoroughbreds 2017





Thoroughbreds 2017 - خيول أصيلة

•  إخراج : " كوري فينلي "
•  التصنيف :  كوميديا- دراما- جريمة 
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★


يقول الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» : "من ينظر إلى الخارج عبر نافذة مفتوحة، يرى أقل بكثير مما يراه الشخص الذي ينظر إلى نافذة مغلقة ". ويفسّر المُخرج الفرنسي «جورج فرانجو» تلك المقولة : " بأنك لو نظرت من خلال نافذة مفتوحة فسوف ترى ما يوجد في الخارج . لكن لو نظرت من خلال نافذة مغلقة فسوف تتخيّـل كل شيء " .

قبل أيام فتحت شاشتي على فيلم «خيول أصيلة»، وعند انتهائي من مُشاهدته تدفق على رأسي سيلُ المقولات السابقة تباعاً، فوجدتها تتسق تفصيلياً بجانب ما عايشته مع هذا الفيلم الرائع، المفعم برحيق تلك العبارات الثاقبة التي عكست بدورها الوجه الحقيقي وراء قوة السينما، المشوه ثقافته عند كثيرٍ من العامة؛ لاعتقادهم بأنها مجرد عملية سرد تختزل رواية الأديب أو حِكاية الحكائي ومن ثم تحولها إلى سيناريو بصري يتتبعون خيوطه بحثاً عن الخُلاصة التي تؤمّن حاجاتهم الآنية من تلك التجربة.

غافلين أن الصورة السينمائية عبارة عن وسيط مرئي يوسّع من رؤية الحقيقة ويكشف عن أبعادها الكامنة، ويحيل إلى قراءتها ضمنياً بين السطور. بيد أن العين البشرية مثلاً؛ لا تستطيع الإلمام بكل ما يجري أمامها ، على عكس الكاميرا التي تنفذ إلى مناطق يصعب على العين أن تصل إليها في المقابل . فتخيّل معي هذا المشهد : فنان يقوم بتصوير أحد شوارع المدينة في أحد الأيام، وعندما عاد إلى منزله وقام بمُراجعة ما صوّره طوال اليوم يكتشف حدوث عملية قتل وقعت أمام ( عينيه ) ! . إنها بصيرة الصورة التي ننفذ منها وإليها ياسادة، و نعود ونحن جوعى إلى حِكمتها وبلاغة معانيها. هي الزمن الذي قام «آندريه تاركوفسكي» بنحته وتحنيطه، أو كما قال عنها «برتولت بريشت» واصفاً العملية الفيلمية برمتها : " الواقعية هي ليست إعادة إنتاج الواقع، وإنما في تبيان كيف هي الأشياء واقعية " .


«خيول أصيلة» الذي ينشده مُخرجٌ شاب قدِم مباشرةً من خشبة المسرح إلى شاشة السينما ويُقدّم فيلماً بهذه النبرة الصارخة، وكأن له باعاً كبيراً فيها، ما هو إلا استثمار حقيقي لسدادة رأي الصورة وما يُمكن أن تحتمله من مضامين شعورية تفتتح الآفاق الجديدة أمام المُبدعين لرسم ذواتهم وأفكارهم، ومن ثم المُتفرّجين لتنشلهم من القوقعة والكسل وتنطلق بهم نحو الاحتدام معها بكافة جوارحهم، وباختلاف أعراقهم وثقافاتهم . «كوري فينلي»، ذلك الشاب الناضج، الذي يتخذ نِطاق سرده خارج فضاء شاشته ويتحرر من كلّ القيود الشاغلة في الإطار، وينصرف نحو تضمين الصورة عن طريق الشعور بدلاً من تصريحها عن طريق الإدراك؛ ذلك أن كثيراً من أحداث الفيلم المهمة تحصل في الخلفية؛ بعضها يحدث في البعيد المُدرّك سمعياً باستمراره وبصرياً في جموده، والآخر شعوري في ما تفرزه العلاقة الحميمية بين الفتاتين، للحظة تشعر بأن العلافة المثلية حاضرة بينهما، ليس أمام الشاشة وإنما في الذهن مباشرة . تلاعب المخرج هنا، واضحٌ للعيان؛ بين إفصاحٍ وإضمار، تنشلنا الكاميرا أحياناً إلى زوايا مُظلمة وأخرى ثابتة، لا تُصرّح كثيراً ولا تلمّح كذلك، لكن في الوقت ذاته تسرد في مُخيّلتنا أكثر من اللازم . وكأن السيد «فينلي» يُضايقنا في أول لقاءاتنا معه، بابتعاده المتعمّد عن الإفصاح المباشر عن طبيعة ما يرمي إليه أو عن مُجريات ما ينصبه أمامنا . وكأنه يدعونا شخصياً إلى ترك عجلة التأويل شغالة في المُخيّلة والاستمتاع بما يتناسب مع خصوبتها في استكمال باقي خيوط الحدث؛ الذي قد يبدو بسيطاً من خارجه، لكنه كابوسيٌّ وقاتمٌ من الداخل .



عرض «خيول أصيلة» ضمن فعاليات مهرجان «صاندانس» السينمائي العام الماضي ونال حفاوة الغالبية فيه، قبل أن يتم عرضه تجارياً في «مارس» الماضي، ويحكي قصة فتاتين مُراهقتين : الأولى «أماندا» ( أوليفيا كوك ) والثانية «ليلي» ( آنيا تايلور جوي ) . كلا الفتاتين كانتا صديقتين في فترة الطفولة، لكن ما حدث في حياة «أماندا» انعكس سلباً على استمرار علاقتها مع «ليلي»، مما أودى إلى انفصالهما عن بعضهما البعض، ليعودا في فترة المُراهقة من جديد من خلال قيام «ليلي» بتقديم دروس خصوصية لـ «أماندا» بعد أن عانت الأخيرة من اضطرابات نفسية إثر فضيحة تتعلق بقتلها حصانها مما أدى إلى خروجها من المدرسة . الأمر الذي اضطر والدتها من أن تُراسل «ليلي» من أجل تقديم يد العون لها عن طريق إعطاءها دروساً خصوصية لتلملم شملها من جديد ولكي تقترب منها أكثر فأكثر، إلا أن «ليلي» تُعاني، هي الأخرى، من حياة بائسة مع زوج أمها الثريّ والمُتغطرس، وتحمل له جامّ المشاعر من الحقد والكراهية، اللذان يتفاقما تدريجياً مع عودة لم الشمل مع «أماندا» فتُعاد الرفقة مجدداً إلى مجاريها، لكن هذه المرة من أجل القيام بجريمة قتل تستهدف زوج الأم .


«خيول أصيلة» يُذكرنا بأن صِناعة الفيلم الناجح تحتاج إلى كِتابةٍ ناجحة، وتلك الكِتابة تحتاج إلى منظورٍ مُناسب لاحتوائها . نص «فينلي» يهتم في الكشف عن الزوايا المظلمة من النفس البشرية المليئة بالأحقاد والرغبات المنزوعةٌ فتيلها، وتنطلق فِكرته من فقاعة فراغ تُصيب البشر في شتى مناحي حياتهم – تحديداً المُراهقين الذي يرفسون النِعمةِ أحياناً بوجه عائلاتهم - لكن هذه المرة اقتصرت على تصوير الأثرياء منهم؛ الذين حاول «فينلي» من أن ينقل حيواتهم الترفة إلى مرأى خاوي بلا روح، وبالتعريج على حياة كلٍّ من المراهقتين، اللتان لم تغب عنهما عين الكاميرا طوال مدة عرضه . الأولى «أماندا» التي فقدت العاطفة بمرحلة مُبكرة إزاء اضطرابات نفسية أودعتها بلا مشاعر، مجرد وجه ثابت وحركة «روبوتية» قادتها إلى عدمية مُطلقة؛ فتسخر بمن هم حولها وبمشاعرهم الكاذبة وتنصرف إلى إزدراء الطبيعة البشرية وتتعارض مع فِكرة الخلق والخالق والبشر ومُقدّساتهم . أما الثانية : على عكس الأولى، «ليلي»، الحساسة عِندما يتعلق الأمر بالتعبير عن مشاعرها المكبوتة ونزعاتها الدفينة تجاه زوج أمها، فمع عودة مجاري العلاقة مع «أماندا»، تُحفّز الأخيرة مشاعر «ليلي» الخاملة وتكشف عن حِدّة أنيابها . وكأنها علاقة تكاملية؛ واحدة تمتلك المشاعر بغياب الفعل وأخرى تمتلك الفعل بغياب المشاعر . يُذكّرك الفيلم بتحفة المخرج السويدي «إنغمار بيرغمان» : «بيرسونا»، لكن باختلاف البُعد الفلسفي وعمق المشاعر بالتأكيد . بالإضافة إلى النظرة المُسطّحة على شخصية كلّ من الأم وزوجها في عيون «ليلي»؛ فالأولى ساذجة وحمقاء فارغة ويبدو عليها ملامح الضمير المُنهك تجاه ابنتها إزاء زواجها المُبكر بوقتٍ قليل بعد وفاة زوجها السابق، أما زوجها الحالي فهو مُستبّد ويطغى عليه طابع الغطرسة والاستفزاز المستمر لـ «ليلي».


كان نص «فينلي» في البداية يملك رؤية إخراجية على المسرح قبل أن يتحول في نهاية المطاف إلى نص إخراجي على الشاشة . يتضح ذلك من خلال تقسيمه الحكاية إلى عدة فصول واستغلال خِبرته المسرحية في اقتياد ممثليه وضبط لقطاته وتحريرها الجمالي والمتأني، الغير مستعجل، بمساعدة المصور «لايل فينِسك»؛ صاحب عدسة فيلم «بوشويك» الذي استعان بفلسفة اللقطة الواحدة سابقاً، التي وبالرغم من جرأتها، إلا أنها كانت متواضعة جداً . أما هُنا، فقد كانت اللقطات ذات بُعد جمالي حقيقي يختزلها الأخير بين التطويل والتقصير وبين الاستطراد والإيجاز وبين التغوّل والتسطيح، بعضها ثابت، وآخر يتأرجح، تتفاعل بحيوية مع تكوينات «فينلي» البصرية والتي تحمل تيمة النص الرئيسية «عقدة الفراغ»؛ من حيث الانتقال بين المساحات الفارغة والأجواء الباردة والكادرات الواسعة، والممرات الطويلة في المسير، والمقرونة جميعها بشريط صوتي شيطاني ينشر وساوسه ونجاسته بين الأرجاء، يتدفق من آلات «طبول» و «تشيلو» متلعثمة، تُلوّث المَشاهد وكأنها تملئ فقاعات الفراغ بكوابيس مُزعجة، وكأنها تُترجم الاضطرابات عند الشخصيات وسلوكياتهم الشائنة .

يمتلك «خيول أصيلة» قوة «هيتشكوكية» رهيبة كالتي عند فيلمه «حبل 1948» المُثقل بالنزعات الإجرامية والنوايا الداكنة، والنابعة بالأصل من شخصيات لعوبٌ مغرورة وأخرى ملعوبٌ بها مهزوزة . كما أن أحداثه تنطوي على خطرٍ مُحتمل في أيّ وقت و بأيّة إيماءةٍ أو حركة . حواراته لاذعة كحد السيف، وأجواءه صادمة وكابوسيه . لكن ما يُميّزه حقيقةً هو الأداء المُتمكن من قِبل كادره التمثيلي، وخصوصاً الممثلان الرائعان : «أوليفيا كوك» والراحل عن عالمنا «أنتون يلشن» .


تحياتي

الأحد، 1 يوليو 2018

الفوضى الخلاقة في الحرب على الإرهاب - مراجعة فيلم Sicario: Day of the Soldado 2018





Sicario: Day of the Soldado 2018 - سيكاريو : يوم الجندي

•  إخراج : " ستيفانو سوليما "
•  التصنيف :  أكشن - دراما- جريمة 
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★


إذا ما حاولنا فهم الأسباب وراء عمل جزء جديد من فيلم « سيكاريو » سنجد عِندها أن المسألة برمتها تعود إلى تحقيق الربح المادي وضمان الجيب عند منتجيه . لكن هذا أسلوب يُلجأ إليه في الحالات التي يغزو بِها الفيلم شباك التذاكر وليس بالاكتساح النقدي وحده أو عدد ترشيحاته الأوسكارية مجتمعة، فإذا ما عُدنا إلى لغة الأرقام فيما حققه الفيلم الأول فإن 45 مليون دولار أرباح من أصل 30 مليون أخريات ميزانية لا تُشكّلان أي دوافع محضة نحو استكمال مشوار هذه الحِكاية، وتحديداً بالنظر إلى أن أحداثها قد أتمّت نِصابها بالفعل في الفيلم الأول، فما الحاجة إذاً إلى فيلم آخر ؟! .

يأتي الجواب من قلب الدراما في الفيلم الثاني والتي تنطلق من زمن يختلف عن الذي في الفيلم الأول، وهو ما لا يُمكن إلصاقه خطياً، بأيّ شكل من الأشكال مع أحداث سابقه، فهو ما يُمكن اعتباره أقرب إلى الـ « Prequal » ( الأحداث السابقة ) من أن يكون « Sequal » (الأحداث اللاحقة ) . فبالرغم من غياب الكادر الأسطوري والمتمثل بـ : المخرج « دينيه فيلينوف »، والمصور « روجر ديكنز »، بالاضافة إلى الجميلة « إيميلي بلانت »، والموسيقار الراحل « جوان جوهانسون»، إلا أن هذا الفيلم، مع مُخرجه الجديد وطاقمه، يظفر بهوية مُستقلة وسِمة تُقارب سِحر وسوداوية الأصل، ويتفوق عليه، أو يختلف عنه إن صح الحديث، بأن المسألة هذه المرّة لم تعد مسألة دِراسة لموضوع الحرب ذاتها ورُعب الخوض في مضمارها الحدودي بين الدولتين بل بتبعاتها على اللاعبين فيها إزاء غِياب الرقابة وأجهزة المسائلة، فضلاً عن انكشاف المستور وراء اللعب على حبلٍ مشدود بين الأطراف المتشاحنة وشخصنة بعض الصِراعات منها . « سيكاريو 2 » هو عن مأساة الشخصية على كل حال .


" مفترق طريق .. إتجاهات متعددة وغاية واحدة "

عدم مُقارنة هذا الفيلم مع سالفه هو قرار صائب تتخده في اللحظة التي تنتهي من مُشاهدته؛ ذلك أن المعضلة الأساسية لم تعد تتعلق بما إذا كان هذا الفيلم يُضارع الأصل أو يقترب من إنجازاته بل بحقيقة أن الاختلاف الناشىء بينهما هو إحترام في حدود الفيلمين لما قدماه من أساليب مغايرة لا سبيل من فرضها على طاولة النقاش . والمتسبب الوحيد في نشوء نزاع التفاضل عند الجمهور هو الجِهة التي قامت بعنونة الفيلمين : فريق يذهب إلى وضع اللوم على التسمية الأولى، وآخر على التسمية التالية . والحقيقة أن دفة المنطق تذهب مع الفريق الأول قلباً وقالباً؛ بيد أن الفيلم الأول لا يستحق عنوانه، حتى ولو كان ذا مدلول يحمل تفاصحاً كاريكاتورياً عِند شخصية القاتل المأجور « أليخاندرو » !؛ ذلك أن نص « تايلور شيرادين » قائم على نزع المِحورية من شخصياته والاهتمام بتفاعلهم مع ما تفرزه بيئة الحرب على المخدرات وليس بما إذا بُنيت من عدمه، فهو عن تجربة الحرب ذاتها وليس عن دراما الشخصية؛ بحيث ننطلق بداية الفيلم مع « مايسر» ( إيميلي بلانت ) وننتهي مع « أليخاندرو » ( بينيسيو دي تورو )، لكن في النهاية نكتشف أنهما كانا مجرد بيادق صغيرة في لعبة أكبر منهما الاثنين .

فالفيلم الأول كان أقرب إلى الدِراسة والتجسيد الحيّ والمُباشر لحرب شائكة بين الحدودين ونابعة بالأصل من شخصيات غامضة تلعب في الظلام وكأنها وُلدت من رحمه، فلا يسعني في هذه الحالة إلا وذكر تعابير وجه « إيميلي بلانت » في كل إيماءة أو حديث أو فعل كان يُقابلها ويعكس بدوره الكثير مما تحمله تلك الحرب من ظلاميات وخفايا لا تحتضنها أسرار أو تضمرها نوايا، فقد كان وجهها كالمرآة التي تعكس واقع الحرب من منظور متفرج لاحول له ولاقوة . « دينيه فيلينوف » في السابق استطاع انتشال نص « شيرادين » الذي يتسم بالتواضع دون تجاهل مدى رصانته وتماسك خيوطه، فحوّله إلى إنجاز بصري أخّاذ يُرهق العين جراء مُداعبتها بخشونة . إنه واحدٌ من المخرجين الذين يعلمون المدى الذي يُمكن أن تصله رؤاهم والبصيرة التي يمتلكونها في سبر مفاهيمهم الذاتية نحو إنجازات جريئة وتقدم جرعة نقدية لاذعة للمواضيع المطروحة . و« سيكاريو » واحدٌ من أقرب الأفلام إلى الكمال في تناغم الشكل مع المضمون، الذي أججته عدسة « روجر ديكينز » بلقطات بانورامية مُتلصصة ومتأملة لمساحات شاسعة من الأراضي الحدودية ووابلِ عشوائيتها وإشكالية التعامل معها، والبحث عن حلول لها هو أشبه بالبحث عن إبرة بكومة قش !، ناهيك عن عُمق الميدان الذي خلقه « ديكينز » بحيث لم يُفوّت أي « تفصيلة » صغيرة من إطار الصورة إلا وقام بتدوينها، للحظة تشعر بأنك قادر على إشتمام رائحة المكان الذي على الشاشة . ولا ننسى النصيب الأكبر الذي اقتطعه الموسيقار الراحل « جوان جوهانسون » بمقطوعاته الصاخبة والمتوحشة والكاتمة للأنفاس، فما إن تلبث حتى تُصيبك بقرحة في المعدة وارتفاع في عدد خفقات قلبك وكأنها تُلقيك إلى حافة الهاوية وتبقيك مهدداً بالخطر في أيّ لحظة هناك .

الفيلم الثاني يهدف إلى التناول أكثر من الدِراسة، لكن دون إغفال جانب التهكم على الجانب السياسي الفاعل في الحرب فقد كانت الدراسة قيد الاشتغال على طول عرضه ، لكنها كانت في مجال يمنعها من أن تستحوذ تماماً على خط سرده كما كانت عليه في الفيلم الأول فهنا يركّز أكثر على الشخصيات ويبنيها بأسلوب أوضح في المعالم مع الابقاء على جانب الغموض الذي خلق جاذبيتها سابقاً وأبعدها عن التنميط والتكرار .

تدور قصة « سيكاريو : يوم الجندي » حول تصاعد حرب المُخدرات على الحدود الأمريكية – المكسيكية جراء تفشي عمليات التهريب التي لم تقتصر على الممنوعات وحدها بل بدأت بنقل المهاجرين الغير شرعيين إلى الأراضي الأمريكية، مما أودى بعمليات إرهابية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي جعل جهاز الاستخبارات في اللجوء إلى التعاقد مع العميل الفيدرالي « مات غريفر » ( جوش برولين ) من أجل القيام بمهمة حساسة بمشاركة القاتل المأجور « أليخاندرو » ( بينيسيو ديل تورو ) بهدف الايقاع بالعصابة المسؤولة عن عمليات التهريب تلك .


" ماكينة الفوضى .. أروقة وقرارات "

نص « تايلور شيرادين » يهتم بصناعة الفوضى أكثر من اهتمامه بالحبكة التي قد تبدو مُربكة للمُتفرج أثناء المشاهدة لكنها توازي فوضى الحرب وحساسية الأطراف المتنازعة فيها، وإذا ما عُدنا إلى أحداث الفيلم الأول فالقصة لم تكن من أولوياته بحيث تخرج منه كما دخلته أول مرة حاملاً للأسئلة أكثر من احتمال صُنّاعه بتوفيّر الأجوبة عليها، ولو تم ذلك، فلن تستوعبها كاملة؛ ذلك أن مشاهدته كانت أشبه بقيامك برحلة ميدانية إلى تلك الحدود، لن تستطيع تكرارها مدى حييت، وفي المقابل لن تكون قادراً على فهمها بين ليلةٍ وضُحاها .

في هذا الفيلم يتناول « شيرادين »الجانب العملياتي للاستخبارات الأمريكية والدخول بين أروقة صُنع القرار و أساليب صياغة الفوضى وإدارة الصِراع من هناك . ففي المشهد الحواري الذي جمع « مات غريفر » مع السيناتور الأمريكي يُخبره « مات » : " إذا ما أردت النجاح في هذه القضية فما عليّ إلا اللعب بقذارة "، فيأتي ردّ السيناتور لاذعاً : " القذارة هي سبب وُجودك الآن... فهي التكنيك الناجح الذي استخدمناه في الشرق الأوسط ! " . يُذكرك هذا المشهد بالسياسات الأمريكية الراهنة أمام متغيّرات المناخ السياسي في العالم – العربي تحديداً - بعد فترة الحرب العراقية عندما تحولت سياستهم إلى حرب وكالات في الشرق الأوسط بدلاً من الحضور العضوي هناك عن طريق خلق الفوضى وإدارة الصِراع من بعيد، الذي بدأ بما يُسمى بالفوضى الخلاقة ونتج عنه لاحقاً فيما عُرف باسم «عصر الصحوات » الذي قام بعد الاحتلال الأمريكي في العراق واستمر إلى يومنا هذا مع صعود كبير للتيارات الإرهابية التي عززت من أهمية الوجود الصحوي والذي بدوره يريح الكاهل الأمريكي من الخوض بجنوده حروباً ميدانية واستبدالهم بالمليشيات المحلية – أصبحت دولية الآن، فقد استطاعت السياسة الأمريكية من خلال هذا التكنيك شراء ذمم بعض العشائر العراقية لتحقيق أهداف عسكرية بغية تجفيف منابع التيارات الجهادية ( الارهابية )، فضلاً عن قيام حوادث اختطاف محبوكة قامت بها بسرّية مطبقة وعلى طريقة العصابات من أجل ضرب الأطراف بين بعضها وتأتي هي كالمُخلّص وتفرض سيطرتها، كالذي قامت به في الفيلم هنا عندما قررت شراء ذمم بعض « الكارتيلات » عن طريق عمليات إختطاف وقتل ممنهجة من أجل إسقاط « الرأس الكبير » وهذا ما لجؤوه في إختطاف الفتاة « إزابيلا » التي تنتمي إلى إحدى العصابات المكسيكية والقيام بتصفية العصابات المنافسة ومن ثم ضربهم بين بعضهم فيُسهّل على الجِهات الأمريكية استخلاص غاياتها وتمكين قاعدتها العسكرية من الدُخول إلى العُمق المكسيكي، أو كما قالها «مات غريفر » لمُساعدة السيناتور مؤشراً على القاعدة العسكرية التي هم فيها : " هذا هو مُستقبلنا وهكذا نكسب ! ". وكم تحلم الإدارة الأمريكية أن يكون لها قواعد عسكرية في كلّ شبر من هذا العالم كما تفعل الآن في الشرق الأوسط ! .

تأتي الأحداث بموازاة أوضاع راهنة تعيشها الولايات المُتحدة الأمريكية إبان تسلّم رئيسها الجديد «دونالد ترامب» مقاليد السلطة ، وتقليم مدد المهاجرين الغير شرعيين القادمين عن طريق دول مُجاورة - المسلمين على وجه التحديد- كان من بين أهم برامجه السياسية وأحد أولوياتها ، لكن لو أمعنا النظر في بداية الفيلم سوف نرى أن العملية الارهابية التي قام بها مُسلمون واستهدفت شريحة كبيرة من الضحايا وكان من بينهم إمرأة شقراء مع ابنتها الصغيرة - كانت لقطة رائعة ، لا تقف عند هذا الحد بل نذهب إلى منتصف الفيلم ونرى شقراء أخرى أمريكية ومع طفلتها تتعاون مع عمليات التهريب ! ، إذاً ، وكأن «شيرادين» يقودنا إلى حقيقة أن المشكلة لم تعد مركزية كما كانت عليه سابقاً بل تشعبت وأصبحت أكثر عقماً. فلا تقتصر هذه المرة على فئة بعينها أو «أجندة» موحدة كذلك، بل تُشرك الجميع في هذه الجريمة الشنعاء، وأولهم سياسة بلاده .

إن ما يُميّز هذه الأفلام عن غيرها هو عامل الجدية الذي يُراهِن عليه كاتبه « تايلور شيرادين » من خلال توليف المشاهد وحياكة الشخصيات، وإذا ما قُلنا شخصيات فنحن نقصد الكومبارس قبل الرئيسة . الكليشيه شبه معدومة من ناحية تفاعلهم مع الموقف دون تصنّع أو افتعال، الأمر الذي يجعلك دائم التواصل ومشدود الأعصاب مع ما يُحيطهم وفي تربّص للمصيبة القادمة . شخصيات « سيكاريو » صارمة وقوية وفيها جأش الرجولة وروح الميدان، تنصهر مباشرة مع المشهد وكأن لها باع كبير في هذه التكتيكات العسكرية . هنالك مشهد تتغير فيه معالم الخُطة إزاء كمين يُصادف عملية التسليم، فما إن يلحظ « مات غريفر » ذلك التغيير يلجأ إلى وضع خُطة بديلة مباشرةً دون تضييع وقت بإلقاء الملومات واستنزاف في الحوارات المُستهلكة التي تسمح للمتفرّج بأن يرتاح أثناء المُشاهدة، فهذا الفيلم ليس للذين يظنون أن هذا العالم مرتعاً للراحة ولا جاذباً للنهايات السعيدة والشخصيات الكرتونية التي تجعلنا لا نُفكّر أبعد من مناخيرنا .


" إنجاز جديد لمخرج ضليع في عالم الفساد والجريمة "

هذا ويقودني الحديث إلى مجهود المُخرج الإيطالي « ستيفانو سوليما » مع تجربته الأولى خارج بلده التي كانت مليئة بإنجازات رائعة على المُستوى الشخصي، فقد شاهدت له فيلمين يتسمان بإجادة المُخرج الصلب، وهما : « جميع رجال الشرطة ملاعين 2012 » و « سببورا 2015 »، وبصماته في كلا الفيلمين كانت مُتواجدة سواء في فساد شرطة فيلمه الأول أو « تكنيك » تصفية الحسابات وحرب العصابات في فيلمه الثاني، فكلا الفيلمين كانا يتسمان بالجدية والواقعية التي خلقها داخل إيقاع يُثير الدهشة والاهتمام، فعكسها بجدية أكبر وسوداوية أكثر على فيلمه الجديد « سيكاريو 2 »، بمشاهد حامية الوطيس وجريئة في التصوير وتحديداً تلك اللقطات التي فيها التفجيرات حية ومباشرة، بالتعاون مع المصوّر البولندي « داريوس ولسكي » من خلال لقطات الانزال المظلي والعدسات الليلية في مشاهد الاقتحام التي تم تصويرها في الاضاءة الطبيعية والتي تضعك مباشرة في عمق المشهد، ناهيك عن « مرشحات اللون » التي تمزج ما بين الأزرق والأخضر التي أضافت نوع من القتامة الخانقة وتضع جميع الشخصيات في المنطقة الرمادية، فضلاً عن موسيقى الآيسلندية « هيلدور غوانادوتير » التي هي أشبه بموسيقى « هانز زيمر » في فيلم « دنكرك » ذات الايقاع الهلِع والمرعب والتي تُبقيك متأهب لأي خطر قادم . صحيح أن التواصل مع الأمكنة وتوزيع أزمنة الفيلم كان مُربكاً بعض الشيء ويحبس المعلومة عن المتفرج ولا يُصرّح كثيراً، فهو عمل لا يُمكنه التنصل من عيوبه على الإطلاق، إلا أن النتيجة النهائية وبالنظر إليه كرزمة واحدة، فقد كان مُقنعاً جداً ومُخرجه قام بمجهود يفخر به « دينيه فيلينوف » نفسه .

فلا أنسى تتابع المشهد الخِتامي الذي حمله الأداء الأعظم من قبل « ديل تورو » وشريكه « برولين » والمأساة الحقيقية التي واجهت الاثنين، خصوصاً « ديل تورو » الذي قدم أداءً يخدش الذاكرة بجبروته، أو ذلك المُدعى بـ « برولين » الذي ارتفع رصيده بعد ثلاثة أفلام ( الشجعان فقط، المنتقمون، و سيكاريو 2 ) متواصلة عندما نجح في أن ينتزع الدمعة من مقلتيّ المتفرج حتى عندما كان في شخصيته الخيالية « ثانوس » رغم دفنها تحت وابل من المؤثرات، إلا أن هذا الوجه المليء بالقسمات التعبيرية أودعتني،شخصياً، في صدمة جراء التحوّل القاسي في الثلث الأخير من الفيلم بعد خلط الأوراق والذي قاد بموجبه إلى الكشف عن ما يرزح أسفل قناع الصرامة والخباثة الذي كان يعتريه طوال الفيلم الأول، ولا ننسى مقطوعة « الوحش » التي عزفت في النهاية الأكثر من رائعة بقدر ماهي حزينة ومؤلمة إزاء المصاب الذي نزل بالجميع في هذا الفيلم، فكانت أقرب إلى الرثاء الحزين لسعادة غائبة عن عالم يعيش مآسي الحروب على المخدرات وما يُحاذيها الإنسان حديثاً الذي أصبح سلعة أقلّ سِعراً من كيلو « الكوكائين » في السوق السوداء، وهي بالتأكيد كانت بمثابة رثاء حقيقي آخر من قبل فريق العمل المخلص للمتوفى الموسيقار الكبير « جوان جوهانسون » الذي غادر عن عالمنا مطلع هذا العام ولم يترك لنا سوى مقطوعاته الخالدة في أذهاننا وقلوبنا جميعاً .

تحياتي