Mission: Impossible - Fallout 2018 - المهمة المستحيلة - السقوط
• إخراج : كريستوفر مكواير
• التصنيف : أكشن - مغامرة - إثارة
• حالة المراجعة : بدون حرق
• الكاتب : ليث التميمي
• التقييم الشخصي : ½★★★★ (ممتاز)
يمثل فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة - إذا ما فكّر «توم كروز» فيما أفكّر! - التي بدأت عالمها السينمائي قبل نحو 22 عاماً على يد المخرج الأمريكي «برايان دي بالما» بَعد أن كانت تُعرض على شكل حلقاتٍ تلفزيونية لمسلسل يحمل نفس الاسم بدأ مشواره هو الآخر في منتصف الستينات من القرن المنصرم وإنتهى في مطلع التسعينات؛ فترة التأزّم الحاصل بين المعسكرين الشرقي والغربي :«روسيا» و«أمريكا» أو فيما عُرف بمصطلح «الحرب الباردة» ، وقت ما نشأت هذه السلسلة في خضمّ تلك الأحداث، وما لحقها، على أساس عِدة عوامل - بعضها مَناخي سياسي والآخر ترفيهي هروبي - ساهمت في إنجاحها العريض بين الأوساط الجماهيرية واستمرت إلى يومنا هذا في تقديم المَزيد من تلك الحميمية المفتقدة التي تضخّها دماءاً جديدة في أجساد معجبيها.
كلا العالمين :التلفزيوني والسينمائي اهتديا، ولازالا، إلى مرجع روائي واحد خَطّه الكاتب والمؤلف «بروس غيلر» وجعل كلٍّ منهما ينتمي إلى وِجهة النظر نفسها من حيث الاشتغال على التركيبة الشكلية ذاتها واستغلال الخطوط الدرامية العريضة التي تقضي بضرورة إنقاذ العالم مِن التَهديدات الأمنية؛ الحاصلة بين الحكومات من جهة والمنظّمات الأرهابية من جهةٍ أخرى، التي لا يَقدِر على التصدي لها سوى أجهزة عسكرية غير موثّقة في السجلات الحكومية وتَعمل بشكل غير رسمي في الظِل؛ كما هي منظمة «MIF » هنا التي يترأسها مدير الاستخبارات الأمريكية في السر ويضع استراتيجياتها ويموّلها بميزانيات خارج الحِسابات ومن ثم يُسنِد مَهامها الميدانية إلى قائد عملياتي محنّك مثل «إيثان هانت»؛ تم تدريبه على أعلى المستويات العسكرية و الإستخباراتية، ومن هذه الفِكرة تنطلق دراما الحِكاية وجاذبيتها في استقطاب المناصرين لاستمرارها؛ من حيث جهودها المبذولة باستمرار على حياكة مشاهد أكشن وحركة ضخمة واستثمار مساحات فضفاضة لألاعيب العقل والذكاء وباستخدام شتى الأدوات التكنولوجية في التنكّر والتلاعب والمقامرة على مصائر البشرية، فضلاً عن الممارسات التجاوزية التي تقوم بها الجِهات الرسمية في الكواليس لتثير الجَلَبة في هذا العالم، فهو سبب كافي ليثير جانب الحَماس عند المتفرّج في اختباره على الدوام.
على طول عمرها، تعرضت هذه السلسلة من الأفلام إلى كثيرٍ من التجريب في سبيل صياغة أساليب استثنائية تضمن لها الاستمرارية والعطاء، وكذلك من مقدرة أبطالها على ترجمة التعبير المَجازي «المستحيل» إلى «الممكن» بصورة جدية بعيدة عن نطاق الخزعبلات. وإذا ما عدنا إلى هذه النقطة فنجد عندها أن كل عمل من هذه السلسلة كان ينطوي على رؤية مُغايرة لما سلفه، عائداً بدوره إلى واقع أن الممثل «توم كروز» هو أحد أهم المنتجين والقائمين على مراحل الإنتاج والإعداد في أرض الميدان، وعلى ضوءه تُنسَب إليه مهمة إختيار المخرج المناسب والأسلوبية المناسبة في تمكين رؤيته، وبالنظر إلى عَمله الدائم مع أسماء بارزة في هذا الوسط؛ كان من بينهم : « برايان دي بالما» و« جي جي آبراهام»، إلا أن التعاون الأبرز كان مع المخرج الحديث « كريستوفر مكواير» الذي قام بإخراج الفيلم السابق «أمة النقابة» واستمر، تجاوزاً للبروتوكولات، ليفرض بصماته الإبداعية على هذا الفيلم أيضاً.
يتتبع فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» فريق الإستخبارات المَركزية السري «MIF» بقيادة «إيثان هانت» (توم كروز) بَعد قيام الجماعات الإرهابية التي تنتمي إلى منظمة «النقابة» التي قام بإسقاط قائدها «سولومون لين» (شون هاريس) في الفيلم السابق بسرقة ثلاثة رؤس نووية من أجل بيعها في السوق السوداء، فيذهب «إيثان هانت» وفريقه من أجل الحصول على تلك الرؤوس النووية بواسطة وضع خطة لمنع وقوعها في الأيدي الخاطئة، لينطلق بعدها ضمن مطارادات ومخاطرات بالجملة في سبيل إنقاذ العملية والحصول على الرؤوس الحربية تلك، إلا أن الخطة، وكما هو المعتاد، لا تسري في نصابها الصحيح.
من بين جميع هذه الأفلام سواء كان على الصَعيد الحصري بالسلسلة أو الخارجي مِنها، فإن «المهمة المُستحيلة - السقوط» يُعد واحداً من بين أكثر الأفلام إجادة وأكثر تميّزاً بل وأكثر تحدياً يُمكن أن يطرحه صنّاع سينما الأكشن اليوم، بعد أن أزاحت التكنولوجيا عن كاهل الجميع عناء الخروج من «خُمّ» الأستوديو واكتئاب الشاشة الخضراء ليتعرضوا، ولو قليلاً، لأشعة الشمس الطبيعية!، فهذا عائدٌ بالطبع إلى جدّية رجل إسمه «توم كروز» الذي سرعان ما انخرط في الصناعة وتعلّم فوائد الجمع بين «البزنس» و«الفن» في تناول تلك المعضلة وعكسها لصالحه؛ عن طريق وضع خطط تعمل على إنعاش هذه السلسة وتغذيتها من جميع الجوانب المَشهدية الحيّة والاجتهاد على سد ثغراتها بفلسفة :"الرؤية أكبر من التِقنية" والتي تستند بأسلوبها إلى السلَف من السينمائيين في انتهاجهم العمل اليدوي والحضور العضوي في ميدان المُخاطرة، ضامنين بذلك حصول أعمالهم على المكانةِ الأبرز بين أعمال أخرى انتهجت الرقمنة (الحرمنة) ومؤثرات الحاسوب في توليفها بأفكارٍ مسلوقة وتسلقنا معها.
لذلك، يُعد «توم كروز» هو العجلة المحرّكة وراء العديد من الأعمال المثيرة للفضول والدهشة في هذه السلسة، وكلّ ذلك من أجله أن يصنع هوية مستقلة في سينما هذا النوع، أو على الأقل بالنسبة إليه كممثل يهوى المجازفات وصِناعة الخَطر، حتى ولو كان على حِساب حياته ومستقبله المهني، إقتداءً بما سلفه من عظماء المخاطرين في السينما، أمثال : «باستر كيتون» و«هارولد ليلويد» و«جاكي تشان»، الذين ليس بالضرورة وضعهم رغبات الجمهور صوب أعينيهم كأولوية قُصوى وعلى أساسه يشرعون في التضحية بحيواتهم!، بل بواقع الاستماتة ليبارزوا أنفسهم وليتفوقوا عليها في سبيل الارتقاء إلى مستويات أعلى من «الممكن» وأقرب إلى «المستحيل»، كحال «توم كروز» هذه الأيام التي نجح من خلالها في أن يعلو كعب نظرائه من ممثلين، لن نقول أصغر عُمراً ! ، ولكنهم ذوي بُنى جسدية أفضل وقامة أطول، لازالوا عاملين تحت تخدير الشاشة الخضراء ولاسيما الذين ينخرطون بأعمال مثل «الأبطال الخارقين» التي امتهنها الممثلين لكي تغطّي مصاريفهم الشخصية والتي لا توفّرها أفلامهم المستقلة أو التي تقبع خارج هذا النوع أو تفكّر خارج الصندوق. لذلك، وإذا ما لاحظنا في العقد الأخير على إمتناع السيّد «كروز» عن تقديم أداءاتٍ أوسكارية أو أعمق تجسيدياً، فهذه السلسة وما قدمته برفقته كفيلة بوضع الأوسكار في الدرك الأسفل من الاعتبارات، فإذا ما كانت جائزة الأوسكار تُعدّ معياراً يغربل مقاييس النجاح والفشل في كنف التحديات والمبارزات التمثيلية، فإن ما يُقدمه «توم كروز» هنا عبارة عن مبارزة ضد الموت؛ أي احتمالات مثل الفشل حاضرة وليست ببعيدة عنه.
هذا ولم أذكر بعد دور السينمائي البارز بين أقرانه في الكِتابة التشويقية المتلاعبة «كريستوفر مكوايار» الذي عاد مؤخراً للوقوف خلف العدسة في تعاونه الثالث والناجح مع «توم كروز» ليترأس الفيلم من نواحيه الفنية والتِقنية ويُقدّم وجبة دسمة في التكوينات البصرية الأخّاذة التي أعادات لسينما الحركة هيبتها من بعد مبدعين أمثال : «ويليام فريدكن» و«مايكل مان» وغيرهم، في العودة إلى نُصوصه المنعشة والمتلاعبة التي يُغذّيها بسيلٍ من الإلتواءات والحوارات المرحة والايماءات المتخابثة كما عهِدناه مع أول سيناريو له في فيلم «المشتبهون المعتادون» الذي حصد عنه الأخير جائزة أفضل نص أصلي في أوسكار «1996» .
قدرة «كريستوفر مكواير» كامنة في الحصول على أفضل سرد لحكاية تحمل تعرّجات كثيرة وإلتواءات بالجملة؛ صحيح أنها لا تملك طبقاتٍ متنوعة وقراءات متغولة للحدث، فالمَشهدية خطّها واضح، إلا أنها متعددة الأوجه وكثيرة التقلبات، وفي الوقت الذي تَعي تماماً إلى أين سيقودك الحدث تكتشف حينها أنك مُخطىء. في السنوات الماضية كان عمل النَص يلعب دوراً تكاملياً حسَب ما تستطيع توفيره أدوات الذَكاء التي يُمكن إستخدامها كمادة درامية تُغذّي الحَدث، لكن في هذا الفيلم النَص هو البطل الرئيسي، من حيث الجرئة في تقديم خطوط سردية مزدوجة، تتقاطع مع بعضها البَعض بشدة، لكن ليس لتخميد الصِراع أو إنهاءه بل لتضخيمه وتعقيده. يتضح ذلك جلياً من خِلال حياكة «مكواير» أحداث متنوعة تنشأ في أماكن وبُلدان مختلفة، ناهيك عن العدد الوفير من الشخصيات الفاعلة والتي تضمن مكانها في اللعبة الكبيرة؛ مِنها الشخصية الرئيسية«إيثان هانت» الذي يجابه مع فريقه خطر المؤامرة الكبرى ويتصدى لها بكل ما أوتي من قوة رغم التكالبات المثارة ضده، وشخصية «إيلسا فيشر» (ريبيكا فيرغسن) التي تعمل مع الإستخبارات البريطانية في سبيل إثبات ولائها الذي إنصهر مع أحداث الفيلم السابق وتحاول جاهدة هنا في الهروب مِنه عن طريق تقاطعها مع أهداف «إيثان هانت» في إفساد العملية ويدخل الصِراع بموجبه في منطقة المشاعر واختبار الوازع الأخلاقي وموثوقية العواطف!، أما في الحَديث عن الدور المزدوج لـ «أوغَست وولكر» الذي لعبه (هنري كافيل) فهنا تكمن المُشكلة الكُبرى أمام «إيثان» الذي يحاول الحياد عن الوقوع في شِرك تلاعبه والمحاولة في تنبؤ أفعاله طوال الوقت!؛ تحديداً بأن (هنري كافيل) يُدرِك تماماً دوره هنا ويحاول أن يُقدم أداءً شريراً مزدوج الإيحاء ويثير الريبة دائماً، لكن في الوقت ذاته يتنامى كلّ ذلك تدريجياً في علاقة ديناميكية بنكهة كوميدية تجمعه مع «إيثان هانت» ويقدّمان لنا أجمل اللحظات عِند التقاءهما وتحدّيهما المستمر لبعضهما حتى وإن انتهت بمُجرّد نظرات عابرة، ناهيك عن باقي التقاطعات التي يَحمِلها ماضي «إيثان» مع زوجته «جوليا» (ميشيل موناغان) والتي يتَصادف وأن تدخل اللعبة عنوةً عن إرادة «هانت» ليدور الأخير في دوامة لا تنتهي من الأحداث الملتوية التي تتطلب منه القيام بقرارات أكثر صعوبة.
لكن هذا ليس كلّ شيء، هناك معضلة أخلاقية تواجه «إيثان هانت» من جانب الشر القابع في شخصية «سالمون لين» التي وإن كانت الحلقة الأضعف من حيث التأثير إلا أن وجودها كان ضرورة لا سبيل من تحييدها؛ من حيث مكاشفتها لـ«إيثان هانت» ومحاولتها لزعزعة إيمانه في القَضية التي يتبنّاها منذ أن إختار هذا الشكل من الحياة.
"لايوجد سلام كبير إلا بمعاناة كبيرة... فكلما كانت المعاناة أكبر كان السلام أكبر"، «سالمون» يُخبر «إيثان». عبارة نمطية على طراز كثيرٍ من عبارات بالية شَهِدناها سابقاً، لكن بواقع حضورها في قلب الدراما في الفيلم يُمكنها أن تكون سِلاحاً ذو حدين يعكس بدوره صِدام المبادئ بين الرجلين كنموذج للصراع الذي يَحدُث في هذا العالم، وعلى اعتبار أنهما خرجا من رحم القضية نَفسها التي ناضلا من أجلها وخدما بلادهما على أساسها، إلا أن الأول سرعان ما تبددت مبادئه وتحولت إلى صورة مُعاكسة بَعد أن كَشف زيف تلك المبادىء وزيف السياسات التي تبنّتها وغَسلت بها دماغ الأكثرية نحو الابتعاد عن أي تغيير جذري لحال هذا العالم وإنما باللعب بجنون لإدارة الصِراع وتوسيعه دون حَلّه. ولاعتقاد «سالمون لين» بأن الدمار والخراب اللذان سوف تنتجهما حرب نووية على المحك وتلتهم الأخضر واليابس كفيلة بإعادة النظر في وحدة البشرية من جديد، ولعلها تنشلهم من مستنقعات الجنون التي يغمسون أنفسهم بها يوماً بعد يوم، ولهذا يُسهم دور المقولة بالسير في نصاب الدراما الصَحيح الذي لا يُمكن لأخلاق «إيثان هانت» من أن تَفهمه؛ كيف لا، وهو طوال الوقت يُعطي الأولوية لحياة الآخرين على حِساب حياته وتقديم حياة الفَرد على حِياة الجماعة!، إلا أنه وفي الوقت ذاته تختبر هذه العِبارة «إيثان» في نقاط ضَعفة وتضعه أمام منعطفات مدوية تفرض عليه التخلّي، ولو جزئياً، عن تلك المبادئ والسير عكس التيّار في سبيل خدمة قضيته الكبرى.
صَحيح أن تتبع هذا الكَمّ الهائل من الخُطوط والتقلّبات صَعب المَنال، إلا أن أحداث الفيلم بقوة ضخّها لوتيرة الفيلم وتسارعها في الإيقاع تسعَى جاهدة بأن تُنسيك عبث البحث عن خط يجمع ذلك كله. يرجع هذا إلى مَقدرة «كريستوفر مكواير» على تمكين إيقاعه وتكوين لقطاته بحذر ودِقّة. فلن أتحدث عن أيّ واحدٍ من مشاهد الأكشن كان الأفضل!، فالأمر يَختلف في هذا الفيلم عن باقي أفلام السلسلة، فإذا ما كان كلٍّ واحدٍ منها في السابق يُراهِن على مَشهدٍ أو إثنين ليبقيهما في ذِهنية المُتفرّج فيجب القول بأن كلّ مَشهد من مشاهد هذا الفيلم يُمكن فصله على حِدة وتصنيفه داخل «بورتريهات» مستقلة تستدعي الشرح المطوّل والاستطراد في براعة تكوينها وعمقها البصري الذي ساهم أيضاً في إصقاله المصوّر «روب هاردي» بلقطات شاهقة وبانورامية حامية الوطيس تَحبِس الأنفاس؛ كما هو المشهد الخلّاب القادم من أعلى السماء بقفزة الـ HALO المدوية من طائرة نقل تجاري على إرتفاع 7000 متر قام بِإلتقاطها من عَدسة IMAX واسعة تحوم حول «توم كروز» في الهواء الطلق، وعلى جانبيّ الطائرة وداخل قُمرة القِيادة في المطاردة الجوية الأخيرة التي تخدش ذاكرة المتفرّج بجرأتها وجسارة القائمين على تنفيذها، إضافةً إلى مابَقيَ مِن مَشاهد في المُطاردات الأرضية في المدينة الباريسية وزواياها الضيّقة وشوارعها وأماكنها العريقة مثل «قوس النصر» و «برج إيفل» وغيرها مِن مواقع التصوير التي تُداعب العينين.
في الحَديث عن الأبطال؛ دَعني أذكر بطلاً آخر لعِب دوره بورقة الجوكر التي حسمَت رؤية الثُنائي «كروز» و«مكواير» في الرَفع من وتيرة اللحظات الحساسة؛ ألا وهي موسيقى الإسكوتلندي «لورن بالف» التي هي أشبَه بموسيقى «هانز زيمر» في فيلم «صعود فارس الظَلام» من حَيث الأبواق المتوحشة والطبول الغاضبة التي تعمل على إنقباض مُستمّر في القفص الصدري. الموسيقى هنا عامل درامي يلعب بوضوح بعيداً عن دوره في بهرجة المَشاهد، بسببٍ أو بدون سبب، كما هي الحال عند أفلام نظيرة، بل كانت تعزف في أوقات محددة وتُنتزَع في أوقات كثيرة. روح الموسيقار «داني إيلفمان» في الفيلم الأول كانت حاضرة، لكن بَصمة «لورن بالف» كانت الحاسمة، فاللعبة هُنا تَختلف في حِساباتها من حيث المبدأ والهَدَف وتَضرب في مواقيت دقيقة لا تعبث على الاطلاق، وهذا ما يُمكن أن تلحظه في الشريط الصَوتي الذي لم يكُن غائباً عن الحدث بل كان لاعباً رئيسياً فيه؛ مَشاهد كاملة كان يُنتزَع منها شريط الموسيقى ليسنح الفرصة أمام شريط الصَوت في التدفَق بداله ويُضيف بدوره زَخماً صادر من كسر العِظام أثناء المشاجرات والاصطدام بين دعامات المركبات وضرب النار والرصاص، فهنا تَبرز جمالية التوقيت والموائمة بين النَزع والإضافة في خدمة الإيقاع وتناغمه وعدم الحِفاظ على وتيرة واحدة رتيبة.
فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» عبارة عن قِطعة كلاسيكية من الزمن الغابر، تُعيد أمجاد العظماء من أرباب السينما الحقيقية التي صُنعت بأدوات حقيقية و مخاطرات وشيكة؛ كمَشهد المطاردة الذي قام به «توم كروز» بنفسه بسيارة «بي أم دبليو» الذي نُزِعَ عنه الغشاء الموسيقي وصمَد أمام أصوات المُحرك والعجلات واستسلم لخنقة شوارع «باريس» الضيّقة وتدافع زحامها المروري والسكاني، فضلاً عن التوتر الناشىء عند «إيثان هانت» من ملاحقة متعددة الأطراف في مدينة متعددة المنافذ!. يذكّرنا هذا المَشهد بتُحفة الأكشن الكلاسيكية «الوسيط الفرنسي 1971» الذي أخرجه الأمريكي «ويليام فريدكن» والتي إحتوت على أشهر مطاردة أسفل سِكة حديد في مدينة «نيويورك» التي قام بها الممثل المخضرم «جين هاكمان»، وهو الأمر الذي يقودنا إلى حقيقة أن هذه الأفلام كانت ولازالت مَنبع التَجديد ونقطة المَرجع التي يَجب على صُناع الأفلام العودة إلى أحضانها لكي لا تَقتلهم فيما بعد عفونة الاستوديوهات المغلقة وأجواءها الكاتمَة للأنفاس والتي يزداد زيف ما تقدمه يوماً بعد يوم.
كلا العالمين :التلفزيوني والسينمائي اهتديا، ولازالا، إلى مرجع روائي واحد خَطّه الكاتب والمؤلف «بروس غيلر» وجعل كلٍّ منهما ينتمي إلى وِجهة النظر نفسها من حيث الاشتغال على التركيبة الشكلية ذاتها واستغلال الخطوط الدرامية العريضة التي تقضي بضرورة إنقاذ العالم مِن التَهديدات الأمنية؛ الحاصلة بين الحكومات من جهة والمنظّمات الأرهابية من جهةٍ أخرى، التي لا يَقدِر على التصدي لها سوى أجهزة عسكرية غير موثّقة في السجلات الحكومية وتَعمل بشكل غير رسمي في الظِل؛ كما هي منظمة «MIF » هنا التي يترأسها مدير الاستخبارات الأمريكية في السر ويضع استراتيجياتها ويموّلها بميزانيات خارج الحِسابات ومن ثم يُسنِد مَهامها الميدانية إلى قائد عملياتي محنّك مثل «إيثان هانت»؛ تم تدريبه على أعلى المستويات العسكرية و الإستخباراتية، ومن هذه الفِكرة تنطلق دراما الحِكاية وجاذبيتها في استقطاب المناصرين لاستمرارها؛ من حيث جهودها المبذولة باستمرار على حياكة مشاهد أكشن وحركة ضخمة واستثمار مساحات فضفاضة لألاعيب العقل والذكاء وباستخدام شتى الأدوات التكنولوجية في التنكّر والتلاعب والمقامرة على مصائر البشرية، فضلاً عن الممارسات التجاوزية التي تقوم بها الجِهات الرسمية في الكواليس لتثير الجَلَبة في هذا العالم، فهو سبب كافي ليثير جانب الحَماس عند المتفرّج في اختباره على الدوام.
يتتبع فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» فريق الإستخبارات المَركزية السري «MIF» بقيادة «إيثان هانت» (توم كروز) بَعد قيام الجماعات الإرهابية التي تنتمي إلى منظمة «النقابة» التي قام بإسقاط قائدها «سولومون لين» (شون هاريس) في الفيلم السابق بسرقة ثلاثة رؤس نووية من أجل بيعها في السوق السوداء، فيذهب «إيثان هانت» وفريقه من أجل الحصول على تلك الرؤوس النووية بواسطة وضع خطة لمنع وقوعها في الأيدي الخاطئة، لينطلق بعدها ضمن مطارادات ومخاطرات بالجملة في سبيل إنقاذ العملية والحصول على الرؤوس الحربية تلك، إلا أن الخطة، وكما هو المعتاد، لا تسري في نصابها الصحيح.
لذلك، يُعد «توم كروز» هو العجلة المحرّكة وراء العديد من الأعمال المثيرة للفضول والدهشة في هذه السلسة، وكلّ ذلك من أجله أن يصنع هوية مستقلة في سينما هذا النوع، أو على الأقل بالنسبة إليه كممثل يهوى المجازفات وصِناعة الخَطر، حتى ولو كان على حِساب حياته ومستقبله المهني، إقتداءً بما سلفه من عظماء المخاطرين في السينما، أمثال : «باستر كيتون» و«هارولد ليلويد» و«جاكي تشان»، الذين ليس بالضرورة وضعهم رغبات الجمهور صوب أعينيهم كأولوية قُصوى وعلى أساسه يشرعون في التضحية بحيواتهم!، بل بواقع الاستماتة ليبارزوا أنفسهم وليتفوقوا عليها في سبيل الارتقاء إلى مستويات أعلى من «الممكن» وأقرب إلى «المستحيل»، كحال «توم كروز» هذه الأيام التي نجح من خلالها في أن يعلو كعب نظرائه من ممثلين، لن نقول أصغر عُمراً ! ، ولكنهم ذوي بُنى جسدية أفضل وقامة أطول، لازالوا عاملين تحت تخدير الشاشة الخضراء ولاسيما الذين ينخرطون بأعمال مثل «الأبطال الخارقين» التي امتهنها الممثلين لكي تغطّي مصاريفهم الشخصية والتي لا توفّرها أفلامهم المستقلة أو التي تقبع خارج هذا النوع أو تفكّر خارج الصندوق. لذلك، وإذا ما لاحظنا في العقد الأخير على إمتناع السيّد «كروز» عن تقديم أداءاتٍ أوسكارية أو أعمق تجسيدياً، فهذه السلسة وما قدمته برفقته كفيلة بوضع الأوسكار في الدرك الأسفل من الاعتبارات، فإذا ما كانت جائزة الأوسكار تُعدّ معياراً يغربل مقاييس النجاح والفشل في كنف التحديات والمبارزات التمثيلية، فإن ما يُقدمه «توم كروز» هنا عبارة عن مبارزة ضد الموت؛ أي احتمالات مثل الفشل حاضرة وليست ببعيدة عنه.
هذا ولم أذكر بعد دور السينمائي البارز بين أقرانه في الكِتابة التشويقية المتلاعبة «كريستوفر مكوايار» الذي عاد مؤخراً للوقوف خلف العدسة في تعاونه الثالث والناجح مع «توم كروز» ليترأس الفيلم من نواحيه الفنية والتِقنية ويُقدّم وجبة دسمة في التكوينات البصرية الأخّاذة التي أعادات لسينما الحركة هيبتها من بعد مبدعين أمثال : «ويليام فريدكن» و«مايكل مان» وغيرهم، في العودة إلى نُصوصه المنعشة والمتلاعبة التي يُغذّيها بسيلٍ من الإلتواءات والحوارات المرحة والايماءات المتخابثة كما عهِدناه مع أول سيناريو له في فيلم «المشتبهون المعتادون» الذي حصد عنه الأخير جائزة أفضل نص أصلي في أوسكار «1996» .
"لايوجد سلام كبير إلا بمعاناة كبيرة... فكلما كانت المعاناة أكبر كان السلام أكبر"، «سالمون» يُخبر «إيثان». عبارة نمطية على طراز كثيرٍ من عبارات بالية شَهِدناها سابقاً، لكن بواقع حضورها في قلب الدراما في الفيلم يُمكنها أن تكون سِلاحاً ذو حدين يعكس بدوره صِدام المبادئ بين الرجلين كنموذج للصراع الذي يَحدُث في هذا العالم، وعلى اعتبار أنهما خرجا من رحم القضية نَفسها التي ناضلا من أجلها وخدما بلادهما على أساسها، إلا أن الأول سرعان ما تبددت مبادئه وتحولت إلى صورة مُعاكسة بَعد أن كَشف زيف تلك المبادىء وزيف السياسات التي تبنّتها وغَسلت بها دماغ الأكثرية نحو الابتعاد عن أي تغيير جذري لحال هذا العالم وإنما باللعب بجنون لإدارة الصِراع وتوسيعه دون حَلّه. ولاعتقاد «سالمون لين» بأن الدمار والخراب اللذان سوف تنتجهما حرب نووية على المحك وتلتهم الأخضر واليابس كفيلة بإعادة النظر في وحدة البشرية من جديد، ولعلها تنشلهم من مستنقعات الجنون التي يغمسون أنفسهم بها يوماً بعد يوم، ولهذا يُسهم دور المقولة بالسير في نصاب الدراما الصَحيح الذي لا يُمكن لأخلاق «إيثان هانت» من أن تَفهمه؛ كيف لا، وهو طوال الوقت يُعطي الأولوية لحياة الآخرين على حِساب حياته وتقديم حياة الفَرد على حِياة الجماعة!، إلا أنه وفي الوقت ذاته تختبر هذه العِبارة «إيثان» في نقاط ضَعفة وتضعه أمام منعطفات مدوية تفرض عليه التخلّي، ولو جزئياً، عن تلك المبادئ والسير عكس التيّار في سبيل خدمة قضيته الكبرى.
فيلم «المهمة المُستحيلة - السقوط» عبارة عن قِطعة كلاسيكية من الزمن الغابر، تُعيد أمجاد العظماء من أرباب السينما الحقيقية التي صُنعت بأدوات حقيقية و مخاطرات وشيكة؛ كمَشهد المطاردة الذي قام به «توم كروز» بنفسه بسيارة «بي أم دبليو» الذي نُزِعَ عنه الغشاء الموسيقي وصمَد أمام أصوات المُحرك والعجلات واستسلم لخنقة شوارع «باريس» الضيّقة وتدافع زحامها المروري والسكاني، فضلاً عن التوتر الناشىء عند «إيثان هانت» من ملاحقة متعددة الأطراف في مدينة متعددة المنافذ!. يذكّرنا هذا المَشهد بتُحفة الأكشن الكلاسيكية «الوسيط الفرنسي 1971» الذي أخرجه الأمريكي «ويليام فريدكن» والتي إحتوت على أشهر مطاردة أسفل سِكة حديد في مدينة «نيويورك» التي قام بها الممثل المخضرم «جين هاكمان»، وهو الأمر الذي يقودنا إلى حقيقة أن هذه الأفلام كانت ولازالت مَنبع التَجديد ونقطة المَرجع التي يَجب على صُناع الأفلام العودة إلى أحضانها لكي لا تَقتلهم فيما بعد عفونة الاستوديوهات المغلقة وأجواءها الكاتمَة للأنفاس والتي يزداد زيف ما تقدمه يوماً بعد يوم.
تحياتي