Hereditary 2018 - وراثي
• إخراج : آري آستر
• التصنيف : رعب - دراما - غموض
• حالة المراجعة : بدون حرق
• الكاتب : ليث التميمي
• التقييم الشخصي : ★★★★ (ممتاز)في مطلع هذا الفيلم يبدأ المشهد الافتتاحي بلقطة من نافذة داخل غُرفة مُطلّة على كوخٍ معلّق في الخارج - لقطة بسيطة والمشهد برمّته بسيط، لكنه مُهم في استبصار أسلوبية الفيلم التي سوف يسير عليها لاحقاً - تبدأ حركة الكاميرا في الابتعاد قليلاً عن مستوى النافذة لتتوسع في الإطار تدريجياً، ومن ثم، تَشرع بالحركة محورياً في فضاء الغُرفة، بعدها تقِف تماماً وتلتقط مُجسّم هَندسي لمنزل يبدو أنه المنزل ذاته الذي تسير فيه أحداث الفيلم، إلا أنك تلحظ أن هُنالك شيء غريب يحدث في زاوية إحدى الغُرف؛ تقترب الكاميرا شيئاً فشيئاً ويزداد الأمر غرابة ورُعباً في المقابل، هنالك ظِل أسود داكن اللون يمكنك رؤيته لكن لا تدري ماهيته سوى أنه يُشبه شيء قريب من«الجاثوم» أو ما يُسمى بـ «شلل النوم» فوق شخص نائم - تكوين بصري أخّاذ وأصلي جداً- تستمر حركة الكاميرا تلك في التقدّم من مُستوى الغرفة ويتفاقم معها القلق والتشكيك بطبيعة ما تشاهده: هل هو حقيقة أم مُجرّد وَهم؟ وعلى هذا الحال، إلى أن نصل إلى مُستوى الغرفة كاملة، حينها نكتشف بأنه كان مُجرّد آلة تصوير قائمة ينسدل عليها غِطاء أسود اللون!. إنها لقطة غريبة بقدر ماهي مُرعبة ومقلقة، تُحيلك إلى وضع من الترقب والتشويق إلى ما سوف يحدث، وتوضّح على الهامش بأنك أمام فيلم لعوب ومباغت وليس بالهيّن، قادر على أن يتلاعب في إطار الصورة وحركتها ليخدعَك، ويُحاول أن يُنتِج رُعباً ليس بالضرورة أن يتوجه بالخضّة؛ وإنما بالخنقة التي يثيرها بواسطة عاملي : التوتر والشعور المُكثّف بالريبة.
" تغيير بسيط في الشيفرة "
«وراثي» هو فيلم عن وِراثة المأساة، نعم، لكن عنوانه هذا لا يقتصر على ما تعكسه «تيّماته» الدرامية داخل النَص، وإنما بواقع أنه يرِث أنماط سينمائية جاهزة في سينما الرُعب قادمة من مُختلف الأجناس التي سبق وأن حظيت بها الشاشة العريضة؛ أي أن الشيفرة الوراثية ذاتها حاضرة وغالبة في أكثرِ المَشاهد، للحظة تظن أن كلّ واحدةٍ منها عبارة عن نُسخة طِبق الأصل عن نموذجٍ آخر، إلا أن ما قام بِه المخرج لضمان عدم وقوعه في فخ الاستنساخ هو قدرته على إعادة ترتيبها ضمن أسلوبية تجعل من تَجربته تظفر بهوية مستقلة؛ أي مجمّعة من هويات عِدة لكن تبدو متناغمة فيما بينها على اختلافها؛ بحيث لا تحتاج الكثير من الخِبرة لتعي أن ما تشاهده هنا قد سبق لك وأن اختبرته في كثيرِ من الأفلام، من حيث: البيت المَسكون، الشخصيات المضطربة بَعد حادثة أليمة، التهديد الشيطاني، السلوكيات المشبوهة، الماضي الأليم...إلخ، لكن ما يُهّم حقيقة هو وُقوف مُخرجه بصرامة نحو توظيف معطياته بمهنية عالية بالنسبة إلى تجربته الأولى مع أفلام روائية ضَخمة بهذا الشَكل، وتحديداً بأنه فيلم ليس بالهيّن كما أسلفه لساننا؛ إنه بالفعل فيلمٌ طويل؛ يمتد بزَمنه إلى حدود الساعتين وعشرُ دقائق، وهو الوقت الكافي أمام صانع العمل لكي يطرح ويُعالج موضوعه، وفي الوقت ذاته يحقق النتيجة المرضية من وراءه.
هذا ويقودنا إلى إن الفيلم المتميّز لا يحتاج بالضرورة إلى أصالة الفِكرة كي يصِل إلى مراميه أو أن يُحقق مبتغاه في جَذب التقدير والإشادة، وإنما من مقُدرة صانعه على خلق رؤية شاملة مضبوطة الأركان؛ يختار على أساسها طاقمه المُناسب للمَهمة المنشودة ويحدد أولوياته بجدّية كبرى وينطلق مباشرةً في مضمار التنفيذ دون مماحكات تحول بينه وبين تحقيق تلك الرؤية. ولا يكفي موهبة ناضجة مثل المُخرج « آري آستر» سوى أن تَجلِب المرشحة لجائزة الأوسكار «توني كوليت» ذات الوجه العجائبي في تقاطيعه وتعابيره الصارخة كي تُقدّم أداءً حسّياً يسحب نطاق نظرك ووجدانك إلى نبرة الفَزِع والألم والانكسار لدى امرأة فقدت من هم حولها وتستعد إلى أن تَفقد المزيد ، وليس بالبعيد أن تفقِد نفسها في نِهاية المطاف؛ فقد أمسَت مُهددة ومُعنّفة، يترصّدها الحُزن وتنهال على رأسها المَصائب الجاثمة من كلَ صوبٍ وحدب، ولا يسعها سوى أن تُمسِك بهاته الوتيرة وترفعها حد السَماء، لكي تعي حينها أنها قدّمت الأداء النسائي الأفضل لهذا العام.
" دراما متينة لا تهزَ الشكل المخيف للحِكاية"
في حالة النص لا يُقدّم «آري آستر» أيّ جديد، ولو أن العامل الدرامي في الحِكاية كان نافذاً على حِساب الرعب في حد ذاته، والذي يقودنا إلى حتمية النظر إليه من هذه الزاوية دون الأخرى؛ التي تتضائل من جانبها تدريجياً استناداً إلى ما انشغل به النص من معالجة محكمة في التأسيس لقواعد السرد وبناء الشخصيات وتشبيك العلاقات وتطوير الدوافع مع الابقاء على عناصر مثل: الصدمة والترقّب والغموض محتشدة في ذهنية المتفرج.
فِكرة الفيلم تتفرع إلى عِدة محاور يتخذ مسرى كلٍّ منها وجهته إلى أن يلتقيا في خانةٍ واحدة، أهمّها؛ المحور الأول الذي ينطلق من الماضي الذي عاصرته عائلة «جراهام» والذي يبدو أنه كان كابوسياً قاتماً ويحمل تاريخاً أسود في هذا السياق، وهو ماينعكس جلياً على شخصية الأم التي تُعاني من اضطرابات داخلية؛ تجمع مابين السير ليلاً مروراً بأحلام اليقظة وإنتهاءً ببعض الذُهان إزاء الفاجعة التي تُصيب العائلة بعد وفاة والدتها والذي تُلحقه سلباً على زوجها وأبناءها في نِهاية الأمر، ويكشف عن حجم «اللامشاعر» الذي تحمله تجاه وفاة والدتها وقادها قسرياً إلى اللجوء إلى جلسات علاجية مُختلطة، ليس للتخفيف من حُزنِها، بل لتقنع نفسها بضرورة التنفيس عن مايُجهِد تفكيرها الذي سبق وتصادم مع علاقتها بأبناءها وسبب حواجز نارية فيما بينهم. المحور الثاني يتعلق في علاقة الأم مع أبناءها لكن من منظورهم الشخصي، وهي علاقة تنافر قائمة على إزدراء مُبطّن يحملونه تِجاه والدتهم؛ «بيتر» يحتقِرها لأنها سبق وأن قامت بسلوكيات مَرَضية كادت أن تنتهي بقتله أثناء مسيرها ليلاً وكوابيسها التي تلحقها وتتجسّد بصورتها وهي تُضرِم النار في جسده، وهذا بالأساس قابع من شعورها المُبكِر أثناء حملها بِه وسعيها المستميت نحو التخلّص منه عن طريق الإجهاض الذي وقفت له في المِرصاد والدتها المتوفاة والتي أصرّت بدورها على مجيئه إلى هذا العالم( لدواعي خاصة)، وهذا الشعور سرعان ما تفاقم في انتقاله إلى العلاقة التي تجمعها مع الفتاة الصغيرة التي إن لم نتكهَن في صورتها الخارجية فهي أقرب إلى المَسخ المقموع من بيئة الأم الحاضنة بعد أن سلّمتها إلى الجَدة كالقُربان تعتني بِها، لعدم اقتناعها بفكرة الانجاب في هذه العائلة المأساوية ؛ الأمر الذي دَفعها إلى تكليف والدتها في الاعتناء بها بدلاً مِنها. إذاً، وفي هذا السياق من السَرد؛ نحن أمام فيلم عن دراما مأساوية متأصلة في جين العائلة وليس مُجرد سرد لواقعة غريبة تصيبها.
"كيف تحزن وأنت خائف؟.. البكاء على حافة الفَزَع ! "
في تجربته الأولى مع أفلام روائية طويلة لا نجد عِند «آري آستر» عَثرات المخرج في البِداية على الإطلاق، نراه يعي السرّ تماماً في إخراج لقطاته في أنقى صورة وفي أبهى حُلّة، لا يلجأ كثيراً إلى عامل الخضّة / «Jump Scares» بل يعتمد على تغذية الصورة بمرئيات داكنة يُضفي عليها بعض الاضطراب والذٌعر وبدورها تمارس إيقاعاً داخلياً لا يدركه المتفرّج مباشرة بل يتسلل خِلسة ويصرعه في الوجه مباشرةً!، لقطاته تتوزّع مابين «الكلوز أب»/ Close-Up على وجهي : الأم «آني» وابنها «بيتر» ، و«الكاملة / Wide Shot في رسم حدود الخَطر الخارجي؛ في الأولى يُجيد «آرين» بمساعدة المصوّر « بول بورزلسكي» رسم انفعالات الشخصيتين في إطار الصَدمة ورد الفِعل، أما في الثانية يخلق منظوراً واسعاً لكادرات المكان وماتحمله الظِلال في إحكام المصيبة الخانقة على العائلة، وإذا ما عُدتَ إلى المشهد الأول الذي تحدثتُ عنه في البِداية ستعلم أنك أمام عمل يعلم ما يُريد تضمينه لرؤيته وما لا يريد تضمينه لتخيّله! . في اللقطات القريبة ؛لا يحضرني سوى استذكار وجه «توني كوليت» المتبسمر أمام لقطات تَحبِس الأنفاس ويتوقف فيها الزمن قليلاً في تصاعُدٍ مستمر في وتيرة الموقف على الرغم من أنه ليس من الضروري أن يكون مَشهداً حاميَ الوطيس، بل يرجع إلى قُدرة «توني كوليت» في المَقام الأول في فِهم شخصية الأم الهَلِعة التي لا حول لها ولا قوة في حِماية أولادها وفي الوقت ذاته لا تستطيع إحكام السيطرة على ما يجري من حولها(رُبما هذا السبب الرئيس في انشغالها بعمل المجسّمات لتهرب من الواقع الأليم الغير مسيطر عليه!)، ومن ثم إلى فِهم طبيعة الاستجابة للنشاطات الخارجة عن إطار المعقول والطبيعي، فإذا ما عُدنا قليلاً إلى الوَراء في تتبع استجابة الشخصيات في أفلام الرعب النظيرة نَجِد عِندها الافتعال والعبثية وعدم الإقناع، وطياش على السطح لا ضرورة مِن حُدوثه، أما هُنا يكفي أن يتوقف قلبها عن الخَفقان لتعي هول الموقف ودكانته ، فهو فيلم ليس عن « كيف تخاف» وحده، بل « كيف تحزن وأنت خائف» أيضاً.
" إشكال بسيط أو ضخم.. أنت الحَكَم"
رغم أن ما يشمله الفيلم من تَجربة شديدة القوة والتأثير، إلا أن الحديث يقودني إلى إشكالية تحدث في نِهاية الفيلم - تطمّن لن أحرقها عليك لكي لا أفسدَ مُتعتَك – تَضَعُكَ داخل مُفارقة عويصة عِند استجابتك لها!، نعم هي غَريبة وقد تبدو منطقية وصائبة لكن بقدر ذلك كله كانت غير مناسبة ولاضرورة من إختيارها مَشهداً خِتامياً لهذا الفيلم تحديداً !؛ هذا لا يعني أنها أتت من الفراغ أو كانت منزوعة السِياق أو سقطت بالـ«باراشوت» على أرضية الأحداث؛ الفيلم كان طوال الوقت يُمهّد لحدوثها دون أن تعلَم، ويُمكنك مداركة واستنباط أسبابها من داخل الفيلم وهذا ليس بالإشكال العظيم. الإشكال الحقيقي هو تحوّل الفيلم من حِكاية قائمة على تعزيز الرعب بحوادث قريبة إلى الواقع ونجاحها بإقناعك عن إمكانية حُدوثها في أيّ وقت وأيّ زمان إلى حِكاية تنشد «الميثولوجيا» التاريخية والطُقوس الدينية تَرجع الى العصور الكلاسيكية القديمة ويتم إيرادها بشريط صوتي يتحدث ويستطرد في شرحها. قد يجِد عِندها البعض امتداداً طبيعياً لدورة الحكاية الميثولوجية المتعلقة بتاريخ العائلة؛ إبتداءً من عصر وإنتهاءً بآخر، إلا أن الانتقال المباغت بهذا الشَكل يدعو إلى النفور والضحك في الوقت ذاته، وأن ما ساهم « آرين» في بِناءه في الساعتين السابقات؛ أعتقد أنه هدمه في الخمسة دقائق الختامية!، فبدل أن تخرج مِنه وتُفكّر ملياً بمواضيع ما تناوله تخرج مِنه وأنت مختصم و عاجز عن التعبير عن مدى أسفك - أو ربما قهقهتك .
تحياتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.