الأربعاء، 4 يوليو 2018

«خيول أصيلة» : تجربة تدفع بالمخيّلة - مراجعة فيلم Thoroughbreds 2017





Thoroughbreds 2017 - خيول أصيلة

•  إخراج : " كوري فينلي "
•  التصنيف :  كوميديا- دراما- جريمة 
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :  ★★★★


يقول الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» : "من ينظر إلى الخارج عبر نافذة مفتوحة، يرى أقل بكثير مما يراه الشخص الذي ينظر إلى نافذة مغلقة ". ويفسّر المُخرج الفرنسي «جورج فرانجو» تلك المقولة : " بأنك لو نظرت من خلال نافذة مفتوحة فسوف ترى ما يوجد في الخارج . لكن لو نظرت من خلال نافذة مغلقة فسوف تتخيّـل كل شيء " .

قبل أيام فتحت شاشتي على فيلم «خيول أصيلة»، وعند انتهائي من مُشاهدته تدفق على رأسي سيلُ المقولات السابقة تباعاً، فوجدتها تتسق تفصيلياً بجانب ما عايشته مع هذا الفيلم الرائع، المفعم برحيق تلك العبارات الثاقبة التي عكست بدورها الوجه الحقيقي وراء قوة السينما، المشوه ثقافته عند كثيرٍ من العامة؛ لاعتقادهم بأنها مجرد عملية سرد تختزل رواية الأديب أو حِكاية الحكائي ومن ثم تحولها إلى سيناريو بصري يتتبعون خيوطه بحثاً عن الخُلاصة التي تؤمّن حاجاتهم الآنية من تلك التجربة.

غافلين أن الصورة السينمائية عبارة عن وسيط مرئي يوسّع من رؤية الحقيقة ويكشف عن أبعادها الكامنة، ويحيل إلى قراءتها ضمنياً بين السطور. بيد أن العين البشرية مثلاً؛ لا تستطيع الإلمام بكل ما يجري أمامها ، على عكس الكاميرا التي تنفذ إلى مناطق يصعب على العين أن تصل إليها في المقابل . فتخيّل معي هذا المشهد : فنان يقوم بتصوير أحد شوارع المدينة في أحد الأيام، وعندما عاد إلى منزله وقام بمُراجعة ما صوّره طوال اليوم يكتشف حدوث عملية قتل وقعت أمام ( عينيه ) ! . إنها بصيرة الصورة التي ننفذ منها وإليها ياسادة، و نعود ونحن جوعى إلى حِكمتها وبلاغة معانيها. هي الزمن الذي قام «آندريه تاركوفسكي» بنحته وتحنيطه، أو كما قال عنها «برتولت بريشت» واصفاً العملية الفيلمية برمتها : " الواقعية هي ليست إعادة إنتاج الواقع، وإنما في تبيان كيف هي الأشياء واقعية " .


«خيول أصيلة» الذي ينشده مُخرجٌ شاب قدِم مباشرةً من خشبة المسرح إلى شاشة السينما ويُقدّم فيلماً بهذه النبرة الصارخة، وكأن له باعاً كبيراً فيها، ما هو إلا استثمار حقيقي لسدادة رأي الصورة وما يُمكن أن تحتمله من مضامين شعورية تفتتح الآفاق الجديدة أمام المُبدعين لرسم ذواتهم وأفكارهم، ومن ثم المُتفرّجين لتنشلهم من القوقعة والكسل وتنطلق بهم نحو الاحتدام معها بكافة جوارحهم، وباختلاف أعراقهم وثقافاتهم . «كوري فينلي»، ذلك الشاب الناضج، الذي يتخذ نِطاق سرده خارج فضاء شاشته ويتحرر من كلّ القيود الشاغلة في الإطار، وينصرف نحو تضمين الصورة عن طريق الشعور بدلاً من تصريحها عن طريق الإدراك؛ ذلك أن كثيراً من أحداث الفيلم المهمة تحصل في الخلفية؛ بعضها يحدث في البعيد المُدرّك سمعياً باستمراره وبصرياً في جموده، والآخر شعوري في ما تفرزه العلاقة الحميمية بين الفتاتين، للحظة تشعر بأن العلافة المثلية حاضرة بينهما، ليس أمام الشاشة وإنما في الذهن مباشرة . تلاعب المخرج هنا، واضحٌ للعيان؛ بين إفصاحٍ وإضمار، تنشلنا الكاميرا أحياناً إلى زوايا مُظلمة وأخرى ثابتة، لا تُصرّح كثيراً ولا تلمّح كذلك، لكن في الوقت ذاته تسرد في مُخيّلتنا أكثر من اللازم . وكأن السيد «فينلي» يُضايقنا في أول لقاءاتنا معه، بابتعاده المتعمّد عن الإفصاح المباشر عن طبيعة ما يرمي إليه أو عن مُجريات ما ينصبه أمامنا . وكأنه يدعونا شخصياً إلى ترك عجلة التأويل شغالة في المُخيّلة والاستمتاع بما يتناسب مع خصوبتها في استكمال باقي خيوط الحدث؛ الذي قد يبدو بسيطاً من خارجه، لكنه كابوسيٌّ وقاتمٌ من الداخل .



عرض «خيول أصيلة» ضمن فعاليات مهرجان «صاندانس» السينمائي العام الماضي ونال حفاوة الغالبية فيه، قبل أن يتم عرضه تجارياً في «مارس» الماضي، ويحكي قصة فتاتين مُراهقتين : الأولى «أماندا» ( أوليفيا كوك ) والثانية «ليلي» ( آنيا تايلور جوي ) . كلا الفتاتين كانتا صديقتين في فترة الطفولة، لكن ما حدث في حياة «أماندا» انعكس سلباً على استمرار علاقتها مع «ليلي»، مما أودى إلى انفصالهما عن بعضهما البعض، ليعودا في فترة المُراهقة من جديد من خلال قيام «ليلي» بتقديم دروس خصوصية لـ «أماندا» بعد أن عانت الأخيرة من اضطرابات نفسية إثر فضيحة تتعلق بقتلها حصانها مما أدى إلى خروجها من المدرسة . الأمر الذي اضطر والدتها من أن تُراسل «ليلي» من أجل تقديم يد العون لها عن طريق إعطاءها دروساً خصوصية لتلملم شملها من جديد ولكي تقترب منها أكثر فأكثر، إلا أن «ليلي» تُعاني، هي الأخرى، من حياة بائسة مع زوج أمها الثريّ والمُتغطرس، وتحمل له جامّ المشاعر من الحقد والكراهية، اللذان يتفاقما تدريجياً مع عودة لم الشمل مع «أماندا» فتُعاد الرفقة مجدداً إلى مجاريها، لكن هذه المرة من أجل القيام بجريمة قتل تستهدف زوج الأم .


«خيول أصيلة» يُذكرنا بأن صِناعة الفيلم الناجح تحتاج إلى كِتابةٍ ناجحة، وتلك الكِتابة تحتاج إلى منظورٍ مُناسب لاحتوائها . نص «فينلي» يهتم في الكشف عن الزوايا المظلمة من النفس البشرية المليئة بالأحقاد والرغبات المنزوعةٌ فتيلها، وتنطلق فِكرته من فقاعة فراغ تُصيب البشر في شتى مناحي حياتهم – تحديداً المُراهقين الذي يرفسون النِعمةِ أحياناً بوجه عائلاتهم - لكن هذه المرة اقتصرت على تصوير الأثرياء منهم؛ الذين حاول «فينلي» من أن ينقل حيواتهم الترفة إلى مرأى خاوي بلا روح، وبالتعريج على حياة كلٍّ من المراهقتين، اللتان لم تغب عنهما عين الكاميرا طوال مدة عرضه . الأولى «أماندا» التي فقدت العاطفة بمرحلة مُبكرة إزاء اضطرابات نفسية أودعتها بلا مشاعر، مجرد وجه ثابت وحركة «روبوتية» قادتها إلى عدمية مُطلقة؛ فتسخر بمن هم حولها وبمشاعرهم الكاذبة وتنصرف إلى إزدراء الطبيعة البشرية وتتعارض مع فِكرة الخلق والخالق والبشر ومُقدّساتهم . أما الثانية : على عكس الأولى، «ليلي»، الحساسة عِندما يتعلق الأمر بالتعبير عن مشاعرها المكبوتة ونزعاتها الدفينة تجاه زوج أمها، فمع عودة مجاري العلاقة مع «أماندا»، تُحفّز الأخيرة مشاعر «ليلي» الخاملة وتكشف عن حِدّة أنيابها . وكأنها علاقة تكاملية؛ واحدة تمتلك المشاعر بغياب الفعل وأخرى تمتلك الفعل بغياب المشاعر . يُذكّرك الفيلم بتحفة المخرج السويدي «إنغمار بيرغمان» : «بيرسونا»، لكن باختلاف البُعد الفلسفي وعمق المشاعر بالتأكيد . بالإضافة إلى النظرة المُسطّحة على شخصية كلّ من الأم وزوجها في عيون «ليلي»؛ فالأولى ساذجة وحمقاء فارغة ويبدو عليها ملامح الضمير المُنهك تجاه ابنتها إزاء زواجها المُبكر بوقتٍ قليل بعد وفاة زوجها السابق، أما زوجها الحالي فهو مُستبّد ويطغى عليه طابع الغطرسة والاستفزاز المستمر لـ «ليلي».


كان نص «فينلي» في البداية يملك رؤية إخراجية على المسرح قبل أن يتحول في نهاية المطاف إلى نص إخراجي على الشاشة . يتضح ذلك من خلال تقسيمه الحكاية إلى عدة فصول واستغلال خِبرته المسرحية في اقتياد ممثليه وضبط لقطاته وتحريرها الجمالي والمتأني، الغير مستعجل، بمساعدة المصور «لايل فينِسك»؛ صاحب عدسة فيلم «بوشويك» الذي استعان بفلسفة اللقطة الواحدة سابقاً، التي وبالرغم من جرأتها، إلا أنها كانت متواضعة جداً . أما هُنا، فقد كانت اللقطات ذات بُعد جمالي حقيقي يختزلها الأخير بين التطويل والتقصير وبين الاستطراد والإيجاز وبين التغوّل والتسطيح، بعضها ثابت، وآخر يتأرجح، تتفاعل بحيوية مع تكوينات «فينلي» البصرية والتي تحمل تيمة النص الرئيسية «عقدة الفراغ»؛ من حيث الانتقال بين المساحات الفارغة والأجواء الباردة والكادرات الواسعة، والممرات الطويلة في المسير، والمقرونة جميعها بشريط صوتي شيطاني ينشر وساوسه ونجاسته بين الأرجاء، يتدفق من آلات «طبول» و «تشيلو» متلعثمة، تُلوّث المَشاهد وكأنها تملئ فقاعات الفراغ بكوابيس مُزعجة، وكأنها تُترجم الاضطرابات عند الشخصيات وسلوكياتهم الشائنة .

يمتلك «خيول أصيلة» قوة «هيتشكوكية» رهيبة كالتي عند فيلمه «حبل 1948» المُثقل بالنزعات الإجرامية والنوايا الداكنة، والنابعة بالأصل من شخصيات لعوبٌ مغرورة وأخرى ملعوبٌ بها مهزوزة . كما أن أحداثه تنطوي على خطرٍ مُحتمل في أيّ وقت و بأيّة إيماءةٍ أو حركة . حواراته لاذعة كحد السيف، وأجواءه صادمة وكابوسيه . لكن ما يُميّزه حقيقةً هو الأداء المُتمكن من قِبل كادره التمثيلي، وخصوصاً الممثلان الرائعان : «أوليفيا كوك» والراحل عن عالمنا «أنتون يلشن» .


تحياتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.