" ما تعريف المُخرج ؟ " ..
Day For Night 1973 - يوم من أجل ليلة
• إخراج: " فرنسوا تروفو "
• التصنيف : دراما - كوميدي - رومانس
• حالة المراجعة : بدون حرق
• الكاتب : ليث التميمي
• التقييم الشخصي : ★★★★★
تدفعني الرغبة المُلحة دائماً للحديث عن الأفلام التي تتحدث عن صناعة أفلام أخرى ، والتي تنظر إلى طبيعة المشهد الدؤوبة وراء الكادر وما تتعرض له من تحديات وتغيرات مناخية تؤثر بشكل حيوي على حلقات وصله النهائية . رُبما هي كثرة إقترابي من مستوى الشاشة تجعلني أبحث على الدوام عن حيز أتوحد به معها ، يثير لدي غريزة الإلمام والتماهي مع مُعطيات ما أشاهده وكيفما أستصيغه ، فكثير من الأحيان تنتابني تلك القشعريرة عِندما تلتقط عيناي حركة المصورين والمخرجين وراء عدسات كاميراهم ، جامعةً العشرات بجعبتها من أجل إختزال لقطة زمنها ثوانٍ معدودة ! . يرجح السبب إلى التطبيق العملي الذي نعمده كـ " سنيفيليين " في المُحاكاة التخيليلة أثناء المُشاهدة ، فنمسي نحن والمُخرج داخل الكيان ذاته ، نتشاطر الأفكار والأخطار حول الأبجدية اللازمة في تحقيق تلك اللقطة شرعيتها من عدمه ، ونمارس من محلنا الجِهة الرقابية على إتمام هدفها الوظيفي . وفيلم « يوم من أجل ليلة » أو « ليلة أمريكية » - مُصطلح سينمائي يُعنى بتصوير المشاهد الليلية في النهار وإعادة تخليقها بمؤثرات لونية خاصة - هو محاكاة تطبيقية للمشهدية المنشودة ، فهو واحد من أفلام كثيرة تناولت صِناعة السينما على طاولة فيلمية موازية ، وتتحدث بلسان مسؤوليها ، ممن يتلازمون الجوار جنباً إلى جنب بغية تحقيق نتيجة ترضي أطرافهم العريضة ، بحيث تأتي المسؤولية العظمى حاطة بثقلها على ظهر شخصية أساسية تُدعى " المُخرج" في توجيه دور العاملين والتقنيين وتحجيم جهودهم المهدورة برؤية فنية واضحة . المخرج الذي يُسند إليه الفضل الأكبر في نجاح المُنتج النهائي من عدمه . وما يميز فيلم " يوم من أجل ليلة " هو وقوعه تحت قيادة " فرنسوا تروفو" ، الذي وُلد في حجرة الصالة وإنتقل إلى عالم الشاشة دون وسيط مادي يعبره ، بعيونه الفاحصة ورؤيته الثاقبة لمستقبل السينما ، عن إدراك متقدم لخصوصية الفيلم ومكوناته الفرضية ، المنطلقة من موقفه النقدي الذي أسس له هو وأترابه من أصدقاء موجته .
يتناول فيلم « يوم من أجل ليلة » ، الحائز على جائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي عام 1974 ، الفترة الزمنية في حياة تصوير فيلم يُدعى " لقاء مع باميلا " ، وهي حكاية حب "ميلودرامية " عن شاب يٌدعى " ألفونس " ، قام بدوره الممثل ( جان بيير لود ) نجم فيلم " 400 ضربة 1959 " ، الذي يعود مع حبيبته " جولي " ، والتي قامت بدورها الممثلة ( جاكلين بيست) ، إلى بيت أهله ، المكون من أبوه " ألكسندر " ، الذي قام بدوره الفنان الكبير ( جان بيير أمونت) ، وأمه " سيفيرين" ، والتي قامت بدورها الفنانة الإيطالية العريقة ( فالنتينا كورتيس) ، ليعرفهم " ألفونس " بدوره على " جولي" ، فتقود الأحداث فيما بعد إلى حب يجمع الأب مع حبيبة إبنه ، وتنتهي مأساوياً بعد حين إلى قتل الإبن لأبوه . يعرض الفيلم من خلاله أيضاً التحديات المصاحبة للمخرج " فرند " الذي قام بدوره ( فرنسوا تروفو ) نفسه ، مع كوادر العمل من أجل إتمام تصويره في الوقت المحدد والذي يقارب السبعة أسابيع فقط ، نتعرف من خلالها على أنماط التفاعل الذي تشهده الحياة خلف الكواليس ، ونُطل على التغيرات الطارئة التي تحدث ماقبل وأثناء وبعد التصوير ، وما يرافقها من قرارت فنية مُغايرة تتعلق بمراحل المونتاج والطبيعة المشهدية التي يشحذها الإنتاج على جدوله الزمني للوصول إلى غايته المرسومة ، التي تتوسطها رؤية المُخرج الفنية مع جيب المنتج ومصالحه الاقتصادية . فصراع المُخرج ينجلي في تفاعله الدائم مع جميع العاملين إبتداء من فريق التمثيل وإنتهاء بكوادر التقنيين ، والآلية التي يتخذها في إصداره للقرارات النهائية مع كل وقعة دبوس تظهر على الشاشة ، لنرى وكأنها حرب نفسية يخوضها على عدة جبهات ، يُسابق بدوره الزمن في تحقيق فيلمه بإنتاجية عالية .
هُنالك مقولة مشهورة لـ " فرنسوا " تروفو " : "عندما أبدأ بإخراج فيلم جديد ، أريده أن يكون فيلماً عظيماً . لكن عند الوصول إلى منتصف الطريق ، أتمنى أن ينتهي فحسب ." ، وهذا هو الواقع المراد إحالته من فيلمه « يوم من أجل ليلة » ; الإنعتاق من القلق المستمر الذي يزامن فترة التصوير ، المحفوفة بالمشاكل والمنعطفات المدوية نحو الفشل ، يظهر من خلاله التقويضات التي تحاصره من جهات مختلفة ، يحتفي من خلالها بمصاعب مُخرجين آخرين مثل " فيدريكو فيلليني " عِندما كان يلجأ إلى إستعمال ممثليه الأرقام في تأديتهم للأدوار بدلاً من الحوار الذي ينسوه بشكل متواصل ، كما في فيلمنا هُنا عِندما إقترحت الممثلة " سيفيرين " ، دائمة الإرتباك أثناء التصوير وتنسى مُعظم حواراتها ، على المخرج " فرند " بأن يقوم بإستعارة أسلوب " فيلليني " للأرقام وإعادة دوبلاجها بشريط صوتي لاحقاً ! ، بالإضافة للعلاقات المُتشابكة وراء الكواليس بين طاقم العمل والممثلين والمخاضات العاطفية لحياة كل منهم وماتعكسه على أجواء التصوير وكيف يمكن للمخرج أن يُجابه مد التيارات العكسية تلك ، من خلال توفير بيئة صحية لممثليه يؤدون من خلالها أدوارهم المطلوبة على أكمل وجه . ثم ينقل عدسته إلى التحضيرات الأولية من مُعالجة " السيناريو " وكتابة حوارات تعزيزية ، وإستقطابه قوى الاجتهاد في تلبية حاجات ممثليه ومُتطلباتهم بشكل يتوازى مع سياق النص وحيويته ، ناهيك عن الأدوات العضوية التي تتعلق في بيئة الكادر وتصميمات مواقعه والرجالات المُشتغلة عليه ، من تآلف ألوان و"موديلات" أزياء إلى أصغر الأمور كالنثريات البسيطة ، يجمعها المُخرج كـ "قطع الليغو " بمهنية عالية ، لا تبتر من سياقه ولا تُزهق من رؤيته النهائية . يُجيب " تروفو " على سؤالنا السابق ( ما تعريف المُخرج ؟) : هو شخص يسأل اسئلة عن كل شيء ، ويعرف البعض منها فقط .
لم يمنع الوضع التسجيلي الذي شهده الفيلم من أن يحوي حِكاية درامية جميلة ذات قالب كوميدي ومُعطيات مشهدية تعزز من فعالية الرواية ، تدفق العاطفة والدراما كان واضحاً في مجرى أحداثه ، وهذا يتضح في تشابك العلاقات بين طواقم العمل ، والعمل على إخضاع الممثلين إلى عوامل قسرية تُجبرهم على إتخاذ قرارت أو سلك طرق تزيد من تأثيرها على المُتفرج ، وتعمل على فرش صعوبات حقيقية أمام المُخرج وكيفية إيجاد البدائل الفورية والتي تخدم سباق الزمن الذي يخوضه على مضمار ضيَق من المطالبات والتحميلات ، كان من بينها اللجوء إلى إستخدام ممثلة بديلة للرئيسية وجلب أخرى تعافت مؤخرًا من إنهيار عصبي جمعها مع دكتورها في علاقة حب مُبهمة ، ولكنها الأنسب إلى الدور المنشود ، بالاضافة إلى الممثل " ألفونسو " المهووس بالحب وسذاجته ، فتؤثر حياته العاطفية مع مُعالجة السيناريو " ليليان " على فريق العمل ، و"سيفيرين" الممثلة الكبيرة التي هي الأخرى تُعاني من حساسية مُفرطة نظراً لكبر سنها ، فتُحاول إخفاء مشاكلها بتعاطي الخمور والذي بدوره يؤثر سلباً على تأديتها للدور وحفظها للحوارات ، أما الممثل الكهل "الكسندر" فهو الوحيد الرزين بينهم ويتوق إلى أيام شبابه في "هوليود " وتلبيته النداء دائماً بصدر رحب . وباقي مابقى من علاقات غرامية وإجتماعية بين أطراف الأستوديو ومنابت جهوده ، ناهيك عن إحتدام القلق مع المُخرج في عزلته وداخل أضغاث أحلامه نتاج 15 ساعة عمل متواصلة وكأنه آلة ميكانيكية لا تكل ولا تتعب . جميعها إتخذت ميزاناً دقيقاً في عيون " تروفو " الذي طبق نظرية " الميزانسين " لمُعلمه " أندريه بازان " وإشتغل عليها وساهم في تفعيل دورها بأسلوب يخدم أفلام الموجة الجديدة . يظهر ذلك واضحاً من خلال المشهد الافتتاحي تهافته إلى توصيل زمن اللقطة إلى أعلى درجة من الإتقان والموثوقية من خلال اللعب بصعوبة مع بيئة الكادر دون الاستسلام لنظرية " المونتاج " التي تضمر من جماليته وتقتل من روحه .
فيلم « يوم من أجل ليلة » عبارة عن قصيدة شعرية في حُب السينما ، وإحتفاء كبير للمجهود الذي يصرفه المشاركين بها وراء الشاشة ، ودراسة جزئية لطبيعة البشر وجوهرهم داخلها وعلى أطرافها ، فنادراً مايقع الجمهور نظره إلى أبعد ما يراه ، وهو معني بالنتيجة النهائية لما هو مرقوم أمامه ، وفيلم " تروفو " هو توليف شاعري لصناعة الأفلام داخل الأفلام نفسها ، وإعادة خلق لرؤية ذلك الجمهور عن صُناع مُتعتهم . فنرى شغف مخرجه في مُحكم فصوله وأحداثه ، وحب السينما الذي يستشري جسده وتفكيره ، ونراه عازماً الهِمة على تحقيق حُلمه في إطاعة زمن الإعداد إلى زمن الشاشة ، بواسطة إستخدامه المفردات البصرية في التعبير عن ما لا يُمكن تعبيره في مُخاطبة أساتذته وأصدقاءه من المخرجين ; في ذلك المشهد الشغوف الذي يُبرز به " تروفو " إحترامه إلى صُناع السينما ، عِندما ذهب بعدسته إلى لقطة يدنيها من كتب مُخرجين كبار مثل : كتاب « الغدق » للمخرج الاسباني " لويس بونويل " ، « المسيح » للمخرج الدنماركي " كارل دراير " ، « أدبيات السينما » للألماني " إيرنيست لوبيتش" ، « العرض الأول » للسويدي " إنغمار بيرغمان" ، « أفلام غودار» لصديقه " جان لوك غودار" ، « أفلام هيتشكوك » للأمريكي " ألفريد هيتشكوك" ، كتاب المخرج الايطالي " روبيرتو روسليني " ، وكتاب الأمريكي " هاورد هوكس" ، ولا ينسى " تروفو " حُصة فيلم حياته « المواطن كان » للأسطورة " أورسن ويليز " من كعكته الكاملة ، الذي شاهده أكثر من 30 مرة من أماكن مُتبدلة وعيون متغيرة ، يريد منا فهمها ووعيها ، فقد كان يستذكره في أحلامه على طول خط الفيلم مع أضغاثها وإرهاقها المستمر ، مُتأملاً بأن يحقق حلمه في إنجاز فيلماً يقرب من مُستوى « المواطن كان » . ذلك حُب السينما الذي يحمل عشاقه إلى الإستماته في تحقيق حُلمهم بها . وفيلم « يوم من أجل ليلة » هو هدية لكل شغوف في هذا المجال ، ويٌعتبر من أفضل الأفلام إجادة في التحدثت عن السينما وعن شقاء المُخرجين خلفها .
تحياتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.