" إمرأة لا تُريد أن تكون مفهومة " ..
Jules and Jim 1962 - جولز و جيم
• إخراج: " فرنسوا تروفو "
• التصنيف : دراما - رومانس
• حالة المراجعة : بدون حرق
• الكاتب : ليث التميمي
• التقييم الشخصي : ★★★★
ما إن ذكرت على لساني موضوع الموجة الفرنسية في السينما حتى تسارعت إلى ذهني صورة أحد أفلامها المُهمة المُدعى بـ " جولز وجيم " للمخرج الراحل " فُرنسوا تروفو " ، وهو فيلمه الروائي الطويل الثالث بعد تُحفتين أخريات : " 400 ضربة " و " أطلق النار على عازف البيانو " . ظهر هذا الفيلم خلال فورة " المتموجون " الفرنسيون " أمثال : " جين لوك غودارد " ، " لوي مال " ، "ريفيت " ، "شابرول" ، "روهامر" ، وغيرهم من أصدقاء الموجة ، لكن ورغم كل الظروف المُحيطة به ، كان هذا الفيلم يحمل روحاً جميلة في طياته تختلف عن الروح الثورية التي إعتمدها باقي أقرانه من الأعمال المتمردة : ما إذا قارناه بجنون " جين لوك غودارد " بفيلميه : " بيير المجنون 1965" و " المرأة تبقى إمرأة 1961 " . كان " جولز وجيم " هو الأكثر شفافية وأقل حدية وأوسط إختلافاً عن الباقين ، جمع بدوره صنفين سينمائيين في ذلك الزمن : واحدٌ ما قبل الموجة وآخر ما بعدها . وهذا ما يظهر جلياً داخل فٌصوله الدرامية وتوازن سياقه السردي ، فكثير من الأحيان أعتبره واحد من أفضل الأفلام التي إنفصلت عن الماضي ، والتي هزت بدورها جدار " هوليود" الثابت أمام أي تغيَر جذري ، فهو يقع بإعتباره الأكثر تأثيراً من بين باقي الأفلام المُتموجة : نظراً لموضوعاته الحساسة ، والتي كانت صفة سائدة داخل سينماها أيضاً .
"جولز وجيم" حِكاية عن صديقين تغيرت حياتهما بواسطة امرأة تُدعى " كاثرين ". "جولز" الشاب النمساوي القصير ، الهادئ ، وصاحب الشخصية الجذابة ، في حين أن " جيم " هو الشاب الفرنسي ، طويل القامة ، الساحر ، وصاحب الشخصية الودودة . يجتمعون في باريس ، عشية الحرب العالمية الأولى ، فيتشاركان أفكارًا متشابهة وأحلامًا "بوهيمية" - مُصطلح يدل على فئة من الكُتاب والأدباء - مُشتركة تتوحد بكونهما يريدان أن يُصبحا كُتاباً في المستقبل ، وسرعان ما يُصبحان صديقين حميمين ، ليتعرفا فيما بعد على " كاثرين" الفتاة الفرنسية والتي تُشاركهما أفكارهما هي الأخرى ، لكنها تختلف عنهما بكونها ذات طابع حر لا يُمكن تملَكها بسهولة وهذا ما سبب سحرها المبعوث تجاه " جول وجيم " والمُحرك الرئيسي في حبكتنا هُنا . فتدور أحداث الفيلم من خلالها داخل كومة من العثرات ، بين سفرٍ وغياب ومن ثم خيانة . فيلمنا هُنا يمتلك المقومات الأساسية من جعله فيلماً فرنسياً جذاباً : سحر ، مرح ، شجاعة ، حزن ، وحيوية. يتضح ذلك جلياً من خلال شخصياته التي تتشارك مثلث الحب نفسه ، والذي يفضي بمدلوله إلى أن الحياة تجربة والفيلم بالفعل تجربة ، يصور من خلاله إتجهاتٍ لعوالم " جولز" و " جيم" المُنفتحة على مِصراعيها دون حدود ، تعبرها "كاثرين " بحُرية وكأنها هي الحُدود بينهما وإليهما في نفس الوقت . إنه أشبه بفيلم حركي لكن بحركة المشاعر وتردداتها ، نعيش صُعودا وهبوطاً بين مزاجية أبطاله وروحهم الشبابية والمتبدلة ، حتى في إنتقاله بين فضاءات تصويره كانت الحركة حاضرة دون توقف .
على الرغم من عنونة الفيلم بـ "جولز وجيم" ، إلا أنه فعلياً عن "كاثرين" ، هي الشخصية التي نتذكرها أكثر بعد إنتهائنا من مُشاهدته ، والبطلة المحورية في القصة والمُستهدفة من الدراسة النفسانية لدى الشخصية ، فهي تأسرك من خلال حماسها الحضوري والذي يلتزم بدوره تعريفنا المُستمر بها عند كل منعطف درامي . إن ما سبب "جاذبيتها " الكبيرة كإمرأة بين رجلين ، هو رفضها المُستمر أن تكون هامشاً أو مُجرد تلبية لرغبات عابرة ، فهي في كثير من الأحيان تردد عبارة : " أنا لا أريد أن أكون مفهومة " ! . فبالنسبة لـ"كاثرين" تلك العبارة تُلخص ما نحن مُقبلين عليه ، فهي إنسانة تسعى جاهدة إلى إقصاء نفسها عن أي إنفرادية جنسية تجاه أحد أو حتى فِهم كامل لها ، لأن في هذه الحالة بالتحديد سوف يتم إمتلاكها من قبل الآخر ، وهو الأمر الذي ترفض أن يحدث ، حتى عندما تصبح زوجة لأحدهما ، داخل أحداث الفيلم ، تظل عشيقة للآخر ، وهي الحالة الوحيدة التي لا يُمكننا - نحن المُشاهدين - من لوم القدر بظلمه ، لأن " كاثرين " هي من تصنع قدرها ، من خلال ترك عجلة القيادة شاغرة دون توجيه ، وبإعتقادها أن الوجهة الواضحة لطريقها هي وِجهة إلى السجن ، حتى لو تغلف الأخير بقضبان الحب .
في هذا الفيلم يضرب " فرنسوا تروفو" حجرين في خِلقة عصفورٍ واحد ، الحجر الأول كان بمثابة مُحاكاة مِخبرية وطموحات ذاتية تمكنت من جعل شخصية " كاثرين " مُزدوجة التجسيد والتركيب ، فذلك كله كان في سبيل أن تُعبر بأسلوبٍ أو بآخر عن عن الحالة الذهنية للمرأة عند تبادل الأدوار بينها وبين الرجل على أرض الواقع ، في ظل رغباتها المكبوحة في أن تمتلك حرية التنقل بين رجلين يحملون إسمها وليس العكس ، وتملك عاطفتها دون منحها بسهولة كما هو السائد في فهمنا المُبسَط عنها . أما الحجر الآخر فيأتي بمثابة صفعة من تحت الحِزام للأطر التقليدية المُتبعة في السرد عند حياكة الشخصية من قِبل الكاتب ، في سينما ماقبل الموجة ، ولما بعدها أيضاً ، ولتبيان أنه حتى ولو كانت تلك الشخصية من وحي الخيال أو تعبر عن مرحلة تجريبية على الشاشة فإنها لن تظهر بالتركيبة البسيطة كما هي العادة في أعمال " الرومانس " ; التي تُعالج حب المرأة بسهولة مُفرطة وشجن الإستماتة في عشق غيرها ! ، فهذا ما أعطى أداء " جين مورو" عُمقاً كافياً عن تعريف المرأة في الحب ، وهو التجسيد المُناقض لدورها في فيلم " مصعد إلى المشنقة " ، للمخرج الراحل " لوي مال " ، والذي ناقش على هامش عريض حب المرأة ، لكن بالمُعادلة البسيطة .
يعرض " فرنسوا تروفو " هُنا العديد من تقنيات الإخراج التي جعلت من أفلامه وأفلام الموجة موضع إهتمام عند الكثيرين ، مثل : القفزات المونتاجية الغير مُنظمة ، وإطارات التجميد على وجه " كاثرين " تدويناً للحظة إستشعارنا لردة فعلها ، فقد إستطاع " تروفو " من أن يخلق حكاية من رحم الإختلاف الذي وُلد منه مُخرجاً وناقداً ، أراد أن يعيد توزيع القيادة بين الجنسين ويمنحها هذه المرة لإمرأة ، فنجح بذلك ، عِندما إختار " جين مورو " لتقديم دور مُركب كهذا ، نجحت من خلاله أن تُجسد المنطقة المُبهمة في دماغ كل إمرأة ، والذي نصطلح غالبيتنا على تسميته ، مازحين ، بـ " الأعوج " ، ونجحا في أن يُترجما ذلك الإعوجاج على أرضية فيلمية خصبة ، فهكذا مُعالجة لا يٌمكن إحكامهما إلا من خلال هكذا قصة ، غير منطقية وغير واقعية بالطبع ، لكنها في الحقيقة صادقة بمشاعرها وتجلياتها على الشاشة ، تُعالج الأمر من منظور بعيد عن المُشاهد لتعكس نتائجها على القريب منه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.