الأربعاء، 6 يونيو 2018

حلول وحدود بديلة في السينما - مراجعة فيلم Unsane 2018



Unsane 2018 - جنون

•  إخراج : " ستيفن سوديربيرغ "
•  التصنيف :  رعب- إثارة
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي★★★



في الوقت الذي يسعى من خلاله مُخرجون كِبار أمثال : « كوانتين تارانتينو » ، « بول توماس أندرسون » ، ومؤخراً «كريستوفر نولان » مع فيلمه التجريبي « دنكرك » ، إلى أن يُحافظوا على الإرث السينمائي في ميادين تخليق الصورة السينمائية ووسائل عرضها على الشاشات بأعلى المواصفات وأضخم المعدّات ، والداعم أغلبها لتقنية الـ «70 ملم »  الخاصة بالشريط السينمائي الدوّار ، لما تملكه من قُدرة على توليد صورة سينمائية ساطعة في الوضوح وعُمق بؤري عالٍ في الدقة . والمصحوبة بجهود مُبتكريها ، الذين سعوا في الماضي من أجل الوصول إلى أعلى درجاتٍ من السحر والجمال اللذان تخلقهما التجربة السينمائية وما يتبعهما من تماهٍ يحصل مع المُشاهد بشكل يتفوق على أيّ وسيط مرئي آخر . يأتي على النقيض تماماً ، صُناع أفلام ، عصريون ، يتناولون الأمور من موقع الشد العكسي لتلك التيارات الباحثة عن الجماليات ، وينهضون بضرورة تحقيق الأفلام بصورة أكثر عملية وواقعية لظروف العمل عن طريق ما هو مُتوفر من تِقنيات بسيطة و سهلة التناول في الوقت ذاته ، بحيث تفرض بدورها وِئام حقيقي بين ما تُقدمة من جودة وإنتاجية عالية وبين ما تفرضه الميزانيات المحدودة من تحديات صعبة تواجه المبدع صانع العمل .

فيلم « جنون » الذي قام مُخرجه بالوقوف على قراراتٍ صعبة قادت ، بمهنيته العالية ، إلى تصوير فيلمه بالكامل بواسطة كاميرا هاتف : « Iphone 7 Plus » دون استخدام أيّة معدات رقمية « ديجيتال » مُساندة ، هو مثال صارخ على هذا النوع الذي يكسر القواعد الكلاسيكية في سبر مفاهيم التخليق الصوري في السينما وحاجتها إلى تِقنيات لا يصلح الشروع في العمل إلا بواسطتها ، وينصرف نحو استثمار المُعطيات المتوافرة أمام صانع العمل من أجل تحقيق مشروعه السينمائي واستمراره في مسعى طموحاته .

مُخرج الفيلم « ستيفن سوديربيرغ » الذي عاد مؤخراً من تقاعده العام الماضي مع فيلم « لوغان لاكي » ، بُطولة كلٍّ من : « تشانينغ تاتوم » و « دانيال كريغ » ، وبميزانية مُتوسطة تحمل فلسفة الأفلام المُستقلة . يعود بعد أن أدار ظهره إلى استديوهات « هوليود » قبل أربعة أعوام عقب عرض فيلمه « أعراض جانبية » ، على خلفية مشادّات إبداعية بينه وبين جِهات الإنتاج إزاء هيمنة تلك الأستديوهات على المناخ السينمائي وتقويّضها من حُريات المبدع وفُرص اجتهاداته التي يبغى في الوصول إليها أو تحقيق جزء منها ، فلا ترى فيه سوى موظّف يُشرف على تلك العطاءات التي تفرضها وتقتسم أرباحها فيما بعد . حيث صرّح سابقاً : "أسوأ تطور في صناعة الأفلام خاصةً في السنوات الخمسِ الماضية هو مدى السوء الذي وصلته مُعاملة المخرجين" . وأضاف : " أصبح الأمر فظيعاً بالطريقة التي يقرر بها الأشخاص الذين يمتلكون الأموال بأنهم يستطيعون أن يندفعوا في تلك الصنعة ويُهيمنوا على جميع مُخرجاتها ، وأستغرب من حقيقة أن المُخرج يُلام دائماً ويقف بوجه المدفع أمام تلك الجهات على إعتبار أنه يعمل بطريقة لا تتوافق مع ميول الجمهور ، ويتناسون بأن المُخرج ، في يومٍ من الأيام ، كان ينتمي إلى هذا الجمهور ".


" سينما عصرية تتناول موضوع عصري  "

رغم أن البُطولة في هذا النوع من الأعمال يتم تنسيبها مباشرة إلى مُخرج العمل في المقام الأول ، إلا أننا لا نجد ضرراً من التعريج على المواضيع الدرامية التي يتناولها ، ونحن هنا بصدد الحديث عن قضية مهمة تُدعى بـ « التحرش الجنسي » الذي يواجه المرأة في شتى مناحي حياتها العملية كانت أم الاجتماعية ، وهي قضية في الأصل تم اعتمادها مؤخراً بتوصيف الـ « شائكة » بالنسبة إلى الغرب الهوليودي ، تحديداً ، عندما تكاتفت الأيدي النسوية وخرجت من عباءة الخوف حاملة معها شعارات رنانة مثل : # MeToo  تصدح في الأرجاء وتشجب المنابر الإعلامية والأبواق السياسية ، بعد أن كانت ترزح رُعباً وصمتاً أسفلَ سُلطةٍ من الرجال المُتنفذين والشخصيات البارزة في مجال الصِناعة . لذلك قد يجد عندها نُقادهم مادة كتابية مُثمرة ، أما نحن فنكتفي بالقشور المُهمّة .

يتناول الفيلم أحداثه شخصية « سوير فالانتين » ، وهي امرأة شابة وعاملة تسكن في مدينة « بوسطن » الأمريكية وتعمل هناك كمحللة بيانات في مصرف بنكي ، وهي بعيدة عن والدتها القاطنة في مدينةٍ أخرى . تعيش « سوير » حياة على أعتاب ماضٍ قاسٍ يحمل تخوّفاً من شاب يُدعى « ديفيد روسل » الذي كان يُلاحقها ويترصدها بين الفينة والأخرى طلباً لحبها وبغية حصوله على قلبها في نهاية المطاف ، فيتشكل لديها ذلك النوع من الهواجس والاضطرابات المُصاحبة لها في أيّة علاقة جديدة تلِجها ، فترتسم صورة ذلك الشاب في كلّ مكان تقصده . ولأجل التخلص من تلك الكوابيس قامت باللجوء إلى مُستشفى الأمراض النفسية في مدينة « بنسلفينيا » يُدعى « هاي لاند كريك » ، من أجل القيام بفحص سريري عن طريق دكتور مُختص ، فتصطدم مع حقيقة أن المُستشفى أمسى يحتجزها رغماً عن إرادتها ، ولأسباب مُبهمة ، لتتفاجىء فيما بعد أن ذلك الشاب أيضاً يعمل ممرضاً هناك ، وتبدأ من عِندها المأساة الحقيقية في مُواجهته وصدّها له والهروب من مطارداته المستمرة ، من جهة ، وإثبات سلامة صحتها النفسية والذهنية أمام إدارة المُستشفى من جهةٍ أخرى .


" إستكمال لا استحداث .. إنتعاش لا اندهاش "

لا يُمكننا القول بأن عمل المُخرج ينتمي إلى المدرسة التجريبية أو اعتباره « سينما طليعية » بأيّ صورة ، ذلك أنه يفتقر إلى مناخ الحقل من أجل التجريب . هناك أمثلة كثيرة يُمكن إسقاطها على تجارب سابقة قامت بإختزال تجربة الكاميرا البسيطة : « بلير ويتش بروجيكت » ، « ريك » ، « بارانورمال آكتيفيتي » ، « كلوفارفيلد » ، والعديد غيرها ، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني وما يُحاذيه من تطور تكنولوجي ساهم في رفد السوق العالمية بمعدّات حديثة وسهلة التناول - مسألة وقت ليس إلا . وعلى أساسه ، تنطلق الرؤية الفعليّة لهذا العمل من حاجة صانعه الملّحة لما تعرّض له من ضغوطات اقتصادية أكثر من اعتبارها أهداف مخبريه بحتة تُقدم رؤية مُغايرة للأعراف السائدة أو تخرج على التقاليد المُتعامل معها في كواليس الإنتاج ، سواء تلك التي على مستوى السرد أم على مُستوى التكوين . فالفيلم يفتقد للأصالة من باب أوليّ : الحبكة تقليدية والسرد خطي والأحداث نمطية ، وفي كثير من الأحيان يتوجب عليك وضع المنطق في دُرجٍ ومن ثم إغلاقه ، ثم إنه لا يمتلك تعرّجات أسلوبية ولا قراءات سفلية بعينها تُبرز من خلالها منظوراً صلباً للموضوع الراهن أو تقديم مُعالجة غير مألوفة . أما من ناحية التكوين فالعناصر ذاتها : من حيث تصميم الكوادر وإدارة المُمثلين وزوايا إلتقاط الكاميرا وفلسفة المونتاج ، فلا ترتسم على مخارجه أية نبوءة لأنماط فنية ترتاد آفاق جديدة .

لكن على الجِهة المُقابلة ، ودون إجحاف يمكن أن يُسيء فِهم سطورنا السابقة ، يقف هذا الفيلم أمام تحديات واجهت المُخرج وتمثلت كالشوكة في خاصرته : من حيث الحاجة الماسّة إلى أسلوبية جادة من أجل إخضاع جميع عناصر التكوين السابقة التي عملت بسلاسة مع الوسائل التقنية المُتقدمة من كاميرات ووسائل إنتاجية تقليدية ، وحصرها هذه المرّة داخل إطار الشاشة في الهاتف الصغير ! . لأن الفيلم في هذه المواقف يحتاج إلى صياغة دقيقة وحساسة ، أكثر من اللازم ، من حيث تصميمه لزوايا التقاط الكاميرا وتعيين الإضاءة المُناسبة وحركتها وقدرتها على إضفاء قيمتها التعبيرية الخاصة بعيداً عن استئنافها داخل غُرفة المونتاج ، ذلك أن ما توفره الكاميرات الضخمة من إمكانيات كبيرة تُساعد العمل المونتاجي على سد الثغرات في الإضاءة ومرشحات اللون ، لا توفره كاميرا الهاتف في أفضل الأحوال ، لذلك وجب أن يكون العمل الحقيقي في خِضّم العمل الميداني أثناء التصوير وليس ذلك الذي يقبع في مراحل إنتاجية لاحقة . فكانت النتيجة مُبهرة وصائبة في تحقيق غاياتها ، بحيث جعلت من الصعب إدراك حقيقة أن ما تم عرضه أمامنا ما هو إلا مجرد عمل الكاميرا في الهاتف المحمول . رُفِعت القُبعة .


أما في الحديث عن الأداءات التمثيلية فنحن أمام موهبة قوية وساحرة وقبل ذلك كله ، ناضجة ، تُدعى : « كلير فوي » ، استطاعت من تقديم شخصية « سوير فالانتين » برفاهة عالية تنضح من قدرتها على تقديم ألوان تجسيدية تدرجت ما بين التمكّن والإجادة ، ومن ثم استطاعت التأرجح بأريحية في تقديم انطباعاتٍ تعبيرية مُختلفة داخل المشهد الواحد . « كلير فوي » التي شهدناها مؤخراً مع مسلسل « التاج » الذي تم عرضه على شبكة « نتفلكس » ، لا يفصلنا الكثير عن إمتثالها أمامنا مجدداً في «أكتوبر » المقبل من خلال دورها في فيلم « أول رجل » ، حيث ستظهر بشخصية «جانيت آرمسترونغ » : زوجة « نيل آرمسترونغ » ، الذي يؤديه النجم « رايان غوزلينغ » أيضاً بقيادة إخراجية كاملة تسلّمها أصغر شاب حامل للأوسكار : « داميان شازال » ، الذي شهدنا معه في السابق طفوح في المواهب المُساندة ومقدرته على تتويجهم منصات الترشيح الأوسكارية باستمرار ، وليس بالبعيد أن نشهد ترشيحاً لهذه الموهبة في أوسكار العام المقبل ، لأن ما أنتجته حتى الآن يفيد بأنها قد نضجت فنياً .

« جنون » هو إنجاز آخر يُضاف إلى موسوعة « ستيفن سوديربيرغ » المُتميزة ، لأنه عمل يُثير الإعجاب والاحترام ، ويلزم حضور صانعه كسينمائي حُرّ ، لا تُقيّده عراقيل ولا تُرهِصه ضغوطات ، وفيلمه هذا خير دليل . بيد أنه يعكس تجربة ناجحة تُعيد النظر في الاعتبارات عند بعض صُناع الأفلام المتواضعين كانوا أم المنبوذين : من يتوانون أمام المُعوقات التي تحول بينهم وبين تحقيقهم لمشاريعهم الفنية  . وكلّ ذلك من أجله النهوض من براثن الحسرةِ والانهزام و تحقيق إنجازات جريئة وأساليب جديدة وبتمويلات منخفضة الميزانية تُتيح لهم القدر الأكبر من استثمار الطاقات الإبداعية المتجددة ، وتُكافح بدورها العديد من تلك الأفلام الباهظة في الثمن والميزانية ، ما إذا قارنّاها مع أفلام تمتلك نفس المستوى لكن بميزانيات مُنخفضة  .


تحياتي

-----

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.