الأحد، 8 أبريل 2018

مراجعة فيلم You Were Never Really Here 2017


" رحلة بين شظايا الذاكرة " ..

You Were Never Really Here - أنت لم تكن هُنا حقاً


•  إخراج: " لين رامزي "
•  التصنيف : تشويق - غموض - دراما
•  حالة المراجعة  :   بدون حرق + حرق النهاية
•  الكاتب  : ليث التميمي
•  التقييم الشخصي :   ★★★★


غريب الوطأة داكن الحِكاية ، يحوي كل شيء وهو عن كل شيء , " انت لم تكن هنا حقاً "  يُعزي بجوهره إلى وحشية آدمية مُتأصلة ، يصحبنا برفقته داخل دهاليز الذاكرة لشخصية متألمة ، داخل جهازها العصبي  ، نختبر مراكز إستشعارها ، في الفعل ورد الفعل ، نكوَن صورة مجمعة من قُصاصات متفرقة لنرسم الألم على قماشة باردة . هو عن البقاء وغريزة البقاء ، عن الألم وإمتصاص الألم . مخرجة العمل ومؤلفته " لين رامزي" تعود لنا بعد " علينا التحدث بشأن كيفن " بقطوع مشهدية صارخة في المعالم وكأنها تولفت من شريط ذاكرة مُنهك من دورانه ، تسرقك إلى عالم من الألم والفساد والصدمات القاسية مع بزوغ باهت للأمل في نهاية النفق المظلم . إنه أشبه بنوبة كوابيس غريبة تصاحبك وأنت تشاهده ، تصحبك داخل هذا الجسد وتلك الروح المدمرة عن بكرة أبيها .

حكاية الفيلم ترمي بسخطها على عالمٍ قميء ، بقيادة رجل وُلد من رحم القمىء نفسه ، من خلال إطارات تصويرية متعامدة يبتدأ بها الفيلم أحداثه دون إستفاضة واضحة ، تقوم " لين رامزي" بحجب الشروحات وتجبر المشاهدين على الشعور بما يحدث بدلاً من محاكاته ،  لنعلم أن "جو " هو أحد المحاربين القدامى ( الناقمين) الذي يعمل قاتلاً مأجوراً لدى لدى إحدى المنظمات السرية التي تسعى من أجل إنقاذ الفتيات القاصرات من جماعات الإتُجار بالجنس . ليتولى " جو" فيما بعد مهمة جديدة تهدف بإنقاذ فتاة تُدعى " نينا" ، وهي إبنة أحد سياسي المدينة المرموقين ، ليتحول مسار حياته رأساً على عقب إثر قرارت مُتطرفة تُصاحب عملية الإنقاذ تلك وتغير مجرى حياته وتضعه بين كرٍ وفر : واحد بين نفسه وصراعاتها والآخر بين مُحيطه المليء بالمجرمين . فهل سيتمكن العبور خلال تلك العقبات ؟ .

سيناريو الفيلم الذي قامت بكتابته " لين رامزي" والذي فازت عنه أيضاً بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان " كان" السينمائي خلال دورته السبعون العام الماضي ، يستند إلى رواية تحمل نفس الإسم للكاتب " جوناثان إيمس"  . يعتمد  النص على الصِيَغ النفسية في سرد الحكاية ، وكأنها ترجمة سوريالية لـ " ميكانيزم" أو "آلية" توليد الذاكرة للصور المخنوقة في جوف عقلنا الباطن ، بالإضافة إلى الجهد المكثف بعمل المونتاج والتوليف الصوتي والموسيقى التصويرية ، حيث كان جميعها يعمل داخل نظام هيكلي قائم بحد ذاته ، إستطاعت من خلاله " لين رامزي" ، بحرفيتها العالية ، أن تخلق حالة من الأرق بدلأً من أن تكون عن الإنتقام وحده . نشهد من خلاله تراجعاً واضحاً في القيمة الترفيهية والإستغناء عن عاملي الترغيب والإفصاح ، مع نهوض قائم في الدراسة التشريحية لمادية الألم ومعنويته لدى صاحبه .



" أنت لم تكن هنا حقاً " يستند بأساساته إلى أفلام "النوار" التي إشتهرت بها أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ، والتي تحول إسمها فيما بعد ، في أفلام " التكني كلور " أو " الملونة " ، إلى مسمى " النيو-نوار" أو " النوار الجديد" . تلك الأفلام عادة ما تحمل قضايا " سايكولوجية " تسيطر على البطل المركزي في الحكاية ، الذي يمارس دور المجرم والمنقذ على حد سواء ، بين خطايا الماضي وثواب الحاضر ، يقف على شعرة فاصلة بين الخصلتين ، بين الامتثال إلى قانون الفضيلة أو العزوف عنه بقانون الغاب والغرق في وحل الرذيلة . تُناقش هذه الأفلام من منظور شخصياتها التي تعيش في الظل وفي حالة من التأزم والنفور  واقعاً أليماً يعكس بدوره إما عن عدالة غائبة أو فساداً متفشياً بين أوساط شعبوية أو حكومية مجتمعة ، وتلقي بظلها على الهواجس النفسية والتفاقمات العاطفية لدى ماضيها الأليم إثر تجارب خاضتها أو تنشئة قاسية زادت في تحاملها ، والتي تفضى بدورها إلى إستعمالها كبيادق بيد أعداءها ، دون وعي ودراية ، فيسهل توجيهها و تُكثف سجالاتها  وفي الغالب تقودها إلى الإنتحار .  في هذه الافلام ، خاصة ، تلعب المرأة دوراً محورياً في القصة ، إما لعوب أو بريئة ; اللعوب تُمارس "إغواءً" بهدف توجيه البطل إلى غايات شيطانية أو إبتزازه عاطفياً ، باستثمار ثغرة في شخصيته تنفذ منها إلى فضاءه الاوسع وتجول داخله في حرية أكبر مُتقلدة بدورها مفاتيج قيادته ، أما البريئة فـ تفتن البطل بوجهها البريء وعاطفته النبيلة عند إلتقاء أرواحهم وأجسادهم ، لتقود في النهاية إلى تماثلٍ في الأفكار أو الإهتمامات أو الأنماط السلوكية . في فيلمنا هُنا يتسق النص بمنظوره إلى منطقة البراءة المُشتركة بين الشخصيتين الرئيسيتين ، شخصية الضحية وشخصية المنُقذ أو المجرم بصفة مشتركة ، حيث أن الشخصية الواحدة تجد في الأخرى صورة مُستنسخة لها وكأنها تقف أمام مرآة تعاكسها وتكشف إحتضاراتها وعيوبها ،  فيُحاول أحدهم تعويض نقصه في الآخر - العكس صحيح ، وكل ذلك في سبيل تحقيق غاياتهم المُشتركة وخفض من أعباء عذاباتهم  .

في هذا الفيلم تحصد " لين رامزي " ثمار تعبها حصيلة ثنائيات مُتساوية في أربعة أفلام كاملة ، فيلمين قادتهما أداءات نسائية ( مورفيرن كولر & علينا التحدث بشأن كيفين) ، وآخرين قادهما رجال ( صائد الأرانب & أنت لم تكن هنا حقاً ) . وبذلك تصنع ، بدورها مُخرجة تنتنمي إلى الضلع النسوي في " هوليود" ، سينما تشاركية بين نساء محطمة ومايقابلهم من رجال محطمين  ، بعودتها هذا العام برفقة المُحطَم والمُحطِم " واكين فينيكس " خلال أول عمل مشترك بينهما  ، والذي حصد عنه الأخير ، بجدارة ، جائزة أفضل ممثل رئيسي في مهرجان " كان " السينمائي خلال دورته الـ70 في العام الماضي . لنرى بأم أعيننا النتيجة الفائضة من توقعاتنا بهذا الأداء المُتمرس بحِرفيته ، الذي يُشهد عليه جمهوره بحيويته ومباغتته وإقصائيته الذاتية ، وإنسلاخه عن أي صورة رأيناه بها سابقاً . " واكين فينيكس" في " أنت لم تكن هُنا حقاً " ; عيناه تتحدث ، جسده يتحدث ، هالته تتحدث ، هذا الرجل مُبهر ، قدم أداءً داخل آخر لا يشوبه إخفاق ولا ضعف . في السابق كنت أشك بحقيقة أن تلك الموهبة لم تُمنح كامل طاقتاتها ، لكن بعد هذا الفيلم شاهدتُ شكوكي تتحول يقيناً ، فقد كان إختياره من قبل " رامزي " صائباً وحساساً ، وأسهم بفعالية في إجلاء روح الحكاية إلى الحافة وإصقالها بإجادة على مُسطَحِ الشاشة .


يمكن تلخيص فيلم " أنت لم تكن هُنا حقاً " إلى خط مُتقطع ، الحبكة تقليدية والأحداث تسير داخل مجرى بإتجاه واحد ، لكن " لين رامزي" قامت بتقطيع ذلك المجرى إلى محطات إستراحة تُعيد ترتيب أولوياتها لخلق صورة تخرج عن إطار المُتوقع ، لنجد أنفسنا أمام فيلم يُعيد رسم نفسه من إتجاهات مُختلفة وزوايا مُتنوعة ، وهذا الأمر ينطبق على جميع الأدوات المُستخدمة  من جهتها : إبتداء من فريق التمثيل ، مروراً بتوظيف شيفرات النص ، وإنتهاءً بفريق العمل . وجه "واكين فينكس " التعبيري ونبرته الهادئة ولحيته المكثفة عكست بدوره رجلاً انسحب من العالم ، الشخصيات عند " رامزي " تُحاول البحث داخلها عن حُلول أخرى ومسالك مُتعددة عند إتخاذ القرارات ، فنرى " جو " يهوى جلد ذاته إمتثالاً للموت في أي لحظة تسنح له بالإقدام عليه ، لكن هنالك شريط حياة يشتغل عند إلتقاطه أنفاسه الأخيرة ، ويقطع به حبل الموت ، فيعيده إلى رشده في المضي نحو تحقيق طموحات نبيلة وأهدافٍ أسمى . والأمر ينطبق أيضاً على الفريق التقني في إستلهام مادة النص من أجل التصميم الصوتي للمُحيط الخارجي الذي يُشارك " جو " همومه الملقاه على عاتقه ، ولا ننسى قطع المونتاج الحاد مثل طرف السكين ، الذي جعل من فيلمنا يبلغ مراتباً عُليا بتفرده في المزج بين لقطاتٍ طويلة وتأملية وغير مستعجلة وأخرى صاخبة بلقطات خاطفة دون أية إيحاءات أو تلميحات ، ناهيك عن دور الموسيقى التصويرية التي إستخدمت كأدة تجريدية في رسم تشويشاته الدماغية من خلال أصوات قبيحة ومزعجة بالتماهي مع أخرى شاعرية وموسيقية . جميعها تعمل ضمن نواميس إخراجية تُظهر الفُصام الوظيفي داخل خلاياه الدماغية وتعطي الضوء الأخضر في تفحص "سايكولوجي" لمناحي شخصيته  .

فيلمنا هُنا " يحمل في طياته روح " ترافيس بيكل" الثورية ضد المجتمع في ( سائق التاكسي ) ،  شخصية " السائق"  ولا إنتمائيته في ( قد) ، لوثة "نورمان بيتس" العقلية في (المعتوه) ، قلق " جي جي غيتس " في ( القرية الصينية ) ، همسات وأصوات نسوية " بيرغمان في ( صرخات وهمسات) ، إستسلام " جيسي " للجانب الشيطاني في ( النيون الشرير ) ، والكثير الكثير من الأنماط المُتشابهة والإستعارات الحاضرة ، لكن ورغم ذلك كله ، يظفر فيلم " أنت لم تكن هنا حقاً " بنفسه نحو إستقلالية نادرة في الوسط ، نابعة من قوة التجسيد لدى " واكين فينكس" وأسلوبية المُعالجة لدى " لين رامزي"  .



تحذير : حرق النهاية :



لا يمكننا التكلم عن فيلم بوزن " أنت لم تكن هُنا حقاً " دون التحدث عن نهايته الغريبة والمشوشة بعض الشيء عند الذين شاهدوه ، دعوني بداية أوضح بأن النهاية مفتوحة وبطبيعة الحال تُركت للمتلقي ، وهو أسلوب نبيل يفصل الكاتب القوي عن الجيد ، ورسالة نبيلة من خلاله لصياغة تغذية راجعة خاصة لدى المُتفرج ، بإسقاطها على قراراته وتفكراته وتسمح له بالتأمل أكثر في مُعطياته بفراسة أكبر . لذا فالتحليل القادم يعبر عن تحليلي الشخصي للنهاية ، من المحتمل الإصابة ، ومن المحتمل الفشل  :

في البداية ، تُعد نهاية الفيلم من النهايات المُقلقة وعززت بدورها القلق الذي صاحبنا على طول خط الفيلم ،  فبعد أن قام " جو" برفقة " نينا" من التخلص من أعداءهم ، ذهبا معاً إلى المطعم لنرى " جو " يتحدث عن الخطوة القادمة مع " نينا" : " أين ستذهبين" في جو مشحون بالغموض ، لكن سرعان ما ترد عليه " نينا" بـ: "لا أعرف" ، فتذرف عيناه دمعاً  ، ومن ثم تذهب "نينا" إلى دورة المياه ، ليتأمل من بعدها " جو " محيطه ويفكر ملياً داخل قوقعته ليخرج بعدها مٌسدسه ويطلق على رأسه رصاصة تنتهي بموته ! ، ثم بعدها نلاحظ أن لا زبائن المطعم ولا نادلته قاموا في الإلتفات أو تبيان إهتمامهم لما هو حولهم ، وأكملت الحياة مسيرها دون توقف ، بالطبع هو مشهد سوريالي يحمل شروحات ورمزيات عدة ، ثم بعدها نذهب إلى لقطة متتابعة لنرى عودة " نينا" إلى " جو " ونلحظ أن " جو " كان نائماً فاستفاق من غفوته ، أو أحلام يقظته ، ومن ثم تخبره " نينا " : "إنه يوم جميل " ، فتبتسم " نينا" ويرسم " جو" على وجهه نظرة تهكمية ، لينتهي بعدها الفيلم دون أن يُقدم المزيد .


في العودة إلى أحداث الفيلم ، لاحظنا دائماً إقدام " جو " المُستمر على الإنتحار بغية التخلص من عذاباته وصراعاته النفسية ، إما عن طريق " كيس بلاستيك " ملفوف حول وجهه ، أو عن طريق " سكين حاد " يلعب به لعبة الحظ إما تقتله وإما لا ، أو مشهد الغرق الذي نزل به إلى الماء ، أو في مشهد الرجل الذي قتله وكان يُريد أن يستغل تلك اللحظة في مُجارات موت الآخر لتقديسه سكرات الموت التي يحاول أن يسعى طلباً لها كل يوم . في جميع تلك المشاهد نرى " جو " بعدها يعود إلى رشده دون إرادة إلى واقعه ، وكأن هُنالك صوت في الخلفية يُناديه ويمنعه من الإقدام على الموت وقتل نفسه ، لنرى بعد كل مُحاولة إنتحار عودة يحقق بها إنجازاً سواء من تأديته لمهامه أو رعاية أمه . في ظل تلك المشاهد المأساوية والمظلمة في حياة " جو " تحاول " لين رامزي " من خلال تلك العلامات في النهاية من رمي طوق النجاة والأمل المفقود عند كثير من أصحاب الإكتئاب والمعذبين في الأرض جراء مشاكل نفسية ضخمة ، وكأنها دعوة غير مباشرة في المضي قدماً نحو معنى أسمى في الحياة ، " إنه يوم جميل" وجديد أيضاً ( "نينا" تُخبر "جو" ) فلا أحد يستحق موتك ولا أن تذرف دمعة ولا تنزل قطرة دم في سبيله ، إلا إذا كانت أهداف نبيلة ، فأنت وحدك وستظل وحدك في تعاستك ، لن يلتفت إليك العالم حتى في موتك ، تعيش داخل كومة من البشر تتصارع على حب البقاء ، عش حياتك ستجد من يمحو الوهن عن قلبك ، حقق أهدافك ، بدل أن تزهق روحك التي يجدها فيك الغير أملاً وسبيلاً للنجاة .


تحياتي

هناك تعليقان (2):

  1. رائع ومتميز كالعادة
    الي رجعة اكمل جزء الحرق ^.*
    يعطيك الف عافية

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.