U - July 22 2018 - أوتوايا - 22 يوليو
• إخراج : إيريك بوبي
• التصنيف : دراما - إثارة
• حالة المراجعة : بدون حرق
• الكاتب : ليث التميمي
• التقييم الشخصي : ★★★★ (ممتاز)ساعة ونصف؛ ليست المدة الزمنية التي تم عرضها من فيلم «أوتوايا - 22 يوليو» الجديد للنرويجي «إيريك بوبي» في مهرجان «برلين» الماضي فحسب، بل هي المدة الفعلية التي استغرقها الهجوم الثاني على جزيرة أوتوايا - قرب العاصمة النرويجية «أوسلو» - الذي اشتق منه الفيلم أحداثه بعد الهجوم الأول الذي استهدف مبنى رئاسة الوزراء عام 2011 وأسفر عن مَقتل العشرات من المدنيين والعزّل في الوقت آنذاك. قام بتنفيذه النرويجي اليميني المتطرف «آندرس بريفيك» رداً على سياسة بلاده المتعاطفة مع قضايا الهِجرة والمهاجرين، مكلّفا إياها أضخم مجزرة حصلت في تاريخها.
«أوتوايا - 22 يوليو» هو الفيلم الذي تم عرضه، كما أسلفنا، ضمن فعاليات الدورة الـ68 من مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله) في «فبراير» الماضي، بتنافسه على جائزة الدب الذهبي الكبرى، متناولا تجربة نجاة حقيقية لإحدى ضحايا مذبحة جزيرة «أوتوايا» النرويجية لفتاة تدعى "كاجا". من خلال توثيق محاولاتها البائسة للبقاء على قيد الحياة هرباً من الموت الملاحق لها أثناء الهجوم الإرهابي على المخيّم الصَيفي الذي كانت تُشاركه مع شقيقتها الصغرى، قبل أن تتقطع بهما السبل وتنفصلان في وقت لاحق.
اللقطة الذاتية..واختبار الخطر
في هذه المِحنة، نعيش ونختبر شعور الخوف والخَطر والهروب المدوي للأمام دون توقف. «إيريك بوبي» بكاميرته المحمولة والكاتمة للأنفاس والحاجبة للرؤية، يلقي بجميع شخصياته، والمتفرجين من بعدهم، في قلب الحدث وبؤرة الانفجار. صعوبات تواجهك، أنت كمتفرج، في التنفس والاستكانة أثناء مشاهدتك من وراء شاشة. فما بالك بالذي داخل الحدث وتنهمر عليه نيران الجَحيم دون حولٍ ولا قوة له من تحييدها؟! . تحديداً بأن الواقعة حقيقية وقرار نَقلها إلى الشاشة ضمن لحمة زَمنية واحدة تَحترم الزمن الأصلي، وتنفيذها بلقطةٍ واحدة عارية وعلى نفسٍ واحد، هو قرار فلسفي و أخلاقي في المقام الأول، يوطد من رؤية صانع العَمل في نَقل التجربة حية وصادقة إلى الشاشة، دون مبهرجات ولا توابل. دون تنميط ولا تَجميل. مجرد سيل من الذروات واللحظات الخانقة على طول خطه.
عدسة «مارتن أوتيربيك» لا تتقيّد بمقاليد التوثيق المتعارفة، بل تشمر عن يديها لتنخرط مع الركب الهارب من حتفه. دورها، ذاتي تماماً. شخصية بالكاد تفرّقها عن باقي الشَخصيات - على كَثرتهم - بشيء. نواكب نظرها الملاحق لـ«كاجا». مرة من خلفها ومرة من أسفلها . مرة من فوقها، ومرة بين كتفيها ورجليها. وفي بعض الاحيان نجدها داخل مؤخرتها - إذا لَزم الأمر - بالكاد تختبئ!!. تركض ويرتطم وَجهها على الأرض الوعرة . لتعود متشقلبة من جَديد. الكاميرا هذه المرة، ليست وسيط ينقل إليك الحدث جاهزاً، كما اعتدنا ، بل تمنحك شرف أن تكون مكانها. بعيونك، لا عيونها. بين جيئة وذهاب، بين ترنح واستكانة؛ تركلك - من رأسك حتى قفاك - إلى حافتا الذعر والتوتر.
هدوء ما قبل العاصِفة
الـ15 دقيقة الأولى من زمن الفيلم هي هدوء ما قبل العَاصِفة، لكنها عاصفة في موضوعها الذي يطرق باباً مهماً على الصعيد السياسي الراهن في عالمنا اليوم، العالق فوق بركانٍ ملتهب من الحروب والصِراعات والسياسات الإقصائية المتطرفة، بما ينضوي عليها من مُصطلحات أصبحت فضفاضة مثل «الإرهاب». هذا الأخير الذي أمسى شمّاعة يَرمي عليها المتحذلقون سخطهم تجاه من يُخالفهم. كالحَديث العابر الذي جمع «كاجا» مع أصدقاءها في الدقائق القليلة الأولى حينما وصل إليهم خبر التفجير الأول، والواقع على مسافة بعيدة منهم، مستبعدين بذلك أنهم الوجبة المقبلة في هذا البوفيه الدموي النهم. لينقسم النِقاش بين مؤيّد لنظرية أن المتسبب هم جماعة «القاعدة»، وآخر - العاقل منهم - يعتقد بأن الذي حصل، لربما، يكون نتيجة انفجار لإحدى خطوط الغاز في الحي الرئاسي.
النِقاش يستفهم ببراءة هؤلاء الشباب (مثل أيِّ منا) عن غاية الحرب وأسبابها وتبعاتها، منذ أن بدأت الدول تمارس حروبها بَعيداً عن أراضيها بحجة محاربة الأشباح النازية والفاشية والشيوعية والوهابية، وأخيراً الإرهاب الذي أضحى يحتضن، مما هب ودب، من على شاكلة تلك المصطلحات. ليرد أحدهم قائلاً بأن ما تُمارسه حكومة بِلاده في «أفغانستان» مثلاً، هو قَتل صريح ومتعمّد لا يفرق ما إذا كان القتيل مدنياً أعزلاً أم قاعدياً إرهابياً. وأن الضربات المرتدة التي تتلقاها دول الغرب بعمليات انتقامية ما هي إلا محاربة مضادة (إرهاب مقابل إرهاب) لا يذهب ضحيته سوى الأبرياء. تماماً مثلما حَصل طوال الفيلم. باستثناء أن منفّذ العملية هنا، هو مسيحي أصولي من جماعة النازيين الجدد، الذي يحملون كرهاً وغضباً تجاه الإسلام والمسلمين.
لا لشخصنة الصراع
على مستوى الفكرة، لم يُقدم الفيلم أيّ جَديد خلاف ما تم طرحه في أفلام قامت بَسرد وقائع حقيقية لنختبر خلالها الرُعب من منظور شَخصياتها، إلا أن حِنكة المُخرج ووقوفه على قراراته في مَنح الفيلم أسلوبية مُعالجة ناضجة في طريقة العرض التي لا تُشخصن الصِراع أو تشيح بنظرها عن الشخصيات في سبيل معرفة هوية المنفذ للعملية ولا من أين تأتي النيران، بل أتت لتتستعيض عن ذلك كله بالتغريب التام، بعيدا عن المعايير المبسترة مثل الأسود والأبيض والخير والشر. فالمسألة، مسألة نجاة واختبار أن تكون ضحية لأجواء لا يربطك بها أية صلة؛ لا من قريب ولا من بَعيد. تماماً مثلما يَحصل بعالمنا العربي ومايرتد به على الغربي.
الاستجداء بالأحبة... وقفة حداد
في الحديث عن الأداء الرائع من قِبل الممثلة النرويجية «آندريا بيرتزين». في أول تَجربة لها على الشاشة نَجحت في إجلاء التعابير الجسدية والنفسية لدى فتاة هلعة، قلقة على أختها الصَغيرة، خائفة ممن يترصدها في أيّ لَحظة. علاوة على ذلك، أنها أعادت لنا قيمة الاستجداء بأمهاتنا وقت الخوف، بنبرة صَوت مخنوقة وحزينة وخافتة؛ تتصل «كاجا» بأمها أسفل النيران مستنجدة بعبارة :"ماما ماما.. أنا خائفة.."!. العبارة التي لازالت عالقة برأسي وبصورة لم أختبر بمثيلها على الشاشة.
فيلم «أوتوايا: 22 يوليو» هو فيلم خانق إلى أبعد الحُدود. لا يُنسى ولا يحذف من الذاكرة. حزنه الشديد يتسرب اليك حتى مع نزول تترات النهاية التي ينتهي عندها الفيلم بشاشة سوداء جنائزية يتزامن معها صوت الخلفية عقب النِهاية المأساوية. والتي عبّر عنها صُناع هذا الفيلم فنياً في لحظة حَداد وصمت على أرواح الضحايا.
تحياتي